خروج نهضة تونس المُرتَبِكْ من الإسلام السياسي 4/1
قرر حزب حركة النهضة الإسلامي، التركيز على العمل السياسي على حساب النشاط الدَعَوي، ما اضطرّه إلى إعادة بناء شرعيته، استناداً إلى أسس أخرى غير الدين.
الإسلام السياسي:
في العام 2016، قرر حزب حركة النهضة الإسلامي التخلّي عن النشاط الدَعَوي والتركيز عوض ذلك على العمل السياسي، ما أشعل أزمة هوية في صفوف الحزب. والآن، يُواجه هذا الأخير تحديات تتضمّن إعادة النظر في دور الإسلام، والتكيّف مع كونه قوة دافعة للتغيير الاجتماعي الاقتصادي، وكيفية توجيه صفوة أنصاره، والعمل في الوقت نفسه على اجتذاب قواعد انتخابية أوسع.
هذا من دون أن ننسى أن تحوّل الحزب بالكامل نحو العمل السياسي، أجبره على إعادة النظر بكلٍّ من إطاره الإيديولوجي وشرعيته التي يُفترض الآن أن تستند إلى أسس أخرى غير الدين.
بهذه المقدمة، قدم حمزة المؤذب، أحد الأساتذة الباحثين في مركز كارينغي للشرق الأوسط، دراسته التي عممها المركز، والتي تقدم “دابا بريس:” تلخيصها، مع الرابظ لمن أراد الاضطلاع على محتوياتها كاملة.
محاور أساسية
- قرار النهضة المحوري بالتحوّل كلياً إلى حزب سياسي، عوض كونه حركة مُنخرطة في الدعوة الدينية، دشّن حدوث تغيير جذري في استراتيجيته، ودفعه إلى إعادة تعريف هويته.
- نهاية المشروع الإسلامي للنهضة كان حصيلة ضغوطات داخلية وخارجية. كما أنها انبثقت من النزعة البراغماتية وسياسة المقايضات. إذ تعيّن على الحزب أن يقدّم تنازلات، خاصة خلال مرحلة الحوار الوطني في 2013-2014، لضمان مشاركته وتعزيزها في عملية الانتقال إلى الديموقراطية في تونس.
- منذ أن اتخذ قراره هذا العام 2016، كان النهضة يجهد للعثور على الموقع المناسب للإسلام في مشروعه السياسي.
- على رغم النتائج الانتخابية الطيّبة منذ 2011، ستكون محاولات النهضة لتطوير قاعدة دعمه على أسس غير العمل الدعوي، مشروطة في الغالب بقدرته على التموضع كقوة حاكمة فعّالة، وعلى اقتراح حلول ناجعة للتحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالبلاد.
خلاصات رئيسة
- الابتعاد عن إيديولوجيا الإسلام السياسي، يعني إعادة النظر بعلاقة الحزب مع المجال الديني التونسي، ومع كلٍ من قواعده الشعبية الراهنة والقواعد الانتخابية المحافظة الأوسع. وهنا، ستكون إدارة القاعدة التاريخية للحزب هي التحدي الأبرز، خاصة حين نتذكّر أن دستور 2014 لم يضع حداً للمعارك ذات الدافع السياسي حيال مسألة الهوية.
- أضعف اعتبار الحزب تحقيق التوافق مع ممثلي النظام القديم أولوية، سمعته كفاعل أساسي يطمح للتغيير الاجتماعي- الاقتصادي. فقد خسر الحزب، بسبب مشاركته السلطة مع أعضاء النظام القديم ورضوخه إلى السياسات النيو-ليبرالية، قدرته على تفعيل الإصلاحات الاجتماعية-والاقتصادية، ومعها طروحات مكافحة الفساد التي كانت تهدف إلى إعادة بناء شرعيته وقواعد دعمه.
