مقال تحليلي: درس الجزائر والسودان
يورّط طغيان النهج الأمني الحكام العرب ونخبهم في التنصّل المستمر من التداول الحر للمعلومات والحقائق، ما يمنع الناس من امتلاك المعرفة اللازمة لمساعدتهم على مقاومة غسل الأدمغة والتخلّص من تشويه الوعي الجماعي.
كما تدلل القراءة الموضوعية للحالتين الجزائرية والسودانية، يمثل النهج الأمني أحد الإطارات الرئيسية التي توجه فعل وسياسات الحكومات غير الديمقراطية في بلاد العرب وتندرج بها ممارساتها. وحين يطغى النهج الأمني يصير سببا لأزمة الحكومات الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية وسببا لتجريدها تدريجيا في مجال السياسات العامة من القدرة الفعلية على إنجاز التغيير الإيجابي، حتى وإن عرف فقط بتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وعلى تحقيق الاستقرار للبنية المؤسسية للدولة، وإن اختزل إلى الحد من الفساد والإصلاح المؤسسي. وفي التحليل الأخير، يرتب طغيان النهج الأمني على فعل وسياسات الحكومات فقدان الرضاء الشعبي ويدفع الناس إلى الاحتجاج وطلب التغيير.
أولا، يرتب طغيان النهج الأمني التوسع المطرد في العصف بسيادة القانون وفي توظيف الأدوات القمعية وفي السيطرة على الفضاء العام ونقاشاته عبر الغسل الإعلامي لأدمغة الناس. فمن جهة، يروج للحكام، على اختلاف ألقابهم بين الجمهوريات والملكيات، كأبطال منقذين وهبتهم السماء للشعوب العربية لإنقاذهم من أخطار الفوضى وعدم الاستقرار. ومن جهة أخرى، يشوه ويخون المعارضون السلميون ويجردون زيفا من كل قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية فقط لكونهم يدافعون عن حرية التعبير عن الرأي وحرية العمل السياسي والنشاط المدني. تمرر كذلك المقايضات السلطوية التقليدية إلى وعي الناس من شاكلة إما الخبز والأمن وإما الحق والحرية، إما استمرار الحاكم أو ضياع البلاد والسقوط في الفوضى، وغيرها الكثير والكثير.
ثانيا، تعرض وسائل الإعلام المدارة أمنيا الناس لعمليات متواصلة لغسل الأدمغة لكي يشوه وعيهم ويسقطوا من حساباتهم المطالبة بالعدل والحرية واحترام حقوق الإنسان. وتوظف هنا طائفة من الاستراتيجيات التحايلية والتأجيلية المعهودة داخل أروقة الحكومات غير الديمقراطية في بلاد العرب. فنصبح إزاء الترويج الممنهج لمقولات مثل ليس هذا بوقت الحديث عن حقوق الإنسان والحريات، والحديث عن القانون والحق والحرية ليس إلا ترفا خالصا والأمة تواجه الإرهاب والعنف، ولننتصر على الإرهاب أولا ونعطي للناس حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية ثانيا ثم نفكر في حرية التعبير عن الرأي وحرية التنظيم فيما وراء ذلك، وغير تلك المقولات الكثير والكثير.
ولا يقل كثافة عن الترويج الإعلامي لمثل تلك المقولات التحايلية الدعوة المتكررة للمواطنين في بلاد العرب بالصبر على الحكام وتقدير الإنجازات التي تتحقق في ظروف بالغة الصعوبة. ومن ثم تصير المظالم وانتهاكات حقوق الإنسان المسكوت عنه الأكبر في بلادنا، ويواجه كل من يرفض السكوت بالاتهام الزائف بعدم الوقوف إلى جانب الحكومات وهي تحارب الإرهاب والعنف وتقاوم أخطار الفوضى وعدم الاستقرار.
