المداميك المُتقلِّبة للإسلام السياسي في الجزائر..من أوراق الاقتراع إلى لعلعة الرصاص (الحلقة2)
إن مختلف المجموعات الإسلامية في الجزائر، ومن ضمنها الميليشيات والفصائل المعتدلة والشبكات الشعبية، توفّر منبراً لاستقراء المستقبل الاجتماعي السياسي المُلتبس في البلاد.
ولادة الإسلام السياسي في الجزائر
ترجع جذور الإسلام السياسي في الجزائر إلى عشرينيات القرن العشرين، وإلى الحركة الإصلاحية التي تزعمها علماء مثل عبد الحميد بن باديس. فقد دعا هؤلاء العلماء إلى العودة إلى أصول الإسلام من خلال تنقيته من الشوائب التي لحقت بالإيمان جرّاء نفوذ المرابطين المُفسد المفترض والمعتقدات الصوفية، وأيضاً من خلال الحفز على التعريب. وفي العام 1931، شكّل هؤلاء العلماء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وهي جمعية دينية سبقت سعي الجزائر إلى تحقيق الاستقلال. وقد دعت هذه الجمعية إلى تنقية الإسلام وسعت إلى استعادة الثقافة الإسلامية الحقّة للشعب الجزائري.
السنوات المبكّرة الأولى
حصلت الجزائر على استقلالها العام 1962، وبعدها بعام أسّس الناشطون السابقون من جمعية العلماء المسلمين، كعبد اللطيف سلطاني والإصلاحيون الوطنيون، كالهاشمي التيجاني، جمعية تُدعى القيم الإسلامية. استندت هذه المنظمة، التي تُدعى اختصارا “القيم”، إلى أفكار المنظّر الإيديولوجي البارز في جماعة الإخوان المسلمين المصرية، سيد قطب، ودافعت عن القيم الإسلامية في الجزائر من خلال تبنّي الدعوة إلى أسلمة الحياة العامة.
حاول النظام الجزائري، في سياق جهوده لجبه الإسلاميين الذين شعروا بمرارة من طبيعة الدولة المستقلّة الجديدة التي كانت أبعد ما تكون عن الدولة الإسلامية التي حلموا بها، إضفاء مسحة من الشرعية الدينية على نفسه، فعمد قادة البلاد إلى إطلاق شعار الاشتراكية الإسلامية، وهو مفهوم هدفه مصالحة المبادئ الإسلامية مع خطاب الحكومة الرسمي المعتدل والعلماني. وهكذا، حاول الرئيس الأول للبلاد أحمد بن بلة وخلفه هواري بومدين الجمع بين الحداثة والتقليد، عبر التوجّه إلى الجماهير (الاشتراكية الشعبوية) والأمة الإسلامية (عبر الإسلام التقليدي(.
بيد أن مثل هذه المقاربة لم تحظ برضى العديد من الإسلاميين. فقد نشرت “القيم” بياناً أعلنت فيه أن “أي نظام، وأي قائد، لا يعتمد على الإسلام، يُعتبر غير شرعي وخطر. فحزب شيوعي، وحزب علماني، وحزب ماركسي- اشتراكي، وحزب قومي، لا يمكن أن يعيشوا في أرض الإسلام”.11 حينها، حظرت الحكومة الجزائرية جمعية القيم العام 1966، بعد أن بعثت الجماعة برقية تلغرافية إلى الرئيس المصري آنذاك جمال عبد الناصر تحثّه فيها على تأجيل إعدام سيد قطب. كذلك، كان للقيم تأثير مهم على الحركة الإسلامية في الجزائر، حيث كانت هذه المنظمة بوابة عبور للإسلاموية الراديكالية.
