
تحرير: جيهان مشكور
من داخل قاعة لجنة العدل والتشريع بالبرلمان، حيث يُفترض أن تُكتب القوانين بمداد النزاهة و المسؤولية، خرج صوت يزعج الصمت المريب.. حين كشف النائب سعيد بعزيز، رئيس اللجنة، عن ما يشبه “السرّ العلني” و تحدث عن تحرّك لوبي الفساد داخل البرلمان نفسه، في سابقة لا تثير الدهشة بقدر ما تفضح الواقع.
فساد يرتدي بذلة رسمية
لم يكن حديث بعزيز مجرد زلة لسان سياسية، بل شهادة من داخل المؤسسة على أن الفساد في المغرب لم يعد يتخفّى خلف مكاتب الإدارة أو صفقات المجالس المنتخبة، بل تسلل إلى عمق العملية التشريعية نفسها، حيث تُفصّل القوانين على مقاس اللوبيات..
و أوضح أن النقاش داخل لجنة العدل والتشريع حول مشروع قانون يتعلق بحوادث السير “تحوّل” قبل أسبوعين فقط، إلى ساحة صراع بين من يدافع عن مصلحة المواطنين ومن يحمي مصالح شركات التأمين الكبرى.. لتتحول النصوص القانونية إلى صكوك غفران لفئات محددة، تدفع وتُربح وتُبقى فوق المساءلة.
قال بعزيز بصراحة نادرة في مداخلته: “الفساد يوجد في كل المؤسسات، وقد شاهدنا قبل أيام كيف نجح لوبي الفساد داخل البرلمان في إدخال تعديل يخدم مصالح مقاولات التأمين، وهو تعديل تم تمريره بفضل علاقات ومصالح متشابكة داخل الغرفة الثانية.”
البرلمان في قفص الاتهام
شكّلت تصريحات بعزيز إدانة غير مسبوقة للمؤسسة التشريعية نفسها، حين قال إن البرلمان “ساهم في الفساد” عبر إقراره لتعديلات تخدم فئة ضيقة من أصحاب النفوذ المالي.
وأضاف أن “هذا هو الفساد البرلماني الذي يتحدث عنه الشعب المغربي، وهو واعٍ تمامًا بما يقول، ويعرف الجهات المتورطة فيه بالاسم والصفة”.
بعزيز لم يتحدث فقط عن لوبيات شركات التأمين، بل أشار ضمنيًا إلى منظومة أوسع من المصالح التي تحكم عملية التشريع في المغرب، حيث تتحوّل النصوص القانونية في كثير من الأحيان إلى أدوات لتصفية حسابات اقتصادية أو خدمة مصالح فئوية.
لقد عرف تاريخ البرلمان المغربي حالات مشابهة. لكن هذا الاعتراف المتزامن- مع اتساع مظاهر الفساد واستبعاد مشاريع قوانين تطويقه-، من داخل المؤسسة يكشف حجم الأزمة الأخلاقية والسياسية التي يعيشها التشريع في المغرب، فمنذ سنوات، يشتكي المواطنون من أن بعض القوانين تصاغ على مقاس جهاتٍ نافذة، سواء كانت اقتصادية أو مالية، فيما يتم تجاهل هموم الفئات الهشة التي تئن تحت وطأة الغلاء والبطالة.
لوبيات المال والسياسة… زواج غير شرعي
تتعلق القضية في هذه الحالة بتعديلات على مشروع قانون حوادث السير، وهو مجال ترتبط به مليارات الدراهم سنويا من التعويضات والتأمينات، فوفق أرقام الهيئة المغربية للتأمينات والاحتياط الاجتماعي، تجاوز رقم معاملات شركات التأمين سنة 2023 حوالي 57 مليار درهم، بزيادة تفوق 6% عن السنة السابقة، أكثر من 30% منها مرتبطة بتأمينات السيارات..