غير أن طغيان النهج الأمني يورط الحكام العرب ونخبهم، رابعا، في التنصل المستمر من التداول الحر للمعلومات وللحقائق، لكيلا يمتلك الناس من المعرفة ما قد يساعدهم على مقاومة غسل الأدمغة والتخلص من تشويه الوعي الجمعي. كما أن طغيان النهج الأمني يورط مؤسسات وأجهزة الدولة في صناعة واستعداء طوائف من المواطنين تتسع وتتنوع بانتظام، وبهم تلصق زيفا صفات سلبية عديدة (من البحث عن المصالح الشخصية على حساب الصالح العام إلى المعارضة من أجل المعارضة) ويصنفون لكونهم ينشدون حرية التعبير عن الرأي وحرية العمل السياسي كأعداء للشعوب يتعين مواجهتهم بحزم وقسوة. والمراد هنا بالطبع هو حشد التأييد الشعبي للحكومات غير الديمقراطية وهي تتعقب وتقمع أولئك المصنفين جماعيا كأعداء. والأهم من ذلك هو إعفاء الحكام ونخبهم من المسؤولية، وبالتبعية إعفاء نمط إدارتهم لشؤون المواطن والمجتمع والدولة الذي يتجاهل الشفافية والرقابة والمساءلة والمحاسبة من المسؤولية عن تواصل التعثر الاقتصادي والاجتماعي في أغلبية بلاد العرب وعن غياب تحسن الظروف المعيشية بينما المظالم والانتهاكات مستمرة في التصاعد.
تتركز سلطات وصلاحيات الحكومات في الرؤساء والملوك ونخبهم التي يحتل بها جنرالات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المواقع الأوسع نفوذا والأكثر تأثيرا
ولمنع التداول الحر للمعلومات والحقائق، تحجب الحكومات غير الديمقراطية في بلاد العرب المواقع الإلكترونية لصحف ووسائل إعلام مستقلة ولمنظمات غير حكومية محلية وتفرض بذلك إما سترا حاجبا حول قضايا بالغة الأهمية مثل انتهاكات الحقوق والحريات وفوارق الدخل بين الأغنياء والفقراء أو تجبر الناس على تلقي الخطاب الرسمي فقط فيما خص تفاصيل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والظروف المعيشية. تفعل الحكومات العربية ذلك لكي تمنع المعارضين السلميين من الحصول على المعلومات والحقائق اللازمة لإثبات حدوث انتهاكات للحقوق وللحريات أو لإظهار تداعيات تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية على حياة الناس. تحتكر الحكومات المعلومات والحقائق وتمنع تداولها خارج دوائر النخب وخارج مؤسسات الدولة والأجهزة الرسمية. بل يمتد الاحتكار ويمتد المنع أحيانا إلى مؤسسات الدولة والأجهزة الرسمية البعيدة نسبيا عن الحكام وعن النافذين والمؤثرين في نخبهم من ذوي الخلفيات الأمنية والاستخباراتية. تحتكر المعلومات ويمنع تداولها، ويستباح حق المواطن وحق الرأي العام في معرفة الحقيقة والحصول على المعلومة الموثقة، ويحل محله الترويج المنظم لمعلومات مغلوطة أو غير مكتملة أو لأنصاف حقائق أو لأكاذيب لتجميل وجه الحكومات وتشويه معارضيها. وأحيانا يحل محل حق المواطن المستباح في المعلومة والحقيقة الصمت الرسمي التام عن انتهاكات الحقوق والحريات أو التحايل الإنكاري عليها.
خامسا، يرتبط طغيان النهج الأمني بتراكم مؤلم لانتهاكات حقوق الانسان وسلب ممنهج لحرية قطاعات واسعة من المواطنين. ومع الأمرين المؤلمين لبلداننا يتعاظم نفوذ الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في البنية المؤسسية للدولة العربية وفي كافة قطاعات المجتمع من المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية ووسائل الإعلام إلى النقابات والاتحادات المهنية والجامعات. تتركز سلطات وصلاحيات الحكومات في الرؤساء والملوك ونخبهم التي يحتل بها جنرالات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية المواقع الأوسع نفوذا والأكثر تأثيرا. ويحل هؤلاء، ومن ورائهم المصالح الاقتصادية والمالية المتحالفة معهم، فيما خص إدارة الشأن العام محل السياسة التي أميتت ومحل ما تبقى في بعض بلاد العرب من قوى سياسية وأحزاب سياسية مستقلة ترفض الاقتصار على تقديم فروض الولاء والطاعة للحكام نظير الحماية وتجنب القمع وشيء من الحضور في الفضاء العام.