إنها أرست قواعد ما سيحدث في الثمانينيات والتسعينيات. خلال تلك الفترة، نجح الإسلاميون في الضغط على الحكومة كي تسمح للمحافظين الدينيين بطرح أجندة للتعريب، ومارسوا نفوذاً وازناً في مدارس البلاد وبيروقراطية الدولة، كما أن أعضاء جماعاتهم تموضعوا كقضاة الأخلاق وأرباب الفضيلة في المجتمع الجزائري. نتيجة لذلك، اغتنم الإسلاميون فرصة دمقرطة النظام التعليمي الجزائري وسياسة التعريب التي انتهجتها الحكومة، لمضاعفة نشر إيديولوجيتهم.
كان هؤلاء الإسلاميون طيلة السبعينيات والثمانينيات نَشِطين للغاية في الجامعات والمساجد، كما أنهم عبأّوا الطلاب لتحدي النظام وشجعّوهم على انتهاج درب العنف السياسي.
عمد النظام، في خضم جهوده لمواجهة اختراقات الجماعات الإسلامية هذه وأيضاً لتلميع ما يدعيه من شرعية دينية، إلى فرض وتعزيز إجراءاته التعريبية، وشجّع على بناء مساجد جديدة، كما عقد مؤتمرات حول الدراسات الإسلامية، وأقام معاهد إسلامية، وأصدر صحيفة اسمها الأصالة. علاوة على ذلك، منح النظام شخصيات دينية مُحددة قدراً واسعاً من الحرية في مجال الاجتهاد الديني، بشرط تجنّب أي انتقاد للنظام، وساعد على تلقين الجزائريين بأن الاشتراكية ليست سوى تلوين معاصر من ألوان العدالة الاجتماعية الإسلامية.
كان النظام يأمل من خلال هذه المظلّة الثقافية العامة أن يجعل من الأصعب على الإسلاميين معارضة حكمه، لكن هؤلاء كانوا في الحقيقة ينازعون أكثر فأكثر شرعية النظام الدينية. وهكذا، انقلب تعايش الحكومة مع الإسلاميين مراراً إلى مجابهات، أولاً في أواسط السبعينيات ومجدداً في أوائل الثمانينيات، وأخيراً طيلة التسعينيات، حين بلغ الصراع ذروته إبان الحرب الأهلية مع الجهاديين الإسلاميين.
من أوراق الاقتراع إلى لعلعة الرصاص
خلال هذه الفترة، كانت الحركة الإسلامية غير المُتجانسة تنطوي على العديد من الفصائل أو المدارس الفكرية.13 لكن، على الرغم من الطبيعة غير المُتبلورة لهذه الحركة والخلافات الداخلية التي عصفت بها، إلا أن فصائلها توافقت على استراتيجية عامة واحدة هي الدعوة والوعظ في المساجد والجامعات. وقد انتشرت أفكارهم على مدى الثمانينيات فتمنطق الإسلام السياسي بزخم جديد. ومع ترسّخ أقدامها في الجامعات في طول البلاد وعرضها، اجتذبت الحركة الإسلامية المزيد من الأنصار في صفوف عناصر الجيل الأول لما بعد الاستقلال الذين كانوا يشعرون بخيبة أمل من النظام التعليمي ومن افتقار فرص العمل. وهنا، أقنع الخطاب الإسلامي هذا الجيل بأن النموذج الغربي للتحديث الذي تبنته الدولة الجزائرية كان فاشلا، وبأن رؤاهم حول الإسلام السياسي توفّر نظاماً بديلاً يُعلي من شأن القيم العربية والإسلامية، ويزوّد المواطنين بوعي متسامٍ بالهوية. كما زعم هذا الخطاب بأنه يطرح حلولاً تؤدي إلى نمط حياة أفضل، وعدالة اجتماعية، وإعادة توزيع السلطة السياسية والثروة الاقتصادية.