- على رغم أن النهضة اختار في 2018 استراتيجية الانفتاح لتنويع التمثيل والعضوية فيه، إلا أن هذا الخيار أماط اللثام عن الانقسامات بين الأعضاء القدماء والأعضاء الجدد من محترفي السياسة. وبالتالي، نجاح الحزب في المضي قدماً يعتمد على قدرة القيادة على إدارة هذا الانقسام وبناء هوية جديدة تُرضي الحرس القديم وتجتذب الأعضاء والناخبين الجدد
حين اتخذت حركة النهضة الإسلامية قرارها المحوري في العام 2016 بالابتعاد عن جذورها الدعوية والتركيز حصرياً على السياسة سجّل ذلك تحوّلاً ضخماً في استراتيجية الحركة
وقد تأكّد هذا التصميم على وقف النشاطات الدعوية و”التخصص الوظيفي” في العمل السياسي رسمياً خلال المؤتمر العام العاشر في مايو 2016، حيث أوضح راشد الغنوشي، رئيس النهضة وزعيمها التاريخي منذ كانت الحركة محظورة، إن هذا التحوّل ليس مجرد وسيلة لمغادرة الإسلام السياسي والدخول إلى مجال “الديمقراطية الإسلامية” وحسب، بل هو أيضاً الحصيلة الطبيعية للمشاركة الكاملة للحزب في مجتمع ديمقراطي، قال: “نتطلع إلى تطوير حزب نهضة جديداً، وتجديد حركتنا ووضعها في المجال السياسي خارج أي انخراط مع الدين. قبل الثورة كنا نختبئ في المساجد، ونقابات العمال، والجمعيات الخيرية، لأن النشاط السياسي الحقيقي كان محظورا. لكن الآن يمكننا أن نكون طرفاً سياسياً علنياً”.
“التخصّص الوظيفي” يشير إلى فصل كامل للعمل السياسي عن النشاط الدَعَوي. والتركيز أساساً على الرهانات الانتخابية، يعني أنه يتعيّن على النهضة أن يطرح جانباً مهمته التاريخية كحركة إحياء تستلهم من جماعة الإخوان المسلمين التي سعت إلى أسلمة المجتمع من خلال الدعوة والنشاطات الثقافية والتربوية.
وهكذا، يهدف النهضة الآن، الذي تأسّس أصلاً استناداً إلى أصول إسلامية، إلى طرح نفسه كقوة سياسية مُحافظة قادرة على إدارة الشأن العام، وتحقيق التسويات والحلول الوسط مع الأحزاب العلمانية التونسية.
ومع هذا التغيّر، جرى تقليص التشديد على الأسس الدينية والابتعاد عن إيديولوجيا الإسلام السياسي، وتكريس الموارد البشرية والمالية للسياسات الانتخابية. بعبارة أخرى، “التخصص الوظيفي” هو محاولة لتحرير النشاط السياسي من الاعتبارات الدينية، من جهة، وتحرير المواقف والنشاطات الدينية من التلاعب السياسي، من جهة أخرى.
لقد أصرّت قيادة النهضة على أن عملية الانتقال إلى الديمقراطية في تونس مضافاً إليها المناخات المحلية والإقليمية السياسية المعقّدة تتطلّب من الحزب التأقلم.
بيد أن قرار مؤتمر العام 2016 الخاص بتوجيه الدفة حصرياً نحو العمل السياسي مع مايقتضيه ذلك من تركيز على الرهانات الانتخابية لا يزال يطرح إشكاليات، على رغم أن معظم مندوبي الحزب أقروه.
فقد أسفر تقليص التركيز على الإيديولوجيا عن أزمة هوية يُرجّح أن تُواصل فرض تحديات وازنة على الحزب، فيما هو يقوم بإعادة تقييم دور الإسلام كإطار مرجعي، وينبري لتكييف الحزب مع وظيفة المحفّز على التغيير الاجتماعي، والسعي إلى الحفاظ على قاعدة أنصاره الأساسية، في الوقت نفسه الذي ينشط فيه لاجتذاب قاعدة انتخابية أوسع.
على رغم أن قرار التخصّص ينطوي على إعادة هيكلة شاملة، (يتم بموجبها فصل كل النشاطات الدعوية عن الحزب وإحالتها إلى منظمات دينية والمجتمع المدني)، إلا أن هذا الفصل التام لمّا يحدث بعد. وهذا يَشي بمدى الغموض السائد على رغم مرور أكثر من ثلاث سنوات على إصدار القرار المفصلي للنهضة المتعلق بهويته. وبالتالي، الخروج من الإسلام السياسي، في كل مجالاته، ليس بأي حال حصيلة مؤكدة.
بعد عقود أمضتها حركة النهضة كجماعة سياسية محظورة معارضة لنظام الحكم السلطوي لكلٍ من الرئيسين الحبيب بورقيبة وخلفه زين الدين بن علي، تعيّن على الحزب اتخاذ خيارات ظرفية منذ الترخيص الرسمي له العام 2011. وهو تغيّر من حركة معارضة غير مُعترف بها إلى حزب شرعي له سطوة وينافس لاجتذاب الأصوات في مشهد تعددي.
