“كورونا” في زمن الرأسمالية.. لا فلسفة ولا نظريات؟
هل هدم “كورونا” فكرة الفلسفة والنظريات الاجتماعية؟ وهل بات خوفنا مادة للاستثمار بيد النظام الرأسمالي؟على اعتبار أن الصحة ليست مُجرّد موضوع مُحايد للبحث الفلسفي، بل هي الورشة الخلفية لظهور الفلاسفة واختيار أدواتهم، كما يفترض الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، يبرز فيروس “كورونا” بقوّة كمحور لنقاشات المهتمّين بالفلسفة: بعضهم يرى أنه فكَّك نظرية صراع الحضارات لهينينغتون، وأن وجوده ألغى معالم العولمة بمعناها التقليدي، آخرون وصفوا الفيروس التاجي بأنه عطّل فكرة الفرد ككيان أخلاقي، وهدم الفلسفة، في حين أبرز البعض استثمار النظام الرأسمالي للخوف من “كورونا” بغية مزيد من التحكّم في حياة الناس وسلوكياتهم وتقييد حرياتهم، من خلال إعادة الاعتبار لـ”الدولة الأمنية”، وآخرون رأوا أنه استطاع بناء نظرية أخرى لنهاية التاريخ بشكل يخالف ما قاله فوكوياما، وغير ذلك. في هذا التحقيق نسعى للتعرّف على بعض تلك الآراء.
فيروس “يهدم” فكرة الفلسفة
الباحث في الفلسفة السوري يحيى زيدو وفي إجابته للميادين الثقافية عن سؤال: “هل بالإمكان مُقاربة فيروس كورونا فلسفياً؟” أوضح أنه بعد انتشار “كوفيد 19” على مستوى العالم، لم يعد حالة طبية فقط، ولم يبقَ مجرّد وباءٍ تحوّل إلى جائحة عالمية تُرعِب الناس، وتذكّرهم بأوبئة انتشرت في زمن سابق مثل الطاعون، أو “الحمى الإسبانية”، وجائحات فيروسية أخرى مثل “سارس”، و”إيبولا”، و”إيدز” وغيرها، إنما «عطّل فايروس كورونا فكرة الفرد ككيان أخلاقي، وهدم فكرة الفلسفة التي تعتبر الإنسان مركز الكون»، مُستشهداً بالإجراءات التي يتم التعامل بها مع البشر في المطارات والأسواق والمحلات التجارية والتي تظهر بأن الفرد لم يعد ذاتاً إنسانية بقدر ما هو “جسد” مشكوك به أنه حامِل للعدوى.
يبيّن زيدو أن تلك الإجراءات أصابت جوهر الفرد وخصوصيّته وأخلاقياته، وأعادت إلى الأذهان ثقافة مقبورة هي ثقافة الخوف؛ الخوف من الآخر بشكل خاص، الخوف من مساحة الوباء غير المرئية المُختبئة في أجساد الآخرين التي تحوّلت إلى دوائر حيوانية تنفث العدوى. وتحوّل الإنسان، بهذا المعنى، إلى شيء من أشياء الوجود بعدما كان ذاتاً مُتعالية على المعرفة، وكأن في ذلك عودة مرة أخرى إلى مقولة “موت الإنسان” التي أطلقها فرنسيس فوكوياما في لحظة نشوة بانتصار الرأسمالية.
الفرد باعتباره خطراً مُحدقاً
ويوضح الباحث السوري أن النظام الرأسمالي الذي اختزل العالم بالحرب والملكية والاستهلاك، ينجح اليوم في تحويل الفرد إلى خطر مُحدق بالنسبة للأفراد الآخرين، قائلاً: «لا مكان في الفضاء الرأسمالي يتّسع للجميع، لأن كل إنسان هو عدو للآخر، أو “ذئب لأخيه الإنسان” كما يقول هوبز.
