يروج بين خبراء الطوبونيميا أو «علم مسميات الأماكن»، أن اسم «موروكو» الذي يطلقه الغربيون على المغرب، مشتق من «مراكش»، التي تعني باللغة الأمازيغية «أرض الله».
ولعل انتساب البلاد فلسفياً للخالق، يرجع لكونه حباها بشيء من مقومات جنة الفردوس الموعودة. فإذا ازدهرت السياحة في بلدان كثيرة بفضل مقوماتها التاريخية والحضارية، أو بنياتها التحتية الحديثة والمتطورة، فإن جزءً مُهماً من الفضل في انتعاش السياحة المغربية راجع بلا شك إلى رونق طبيعته التي تَسُر ببهائها الأنظار.
ومما لا شك فيه أن جبل «أوكايمدن» بسلسلة جبال الأطلس الكبير جنوب المغرب، يُعد من تجليات التألق الطبيعي للبلاد، بيد أن وضع الإنسان هناك يقف على النقيض تماماً.
الطريق إلى «وادي الرياح الأربع»
لا يستقيم الشروع في وصف «وادي الرياح الأربع»، وهي الترجمة الحرفية عربياً لكلمة «أوكايمدن»، دون التطرق قبلاً للطريق المؤدية إليه. سِحر المناظر الطبيعية وعمق المنحدرات على امتداد أزيد من سبعين كيلومتراً، المسافة الفاصلة بين مدينة مراكش عاصمة الإقليم وأوكايمدن، يمنحان الزائر ساعة ونيف من المتعة الممزوجة بالخوف والقشعريرة. إذ يأخذ حُسن الجنوب المغربي في التجلي انطلاقاً من قرية «أوريكة» شمالاً، حيث المرتفعات المكسوة بخضرة الغطاء النباتي والأشجار الشاهقة، وحمرة التربة التي تأبى إلا أن تستعير لونها من مدينة مراكش. خُضرة الأشجار والنباتات تشرع في الاختفاء رويداً رويداً فاسحة المجال أمام بياض الثلوج، كما تُصبح المنحدرات ذات منظر مهيب وباعث على القشعريرة والدُوار، كلما توغل المتسلق صعوداً.
السياح المتجهون إلى أوكايمدن بواسطة الناقلة أو (الكار)، يمتعضون من بطء الحركة إبان تواجدهم على الطريق السيار، فيطلبون من السائق رفع وتيرة السير شوقاً للوصول في أسرع وقت، لكن سرعان ما تتلاشى عجلتهم بمجرد انتقالها لمرحلة تسلق الجبل، فتتعالى صيحاتهم المطالبة باتخاذ خطى سلحفاة خوفاً على أرواحهم، لِيجيبهم السائق محذراً من النظر صوب الأسفل بغية تجنب دُوار المرتفعات، وداعياً إياهم للاكتفاء بتأمل شموخ قمم الجبال.
(م.س)، سائق ناقلة يشتغل منذ أعوام عدة لدى شركة مرموقة في مجال النقل الطرقي على الصعيد الوطني، قطع المسافة بين مراكش وأوكايمدن مقبلاً مُدبراً مئات المرات، استغربنا رباطة جأشه فسألناه عن إحساسه وهو يقطع هذا المسار الذي أصابنا نحن معشر الركاب بوجلٍ شديد، فأتى الرد مُرفقاً بابتسامة عريضة منحتنا انطباعاً مطمئناً بأننا بين أيدِ أمينة: «كنت أقاسي الذعر نفسه في المرات الأولى، بل أكثر بكثير، خصوصاً أنني لست مسؤولاً عن حياتي فحسب بل عن عشرات المسافرين. فكرت أيما مرة في التقدم بطلب إعفائي من هذه المهمة، بل حتى تقديم استقالتي، وكان الأرق يعانقني كل ليلة تسبق هذه الرحلة فأفقد تركيزي وبرودة أعصابي… لكن مع الوقت وتكرار الرحلة مرات عدة، بات الأمر أشبه بعمل روتيني». قبل أن يستطرد بنبرة وعظ وحكمة: «السفر والمخاطر هي التي تنحت شخصية المرء».