طرح حزب حركة النهضة، بقراره الخاص بالتخصص الوظيفي في العمل السياسي، جانباً الإسلام السياسي كإطار مرجعي كلي، لكنه لايزال يتدارس كيفية المضي قدماً من هذه النقطة إلى الوضعية التي يجب أن يعطيها للإسلام في “مشروعه الجديد لـ”الديمقراطية الإسلامية”.
والآن، الكيفية التي سيختار بموجبها النهضة معالجة أزمة الهوية، لن يكون لها تأثير على مستقبل شرعيته الوطنية والدولية الهشّة وحسب، بل هي تنطوي أيضاً على مضاعفات تطال التجربة الديمقراطية التونسية برمتها؛ وهي التجربة التي تسنّم فيها النهضة دوراً ريادياً منذ تبلورها العام 2011.
رحلة النهضة من الدّعوة إلى العمل السياسي
جاء قرار النهضة بالتخصّص الوظيفي تتويجاً لنقاشات داخلية في الحزب حول العلاقة بين العمل السياسي والدعوي، والتي كانت سمة الحزب منذ السبعينيات. كما أن البيئة السياسية العدائية التي انخرط فيها الحزب أثّرت على تحولاته التدريجية.
كانت الحركة طيلة العهدين السلطويين والقمعيين في تونس، تضع الأولوية لصراع البقاء، وكانت غير مستعدة للمخاطرة بالتشرذم من خلال الاختيار بين نهج الدعوة وبين العمل السياسي. لكن، بعد ثورة 2011 أضحت الحركة لاعباً سياسياً شرعياً وشاركت في الحكم مع شركاء علمانيين كانوا يشكّون بمدى التزامها بالديمقراطية، الأمر الذي سرّع من ضرورة تسوية هذه المسألة.
برزت الحركة، التي ستصبح حزب النهضة، أولاً في أوساط القطاعات المُحافظة من المجتمع في حقبة الستينيات، كرد فعل على مخاوف التغريب في تونس مابعد الاستقلال.
وبعد أن نالت البلاد استقلالها من فرنسا العام 1956، أطلق أول رئيس لها، الحبيب بورقيبة، عملية تحديث فكّكت الهيئات الدينية التقليدية وهمّشت المؤسسة الدينية. وقد سعى برنامج التحديث هذا ليس فقط إلى مصادرة الأوقاف التي تُستخدم لتمويل المساجد، والمدارس القرآنية، والجمعيات الخيرية، بل أيضاً إلى إصلاح برامج التعليم الدينية في جامع الزيتونة، وهي المؤسسة التعليمية والإسلامية الأولى في تونس.
كما تم حظر تعدد الزوجات وجرى تبنّي قانون للأحوال الشخصية بمرسوم رئاسي العام 1957 يُعزز حقوق المرأة.
في أواخر الستينيات، أسّست مجموعة من الشبان، الذين تحدوهم رغبة الدفاع عن الهوية الإسلامية لتونس، “الجماعة الإسلامية” بقيادة راشد الغنوشي وعبد الفتاح مورو وأحميدة النيفر، وباستلهام جزئي من مبادئ مدرسة التبليغ وهي حركة دعوية غير سياسية تركّز على التعليم الديني.
بدورها، كانت الجماعة الإسلامية حركة دعوية تعمل على نشر تعليم وممارسة صحيحة للإسلام. وهي سعت إلى إحياء الدين في الحياة العامة من خلال الدعوة في المساجد وعبر الإعلاء من شأن التقوى في السلوك الشخصي، والأخلاق والمعاملات الاجتماعية.
إضافةً إلى ذلك، رفضت الجماعة كلاً من مشروعي التحديث البورقيبي والنخب الدينية التقليدية في البلاد التي اعتُبرت عتيقة ومُستلحقة من قبل الديكتاتورية. في البداية نشطت الجماعة سراً، ووجد نشطاؤها حليفاً غير متوقّع لمساعدتها على التوسّع هو الجناح الإسلامي في الحزب الحاكم، الحزب الاشتراكي الدستوري.
هذا الجناح كان يسعى إلى مواجهة اليسار المتطرف ويحبذ أسلمة وتعريب المجتمع التونسي عبر دعم نشاطات الدُعاة الشبان في جمعية الحفاظ على القرآن، وهي هيئة رسمية مرخّص لها أُسّست العام 1967.