وفي حالات الأزمات الاقتصادية الكبرى فإن النظام الرأسمالي غالباً ما يقوم بتوجيه أنظار الناس نحو أحد الكوارث الكبرى للتحكّم في حياة الناس وسلوكياتهم، وهذا بحد ذاته أخطر من الكارثة ذاتها، لأن الغرب الرأسمالي الذي استبدل “السلطة العقابية” بـ”السلطة الحيوية”، التي تقوم على ضبط حركة ورغبات الناس والتحكّم بمصائرهم، حسب تعبير الفرنسي ميشيل فوكو، يعمل على تشكيل الفرد اللاإنسان، لأنه يتعامل مع الوباء من موقع الموارد وندرتها، من منطلق نظرية (مالتوس) حول تناسب الموارد مع زيادة عدد السكان».
ويرى زيدو أن هذا ما يحصل في بريطانيا التي تخطّط حكومتها كي يصاب 60% من السكان بـــ “كورونا” من أجل إكساب السكان نوعاً من المناعة الناجمة عن الإصابة بالفيروس، من دون أيّ رادع أخلاقي ينجم عن وفاة عدد من كبار السن أو ضعيفي المناعة.
كما تتعرّض الحكومة الإيطالية لانتقادات كثيرة باعتبار إجراءاتها هي نوع من محاولة توسيع السيطرة على الناس والحد من حرياتهم، إضافة إلى أن الانتقادات الغربية لدولة عظمى مثل الصين أجبرت الصين على القيام بدور «الحارس الطبي للعالم»، بحسب توصيف زيدو الذي يؤكّد ان “كورونا” سيفرض علينا إعادة النظر في تصوّرنا عن الحرية الفردية، فنحن نعيش في عالم واحد وعلينا أن نتجاوز مخاطره مجتمعين، وهذا يُعيد الاعتبار للطبيعة التي تقول كلمتها الآن بعد كل محاولات الإنسان الاعتداء عليها، الطبيعة تعود اليوم إلى مركز اللعبة و”علينا جميعاً أن نتعلّم كيف نقتسم سكنى العالم”، كما يقول هايدغر.
نهاية تاريخ جديدة
أما المغربي ادريس هاني فأوضح للميادين الثقافية أن “كورونا” تحسّس خطوط الصدع الثقافية والعرقية والقومية التي قامت عليها نظرية الصِدام الحضاري، وفكّك أساطير العولمة، حين فرض “هروب المسافات”، راسماً خطوط صدع جديدة على أساس المشترك الإنساني نفسه الذي تتيحه سيكولوجيا الهلع الجماعي، مؤكّداً نهاية العمل بالنموذج الحضاراتي الذي رسمه هنتنغتون، فالعزل الذي تصبوا إليه نظرية الصِدام لا سيما في موضوع الهجرة، حقّقته من زاوية أخرى “الصحة العالمية” عندما وضعت العالم من دون تمييز في حجر صحّي.
ينبِّه هاني إلى أنه لم يعد بالإمكان الحديث عن نهاية التّاريخ تماماً بالمعنى الذي ذهب إليه فوكوياما في زمن التّسيّب الرأسمالي بعد أن تأكّد أنّ الغرب بات قلقاً، وبعد أن باتت الصين تعرض خدماتها الصحية والإنقاذية على أوروبا العجوز، قائلاً: «لقد فرض فيروس كورونا المُستجد صوَراً أخرى لنهايات التّاريخ، ومنح لمُكر التاريخ الهيجيلي الكثير من العنفوان؛ مَن ينقذ العالم من كورونا هو مَن يملك كتابة التاريخ البشري، وما خفي على هنتنغتون في نظرية الصدام وعلى فوكوياما في نظرية النموذج الأخير هي الطواعين التي فرضت برنامجاً مختلفاً يجعل المجاعة في مراكز الوفرة والرأسمال أمراً وارداً بالفعل، كما يفرض تقسيماً جديداً غير الشمال/الجنوب. لقد طارد كورونا رأس المال وحاصر المُضاربات وجعل فكرة عبور الحدود جزءاً من التّاريخ».
كورونا وفِطام العقل
تلك جائحة قد تكون نموذجية لتغيير عاداتنا العقلية والحضارية بحسب المفكر المغربي، إذ لا زالت مراكز القوى تشتغل وفق دفتر تحمّلات لم يعد يجدي نفعاً، فالتلويح بالحرب في زمن كورونا عبث، وسياسات الحصار والإرغام في زمن الحجر الصحي لا جدوى منها، بل حتى التلويح بحرب نووية لم تعد تخيف العالم، لأنّ لا أسوأ من وباء فتّاك يخترق الحدود من دون تأشيرة دخول.