تعايش رغد الطبيعة وضنك العيش
بين الفينة والأخرى، تشد ناظري المسافر مبانٍ على حافة المنحدرات، أو سفحها من الجهة المقابلة، يتميز معظمها بعدم اكتمال تشييده، كما يبدو أن دهراً انقضى على آخر عملية طلاء أو ترميم حظي بها… بعيداً عنها ببضعة أمتار تجلس نساء في عقدهن الرابع أو الخامس، يخبزن ويبعن خبزهن المطهو داخل أفران تقليدية بسيطة، ويترقبن مرور سيارات المسافرين التي تتردد عليهن بوتيرة شبه يومية، يستقبلنهم بابتسامة عفوية تحاكي بياض أفئدتهن الذي لا يضاهيه سوى بياض الثلوج المحيطة بالمكان. ثيابهن الرثة، تفضح واقعهن المعيشي وانتماءهن لسفح الهرم الاجتماعي.
إذا أمعن المسافر النظر في الأوضاع المعيشية التي يقبع فيها سكان هذه المنطقة النائية، المتوارية عن الأنظار، والبعيدة عن مظاهر التمدن وبذخ الحضارة، حيث الحرمان من مرافق وخدمات حيوية لا يقوى أهل الحواضر على الاستغناء عنها، يُصيبه صداع شديد، فمجرد تخيل خوض حياة على هذا النمط يثقل الكاهل ويدفعك لصرف وجدانك عن التفكير في الأمر… لكن يكفي تصويب العين على ما تزخر به المنطقة من طبيعة خلابة تروي الوجدان، واستنشاق نسمات هوائها العذراء والعفيفة من كل أشكال التلوث البيئي، لتصاب بالغبطة وتتمنى امتلاك كوخ بسيط هنا، وإن لقضاء بضعة أيام بعيداً عن صخب المدن ونمط عيشها الشره الذي يلتهم كيان الإنسان بلا شفقة.
حين تلوح قمة جبل أوكايمدن في الأفق، يصاب المسافرون بحالة ذهول مدتها دقائق عدة، إذ يصعب وصف مشهد الجبال التي تتخذ من بياض الثلوج كسوة وتعانق زرقة الفضاء، بأقل من لوحة فنية نسجتها الطبيعة، أو غلواً ومبالغةً، بقطعة من الجنة سقطت من السماء على الأرض.
تجارات بسيطة وتسول مقنع
ليس بقادر على تعكير صفو زوار هذا المكان أكثر من رؤية أطفال في عمر الزهور يرتدون ملابس بالية، يصعب حقاً تصور قدرتها على حماية أجسادهم النحيفة من صقيع هذا الموقع المرتفع عن سطح البحر بما يزيد عن 3000 متر. يجوبون المكان بحثاً عن «الغرباء» ليدخلوا وإياهم في مفاوضات تتخللها عبارات استجداء، لعلهم يشفقون على طفولتهم الموءودة، ويبتاعون منهم تلك الأعشاب التي يبيعونها بدراهم قليلة، ويدعون أنها تقي من البرد وتداوي أمراض شتى.
منتجع أوكايمدن يعد أكبر محطات التزحلق على الجليد في سائر قارة إفريقيا، ما يجعله منطقة سياحية بامتياز، تتيح لفقراء القرى المجاورة جمع بعض النقود لسد رمقهم بالكاد. بيد أن أنماط التجارة الرائجة هنا لا ترقى لأهمية المكان السياحية، لأنها بسيطة في معظمها وغير مدرة لأرباح ضخمة. ومن أغرب الأنشطة المدرة للمال هنا؛ مرحاض وحيد لمن باغته نداء الطبيعة، يتزاحم عليه الرجال والنساء على حد سواء، قد تصل مدة الانتظار للاستفادة منه إلى نصف ساعة أو أقل بقليل. أمام باب المرحاض ينتصب طفل في سن العاشرة تقريباً، يطلب درهمين مقابل السماح للزائر بقضاء حاجته، وله من فن التفاوض ما يثير الدهشة والإعجاب بالنظر لسنه، يوظفه إذا ما حاول أحدهم بخس الثمن إلى درهم واحد أو الاستفادة من المرحاض مجاناً، فيخاطبه بنبرة فيها خليط من استجداء العطف والصرامة «إذا سمحت لكل واحد منكم بالاستفادة مجاناً أو تأدية نصف المبلغ، فسأعود مساءً إلى قريتي دون النصاب اللازم، وحينها ستغضب أمي وقد تجعلني أقضي ليلتي في العراء».