لم يكن توسّع الجماعة الإسلامية في أواخر الستينيات والسبعينيات نتيجة لوجود طلب ديني أو روحاني وحسب بل لعبت أيضاً العوامل الاجتماعية- الاقتصادية دوراً حاسماً في توسيع مدى مقبوليتها فالحركة الإسلامية كانت جذّابة على وجه الخصوص لأعضاء “الهوامش الاجتماعية الجديدة” الذين برزوا بُعيد الاستقلال
وهذا شمل خريجي المؤسسات الدينية والتعليم التقليدي الذين شعروا بالتهديد بسبب برامج التحديث في عهد بورقيبة، والشبان المتحدرين من أصول متواضعة الذين تسنى لهم الحصول على تعليم رسمي مجاني، لكن لم يكن في وسعهم حصد فوائد الترقي الاجتماعي.
كلا هاتين المجموعتين تعرضتا إلى التهميش على يد البورجوازية الجديدة المتغرّبة. علاوةً على ذلك، كان نشطاء الجماعات الإسلامية في المناطق الجنوبية والداخلية، يعارضون القيم الاجتماعية- الثقافية التي تبنّتها النخب العلمانية.
وبالنسبة إلى هذه القطاعات المهمّشة في المجتمع، أصبح الإسلام أساس حركة دينية-اجتماعية، وفّرت سردية سياسية لتعبئة الجماهير.
في أواخر السبعينيات، ومع تمدّد النشاط الدَعَوي إلى الجامعات من خلال افتتاح مساجد داخلها، بدأ نشطاء الجماعة الإسلامية يحبذون على نحو متزايد تسييس الحركة. هذا التطور يعود في المقام الأول إلى احتكاك النشطاء مع كلٍ من طلاب اليسار والحزب الاشتراكي الدستوري، ولتعرضهم إلى مختلف الإيديولوجيات السياسية بعد أن أصبحت الجامعات أرضاً خصبة للمنافسة الفكرية.
وقد لعبت الثورة الإيرانية العام 1979 دوراً حاسماً في إلهام قرار الجماعة الإسلامية الخاص بالانخراط في النشاط السياسي
ومع تحبيذ طلاب الجامعات في الجماعة الإسلامية تسييس الحركة لمعارضة سياسات بورقيبة العلمانية والسلطوية، تحرّكت القيادة لتبنّي توجّه الطلاب نحو التسييس ومنع الانقسام. وحينها، تبنّت الجماعة إيديولوجيا الإخوان المسلمين التي تطرح الإسلام كنظام سياسي واقتصادي واجتماعي يتجاوز إطار الدين والإيمان ليغطي مناحي حياة الناس كافة.
في العام 1979، غيّرت الجماعة الإسلامية اسمها ليصبح حركة الاتجاه الإسلامي. وهذا دشّن ولادة أول حركة إسلامية تونسية تشجّع كلاً من الدعوة والعمل السياسي في آن. هذه الفترة شهدت أيضاً بروز- ولاحقاً مغادرة- مجموعة من المثقفين داخل حركة الاتجاه الإسلامي تعرف بالإسلاميين التقدّميين. هذا الفصيل الانشقاقي طرح تفسيراً تقدمياً للعقيدة الإسلامية، وحبّذ الدفاع عن هوية تونسية واضحة متمايزة عن توجهات الإخوان المسلمين.
شهدت حقبة الثمانينيات تطوران بارزان اثنان داخل حركة الاتجاه سيلعبان دوراً حاسماً في التأثير على المسار السياسي لحركة النهضة بعد الثورة التونسية العام 2011: الأول، أن الإسلاميين أبدوا استعداداً للانخراط في التعددية السياسية والتنسيق مع مجموعات المعارضة الأخرى. والثاني، أن النقاشات بدأت داخل الحركة حول العلاقة بين النشاط الاجتماعي الثقافي والدَعَوي وبين العمل السياسي.
وخلال العقد الأخير من عهد بورقيبة، دفع نشطاء حركة الاتجاه مواقفها السياسية والاجتماعية- الاقتصادية نحو التقارب على نحو مطّرد مع المجموعات الأخرى التي تعارض النظام. الدافع وراء هذه الخطوة كانت أساساً المواجهة بين الحكومة وبين الحركة العمالية التونسية، والتي أسفرت عن مئات القتلى خلال الإضرابات العامة في البلاد في الفترة بين 1978 و1984.