تفسر هذه الأرقام لماذا تسعى تلك الشركات إلى حماية مصالحها عبر التأثير في النصوص القانونية، خصوصا حين يتعلق الأمر بتحديد نسب التعويض والمسؤوليات، فكل تعديل صغير في قانون حوادث السير قد يعني ملايين الدراهم من الأرباح أو الخسائر لشركات التأمين، ما يجعل الضغط على البرلمان استثمارا مجديا في “اقتصاد النفوذ”.
وفي ظل ضعف آليات المراقبة البرلمانية، وغياب الشفافية في مسارات إعداد القوانين، يجد هذا اللوبي الطريق مفتوحاً للتأثير في النصوص القانونية، سواء عبر علاقاتٍ مالية أو عبر شبكةٍ من المصالح المتبادلة داخل الغرفتين التشريعيتين.
إنها لعبة المصالح التي تُمارس في الخفاء، لكنها تُثمر تعديلاتٍ قانونية تُمرر في العلن.
ربط المسؤولية بالمحاسبة… شعار أم “فيترينية”؟
و في سياق النقاش ذاته، وجّه رئيس لجنة العدل والتشريع نداءً مباشراً إلى وزير العدل عبد اللطيف وهبي، مطالبًا بـ “جواب واضح وصريح حول هذه المعضلة”، مشددًا على ضرورة “ربط المسؤولية بالمحاسبة” ، وهو المبدأ الذي ظلّ شعارًا دستورياً دون ترجمة حقيقية في الواقع العملي.
و يعيد حديث بعزيز مطلب تفعيل آليات الرقابة داخل البرلمان نفسه إلى الواجهة، بعدما تحوّل بعض النواب، وفق ما يُفهم من تصريحاته، من “ممثلين للشعب” إلى “وكلاء مصالح اقتصادية” تدور في فلك لوبيات قوية، لا تتردد في استخدام النفوذ والتأثير لحماية أرباحها.. وهو ما يزيد من خطورة الوضع فالبرلمان، الذي يُفترض أن يراقب الحكومة، أصبح هو نفسه بحاجةٍ إلى من يراقبه.
المواطن الخاسر الأكبر
في نهاية المطاف، المواطن البسيط هو من يدفع ثمن هذه التواطؤات المقننة، فعندما تمرر تعديلات لصالح شركات التأمين، فإن ذلك يعني زيادةً في أقساط التأمين، وتعقيداً في مساطر التعويض، وإضعافاً للحماية القانونية للمستهلكين.. المواطن الذي يعاني أصلاً من ارتفاع الأسعار والضرائب يجد نفسه مرة أخرى ضحية لمنظومةٍ تشريعيةٍ تُدار بالمصالح، لا بالمبادئ.
نهاية القول…
لم يكن تصريح سعيد بعزيز مجرد مداخلة عابرة، بل صفعة مؤلمة على وجه مؤسسة يفترض أن تكون الحصن الأخير ضد الفساد..
لقد كشف أيضًا أن الفساد في المغرب لم يعد يخجل من نفسه؛ صار يتكلم بلسان القوانين، ويتجول في البرلمان ببطاقة اعتماد، ويُصفَّق له بأيدٍ “منتخبة”.
ربما حان الوقت لنسأل: إذا كان الفساد يشرّع، فمن يشرّع ضد الفساد؟
وإن كان البرلمان نفسه “يساهم” ، فمن بقي للمحاسبة؟تكشف هذه الواقعة أن الأزمة ليست فقط في النصوص القانونية، بل في البيئة السياسية التي تنتجها. حين يصبح النفوذ المالي قادراً على إعادة صياغة القوانين، يفقد التشريع معناه الأخلاقي، ويتحوّل البرلمان من مؤسسة للرقابة إلى ساحة لتقاطع المصالح.
صرخة سعيد بعزيز قد لا تغيّر موازين القوة داخل المؤسسة، لكنها على الأقل تعيد طرح السؤال الذي يخشاه الجميع: من يكتب القوانين في المغرب؟ الشعب عبر ممثليه… أم اللوبيات التي تمسك بخيوط اللعبة من خلف الستار؟