ويقول هاني في هذا الصَدَد: إن «الذي يحدث اليوم ليس هو النهاية بل هو تمرين على تبديل السلوك، لأن الوباء سيغيّر من طريقتنا في التفكير تحت ضغط الهلع الكوني، وهذا من شأنه توفير البيئة الضرورية لتحقّق انقلاب الذهن البشري وانزياح ذلك الجليد المانع من تدفّق الجداول الأخرى من منابع العقل الممكنة. سيفرض كورونا إن استفحل تواضع هذا الإمكان الحضاري اليوم، لكن سيتجلّى الذكاء البشري فقط حين يتحقّق الاستيعاب التام لهذه الحقيقة، أي حتمية الانقلاب الذهني وخضوع الدماغ لنمط في التفاعل مختلف، فالشرط البيولوجي لهذا الانقلاب يتيح اختلافاً في التفاعل والاهتمام والتموضع، لقد تمّ استنزاف هذه المساحة من العقل البشري وآن للبشرية أن تدخل في مرحلة فطام جديد، وليس أفضل من كورونا وسيلة لذلك الفطام».
فيروس الإيديولوجيا
الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك تساءل ضمن مقالٍ له بعنوان «كورونا.. فيروس الإيديولوجيا» عن الهوَس بهذا الفيروس، رغم أن ضحاياه ما زالوا رقماً صغيراً إذا ما قورنوا بضحايا “الإنفلونزا الإسبانية” التي أودت بحياة 50 مليون شخص بين عامي 1918 و1920، مُرجعاً الأسباب إلى أن «البارانويا العنصرية تعمل» في حالة الفيروس الذي انطلق من ووهان الصينية، إضافةً إلى أن التكنولوجيا بقدر ما تجعلنا أكثر استقلالية عن الطبيعة، فإنها من ناحية أخرى تجعلنا أكثر تبعية لتقلّباتها، وبالتالي «كلما كان عالمنا أكثر ارتباطاً ببعضه، استطاعت كارثة محلية إطلاق خوف عالمي، وفي نهاية المطاف كارثة».
لكن جيجيك في الوقت ذاته ينظر إلى النصف الملآن من الكأس/المحنة، معتبراً أن أوقات الفراغ قد تكون حاسمة لإعادة إحياء تجربة حياتنا، والتفكير بمعنى “لا معنى” أوضاعنا، زاعماً أنه يمكن حتى للأحداث المروّعة أن تكون ذات نتائج إيجابية غير متوقّعة، مُستعيراً موقف الأميركي فريدريك جيمسون أهم ناقدي الرأسماليّة المعاصرة الذي اعترف أيضاً بالإمكانيّة اليوتوبيّة للكوارث الكبرى، حين تجد البشريّة نفسها في مواجهة حقيقة أن الجميع يبحر في وجه العاصفة في ذات المركب المثقوب.
الفيلسوف السلوفيني يعتقد أن محاربة هذا الفيروس لن تكون عبر العزلة والحجر الصحي، بل هناك حاجة إلى تضامن كامل غير مشروط واستجابة منسّقة على المستوى العالمي، شكل جديد لما كان يسمّى في ما مضى “الشيوعية”، من دون أن يحدّد ملامح تلك «الشيوعية الحتمية»، ولا أن يضع مرتكزاتها النظرية، ما جعل الناقد والباحث الثقافي سعيد محمد يقول عن شيوعية جيجيك الموعودة: «شيوعيته ليست سوى فاشيّة دوليّة جديدة، نوعاً من إمبرياليّة بلا عنوان بريدي محدّد، إمبراطوريّة معولمة على نسق تهويمات أنطونيو نيغري ومايكل هاردت في ثلاثيتهم المشهورة “الإمبراطوريّة”، وبيروقراطيّة فوق السيادات المحليّة أشبه بمنظمة الصحة العالميّة وقد منحت صلاحيّات شرطيّ العالم».