وفي العام 1981، أعلنت حركة الاتجاه الإسلامي بوضوح أنها تقبل التعددية السياسية وطلبت الترخيص لها رسميا. بيد أن نظام بورقيبة رفض ذلك وشنّ حملة على الحركة أجبرتها على اللجوء إلى العمل السري. لكن، وعلى رغم افتقادها إلى الوضعية القانونية، نجح النشطاء الإسلاميون في التنسيق مع الأحزاب العلمانية المعارضة وانضم العديد منهم إلى هيئات المجتمع المدني مثل الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان والحركات العمالية.
وفي العام 1989، شكّل الإسلاميون نحو 20 في المئة من الاتحاد العام التونسي للشغل. وهكذا، عكست هذه المرحلة تقبّل الإسلاميين على نحو متزايد للتعددية السياسية وللحاجة إلى التعايش مع الأطراف غير الإسلاموية.
في التسعينيات، وفي خطوة كانت بمثابة استشراف لمستقبل النقاشات حول التخصص الوظيفي، بدأت حركة الاتجاه بتفحّص العلاقة بين النشاط الاجتماعي-الثقافي وبين العمل السياسي داخل الحركة.
استهدف النشاط الاجتماعي الثقافي ترسيخ القيم الإسلامية وتأطير المجتمع التونسي من خلال الإرشاد والتعليم والنشاطات الثقافية أما العمل السياسي فهدف إلى بناء صرح مقاومة سياسية قوية لنظام بورقيبة المتداعي
وهذا جسّد نوعاً من الأسلمة من تحت، فيما النشاط السياسي تضمّن الأسلمة من فوق. لكن، وبسبب ضيق أفق البيئة السياسية، بقي هذا النقاش مُعلّقاً في الهواء. ومع ذلك، واصل هذا الغموض حول كيفية دمج سمات كلٍ من الحركة الاجتماعية- الثقافية والحزب السياسي في التأثير على تمخضات التيار الإسلامي التونسي.
حين أصبح زين العابدين بن علي رئيساً العام 1987، راود قادة حركة الاتجاه أمل بإقامة علاقات أفضل مع النظام الجديد، وقرروا في العام 1988 دفع المشروع السياسي خطوة أخرى إلى الأمام وتغيير اسم المنظمة ليصبح حركة النهضة، بما يتوافق مع قانون الأحزاب السياسية للعام 1988 الذي منع تأسيس أحزاب على أسس إثنية أو دينية.
وعلى رغم أن الحركة لم تنل الترخيص الرسمي، إلا أنها شاركت في انتخابات 1989 البرلمانية عبر لوائح مستقلة. وقد اعتُبر النجاح الانتخابي للّوائح الإسلامية، والذي قُدِّر بنحو 15 في المئة من إجمالي الأصوات العامة ووصل إلى 30 في المئة في بعض المناطق، بمثابة تهديد لنظام بن علي، الذي بدأ يرى في الحركة الإسلامية خصمه الرئيس. ولذا، عمدت الحكومة إلى تزوير نتائج الانتخابات وأعلنت انتصار الحزب الحاكم الجديد، التجمع الدستوري الديمقراطي.
أدّى الانفتاح السياسي قصير الأجل إلى حملة على شبكات حركة النهضة. ففي العام 1990، جرى اعتقال أو تعذيب أو ممارسة خروقات لحقوق الإنسان بحق الآلاف من نشطائها. ونتيجةً لذلك اضطر العديد من أعضاء الحركة إلى الفرار من البلاد، ولجأ معظمهم إلى أوروبا. وفي غياب أي مجال لممارسة الدعوة في ظل عهد بن علي، أصبح الاستثمار في العمل السياسي الخيار الوحيد تقريباُ أمام القادة في المنفى لضمان بقاء الحركة على قيد الحياة. كما سعت النهضة أيضاً إلى التصدي لمحاولات النظام عزلها عن بقية فصائل المعارضة في هذه الفترة، من خلال التفاوض على التقارب مع أحزاب المعارضة العلمانية، عبر تبنيها حقوق الإنسان والسياسات الديمقراطية.
مع سقوط دكتاتورية بن علي في يناير 2011، كانت الأولوية القصوى للنهضة هي إعادة تفعيل شبكاتها القاعدية وهياكلها التنظيمية، تمهيداً لاندفاعة أخرى نحو معمعة السياسة.
وهكذا، وبعد 30 سنة من طلبها للمرة الأولى الحصول على ترخيص رسمي، تلقت الحركة هذا الترخيص في مارس 2011 تحت مسمى “حزب حركة النهضة”، وتم افتتاح 2000 مكتب للحزب في طول البلاد وعرضها استعداداً لانتخابات المجلس التأسيسي في تشرين أكتوبر 2011.