استفسرنا الطفل، «ماذا عن الدراسة ؟ هل تجد وقتاً كافياً للذهاب إلى المدرسة؟»، وهو حيث يفترض أن يتواجد طفلٌ في سنه إذا أخذنا شعارات الحكومة المغربية على محمل الجد… عقب سماع السؤال رمقنا الغلام بنظرة استخفاف، ورد بنبرة سخرية سوداء: «المدرسة ؟ وهل سيعطيني المعلم مأكلاً يسد رمقي ورمق أسرتي المكونة من قرابة عشرة أنفس؟ »، يتضح من خلال أسلوب الفتى في التعبير أن السائد بين فتيان المنطقة عدم إقامة أدنى وزن للتعليم، أو أنهم على الأقل لا يضعونه ضمن أولوياتهم. أحد مستخدمي المرحاض كان سخياً مع الطفل ومنحه خمسة دراهم وهو يهم بالمغادرة، رُسمت حينذاك على محياه ابتسامة تعبق بالبساطة والبراءة، وتفضح زيف محاولاته للظهور في ثوب الراشدين. ابتسامة أغرقتنا نحن القادمين من توحش الحضارة في نقاش عميق، فتساءل بعضنا: «هل يعرف هذا الصغير أن قرينه في إحدى مدن المملكة الكبرى، لم تعد تكفيه خمسة دراهم حتى لشراء البسكويت والشوكولاتة والحلويات…
الأوفر حظاً بين المسترزقين من بهجة السياح، المتاجرون في أحذية الثلج. ذلك أن من يحل هنا أول مرة، قد يباغته عمق الثلوج على الأرض، إذ تغوص فيها الأقدام بالكامل فضلاً عن النصف السفلي من السيقان، فيصبح التنقل عصياً، ما يضطر الكثيرين لإيجار حذاء ملائم. ثمة أيضاً من يعرضون للإيجار أدوات التزحلق، وهو النشاط الأشهر والأمتع في منتجع أوكايمدن. لا ينتظر هؤلاء طلباً من الزوار، بل يبادرونهم بالكلام ويقترحون على كل من يمر عليهم تعليمه وشد أزره أثناء التزحلق.
وبالرغم من مداخيل هؤلاء المرتفعة نسبياً مقارنة بالآخرين، إلا أنهم يشكون بدورهم قسوة الأوضاع، خصوصاً خلال الأيام التي تهطل فيها الثلوج بغزارة مفرطة، متسببة في قطع الطريق وشل حركة المرور، ما يرادف أياما طوال من الكساد.
من دواعي الفخر للمواطن المغربي أن يسمع وهو عند محطة الناقلات يهم بالمغادرة، إلى سياح يتحدثون إنجليزية يفقهها، وهم يثنون على حُسن بلاده ويصفونها بجنة الله فوق الأرض، ويخوضون منذ الآن في برنامجهم السياحي لدى عودتهم إلى المغرب العام القادم.. لكن كم يحز في النفس أن تنقلب عبارات الثناء والإطراء إلى جُمل استغراب واستفهام، عن بواعث الظروف الاجتماعية القاسية التي تدفع أولئك الأطفال إلى امتهان التسول وترك المدرسة، سيما وهم يُخضعون واقع المنطقة الاجتماعي لمقارنة مجحفة بمناطق شبيهة في قارة أوروبا… كم تحتاج أوكايمدن وغيرها من جبال المغرب العميق، كي تصبح جنة لأهاليها مثلما هي بالنسبة للسياح ؟