الأوبئة الحداثوية وحروب المناعة والدولة الأمنية
من جهته، يؤكّد استاذ الفلسفة في جامعة تونس فتحي المسكيني في مقال له بعنوان “الفلسفة والكورونا: من معارك الجماعة إلى حروب المناعة”، يؤكّد أنه لا يمكننا اليوم أن “نفهم” فيروس “كورونا” الذي يهدّد باجتياح العالم إلاّ بالنظر إلى اكتشاف الفيروسات منذ 1892 الذي غيَّر معنى الحياة، بوصفه انقلاباً في السياسات “الوبائية” الكبرى للحداثة، بعد الانتقال من عصر الأمراض التقليدية (حيث لا يزال للناس “أجساد” خاصة، وبالتالي هويات صحّية مستقلة يمكن حمايتها أخلاقياً)، إلى عصر الفيروسات (حيث يصبح “الجسم” العضوي مساحة للعدوى مفتوحة لا معنى فيها لأيّ احتياط أخلاقي).
ويدعو المسكيني إلى الاستضاءة بطريقة فوكو في كتابة تاريخ وباء الطاعون بوصفه ورشة “بيو – سياسية” لدراسة نشأة العلاقة بين المعرفة والسلطة التي مثّلت الوجه الخفي لواقعة “الحداثة” الأوروبية. والفكرة الهادية هي أنّ الصلة التاريخية بين الحداثة والأوبئة ليست عرضية، بل هي جزء أصيل من هويتها الأخلاقية.
ويضيف المسكيني: «إنّ نشر الخوف يمكن أن يتحوّل إلى سلاح وبائي ما بعد حديث ضد الجموع يختزلها في مجرّد مساحات للعدوى بلا أي نوع حقيقي من الحماية. وبذلك تسترجع الدولة الأمنية كلّ نجاعتها البيو-سياسية التي فقدت شطراً واسعاً منها باسم قِيَم الديمقراطية. وعندئذ علينا أن نسأل: هل من الجائز افتراض نيّة بيو- تكنولوجية لتحسين النوع البشري من خلال تصنيع فيروس “كورونا”، واختباره بوصفه يستند بوجه أو بآخر إلى سياسة بيو- سياسية تتلاعب جينيّاً أو وراثيّاً بالطبيعة البشرية، سواء أن كان ذلك بشكل مقصود (في المخابر) أو غير مقصود (بسبب سياسات سيّئة في الصحة أو الغذاء أو البيئة)؟
إلى أيّ مدى يمكننا أن نفترض هروب الفيروسات من المخابر (وهو احتمال يتم تكذيبه إلى الآن) وتحوّلها، مستقبلاً، إلى تهديد يطول كل مساحة “المناعة” الجسدية، ولا تصمد أمامه أيّة حدود هووية للـ”جماعة” مهما كان شكلها؟».
حول هذه النقطة يقول المسكيني «إنّ ما يحدث مع “كورونا” يشبه ما شخّصه فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة” (1975) عن طريقة الدولة في معالجة وباء الطاعون بوصفه نموذجاً سائداً لمنطق الحجر الصحي: إخلاء الشوارع والساحات من البشر، حيث لا يحقّ التجوال إلاّ للشرطة أو الجيش. ها هنا تصبح الصحّة مشكلاً أمنيّاً لا علاقة له بأيّ أخلاق أو دين. لا يفعل فوكو هنا سوى وصف المستقبل البيو- سياسي للجموع ما بعد الحديثة حين تحل الكارثة: تلك التي تنقل الناس من معارك “الجماعة” إلى حروب “المناعة”».
يبدو الجسد، كما يرى المسكيني، بمثابة مجموعة لا متناهية من الأمكنة التي تجمّعت من دون سبب واضح في موضع واحد. وكوّنت “فرداً”. ولذلك، فإنّ خطورة المرض وطرافته الحادة، إنّما تكمن في كونه شروعاً أخرس في هدم المكان، ومن ثمّ في تعطيل فكرة “الفرد” من الداخل. عندئذ يعود الفرد ليس إلى قفص الجماعة، بل إلى محيط المناعة الحيوية التي تخترقه مثل نبتة خرساء في سلسلة وراثية لا تراه.
المصدر: الميادين نت