على الرغم من أن هذه الشرائح المختلفة من الحركة اختلفت حول العديد من الأمور، فإن قادتها ومناصريها التقوا في العام 1989 لإنشاء الجبهة الإسلامية للإنقاذ. أعطت هذه الجبهة للمرة الأولى الإسلام السياسي هيكلية تنظيمية أكثر رسمية، وانطلقت بعدها للعمل بكونها الخصم الأول للحكومة في الحرب الأهلية المديدة في البلاد. وقد عارضت الجبهة قادة الجزائر الذين اعتبرتهم مُستبدين وطغاة ومتمردين على مشيئة الله، ويتربعون على عرش ما اعتُبر ديمقراطية مُلحدة ولا دينية، لأنها لا تنبثق لا من التقاليد ولا من السنّة أو الشريعة.
مع ذلك، كانت هذه الديمقراطية المُلحدة نفسها هي التي استخدمتها جبهة الإنقاذ لمحاولة الوصول إلى السلطة. ففي الانتخابات المحلية في يونيو العام 1990، حصدت الجبهة 54.3 في المئة من الأصوات في المجالس البلدية الشعبية و57.4 في المئة من الأصوات في المجالس الولائية. وفي الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية الوطنية في كانون الأول/ديسمبر 1991، حصلت الجبهة على 188 مقعداً من المقاعد الـ231 مقعداً التي تنافست عليها في مجلس الشعب ، فيما كان يتعيّن التنافس على المقاعد الـ 99 الباقية من المقاعد الإجمالية للمجلس (430 مقعدا) في الجولة الثانية من الانتخابات التي كانت مُقررة في أواسط يناير 1992 لكنها لم تُجرَ قط.
فقد ألغى الجيش الجولة الثانية قبل أيام قليلة من بدئها وبسط سيطرته بالكامل على البلاد. ثم جرى حظر جبهة الإنقاذ وقُذف بآلاف من مؤيديها إلى غياهب السجون. وحينها، طفت على السطح الانقسامات في صفوف الجبهة بين من واصل الالتزام مبدئياً بالانتخابات السلمية، وبين من يدعو إلى حمل السلاح.
لم ينتظر أولئك الذين حبذوا استخدام العنف ضد الحكومة وقف العملية الانتخابية قبل أن يستلوا سيف العنف من غمده، إذ هم شنوا هجوماً قاتلاً على منطقة ڨمار في نوفمبر 1991 (قبل الجولة الأولى من الانتخابات في الشهر التالي) بقيادة محارب جزائري قديم في حرب أفغانستان. كذلك، أدى تعليق العملية الانتخابية وما تلاها من عنف عشوائي نفذّته قوى الأمن إلى المزيد من أعمال العنف. هذا السيل المندفع بسرعة للعنف، عزّز القناعة العميقة لدى الجناح المتطرف في الحركة الإسلامية بأن الاستراتيجية الوحيدة الممكنة هي استخدام العنف، وبأن المقاربة السياسية السلمية أثبتت أنها مسعى عقيم.
نتيجةً لذلك، تضخّمت أعداد الجماعات الجهادية في كل أنحاء البلاد، وكان أبرزها الجماعة الإسلامية المسلّحة (GIA). وقد تحالفت جبهة الإنقاذ (FIS) مع دعوة هذه الجماعة إلى الجهاد بوصفه الوسيلة الوحيدة القمينة بإقامة دولة إسلامية، وشكّلت قوة عسكرية أطلق عليها اسم الجيش الإسلامي للإنقاذ (AIS). بيد أن هذا الثنائي (FIS/AIS)، أي الجبهة الإسلامية للإنقاذ والجيش الإسلامي للإنقاذ، فشل على المستوى العسكري، لأنه أهمل العمل على احتواء العنف المتطرّف للجماعة (GIA) ضد المدنيين وضد أعضاء الجبهة نفسها. كما أنه (الثنائي) سجّل فشلاً مماثلاً على الصعيد السياسي، لأنه أثبت عجزه عن توحيد الإسلاميين الجزائريين ورفع الحظر التنظيمي عنه. وهكذا، وبعد عقد كامل من القتال، نجحت الدولة الجزائرية آخر الأمر في التغلّب على الجهاديين وأعادت فرض سلطتها.