وقد التقى النشطاء العائدون- على رأسهم الغنوشي- بأعضاء وقواعد الحركة المُضطهدين الذين بقوا في تونس وعانوا ألوان القمع العنيف. ووصف بعض مسؤولي النهضة هذه اللقاءات بأنها كانت إعادة وصل ما انقطع بين “الرأس” المنفي والمسجون وبين “الجسد” المُضّطهد أو المُحاصر.
بيد أن عملية إعادة بناء الحركة هذه لم تسِر من دون تحديات خاصة في ضوء السياقات السياسية الحادة لعملية الانتقال إلى الديمقراطية في تونس
نجح حزب النهضة في تبوؤ المركز الأول في انتخابات 2011 حاصداً 37 في المئة من الأصوات. و تحالف مع حزبين علمانيين إثنين هما التكتل والمؤتمر من أجل الجمهورية، لقيادة ما أصبح يعُرف بحكومة الترويكا بين 2011 و2013.
وفي الوقت نفسه، أُعيد فتح النقاشات في 2011 حول العمل السياسي في مقابل النشاط الدَعَوي. وكانت مسألة التخصص في العمل السياسي قد أُثيرت للمرة الأولى في العقد الأول من القرن الحالي، لكن يد القمع الثقيلة لديكتاتورية بن علي والانقسامات التي اعترت الحركة بين المنفيين وبين من بقي في البلاد منع التعمّق في هذه المسألة الحسّاسة.
خلال مؤتمر النهضة التاسع في العام 2012- وهو الأول الذي نُظِّم في تونس منذ العام 1990- برزت بجلاء وعلناً الخلافات الإيديولوجية بين الأعضاء، وانقسمت الحركة إلى معسكرين: المتشددون الذين يريدون أن تكون الشريعة أساس التشريع في الدستور التونسي الذي سيلي، والبراغماتيون الذين طالبوا بمقاربة أكثر مرونة، لكن وفي خضم هذا الانقسام، طغت التوقعات العالية للقواعد الشعبية حول تحقيق أهداف انتفاضة 2011 (خاصة منها مكافحة الفساد وتطهير المشهد السياسي) على اهتمامات كلٍ من المتشددين والبراغماتيين معا. ومع وجود قيادة حريصة على خروج المؤتمر بمظهر الوحدة، لم تُتخذ قرارات رئيسة سواء حول التخصص أو موقف الحزب من دور الشريعة في الدستور.
لم تترك المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية بصماتها على إيديولوجيا الحركة وحسب، بل كانت لها أيضاً تأثيراتها على التموضع السياسي للحزب. فحين أصبح النهضة حزباً حاكماً في تونس في العام 2011، أُجبر على إدارة الشؤون الوطنية كجزء من ائتلاف حاكم. وهذا عنى أنه يجب على الحزب التفاوض حول قضايا شائكة تتعلّق بطبيعة الديمقراطية الوليدة في البلاد مع شركائه العلمانيين في الائتلاف، وكذلك دعم التوافقات والتسويات والحلول الوسط.
وخلال العام 2013، تفاقم الاستقطاب داخل النهضة، وفي تونس عموماً، ما أشعل إوار أزمة في التجربة الديمقراطية الوليدة في البلاد. وفي يوليوز، نزلت المعارضة اليسارية إلى الشارع وهدّدت بالانسحاب من المجلس الوطني التأسيسي وعرقلة صياغة الدستور.
اندلعت هذه الاحتجاجات رداً على الاغتيال السياسي لاثنين من قادة اليسار، شكري بلعيد ومحمد براهمي، في فبراير ويونيو 2013 على التوالي، وعلى تصاعد هجمات السلفيين المُتشددين ضد قوات الأمن ومؤسسات الدولة.
وفي هذه الأثناء، في 3 يوليوز، أُطيح بالحكومة التي ترأستها جماعة الإخوان المسلمين في مصر في انقلاب عسكري أنهى عهد اللحظة الديمقراطية في البلاد.
وحينها أدرك حزب النهضة أن عليه التخلي عن بعض المواقف الإيديولوجية للحفاظ على المسيرة الديمقراطية وحماية نفسه من مصير مماثل لزملائه الإسلاميين في مصر. وهكذا، بدأ الحزب بإبرام التسويات مع ممثلي النظام القديم في وقت لاحق من ذلك العام، خلال حوار وطني لم يسبق له مثيل في تونس.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط