الحجر: من الممنوع السياسي إلى المحرم الديني
في قاموس العالم العربي كما في بلدان شمال أفريقيا، لا يحيل مفهوم الحجر على أمر انتشار الوباء أو الجائحة كالكوليرا أو الطاعون أو الجذام وغيرها، بل إنه يحيل على تفسيرات وتأويلات أخر. فمنذ قرون والمواطن في هذه المنطقة الجغرافية موضوع تحت “حجر” آخر، من خلال “التكميم” السياسي والنقابي والثقافي، ويبدو العالم العربي وشمال أفريقيا كـ “معزل” أو “محجر” جماعي وُضعت فيه شعوب مصابة بوباء معين، هو وباء البحث عن “الحرية”.
أمام هذا الوضع، تبدو الشعوب العربية والمغاربية كأنها في حجر على مدى الحياة، قد يتغير القائد الذي يقف وراء قرار الحجر لكن الحجر قائم لا يتغير، أو قليلاً، أي من حجر مشدّد إلى حجر مخفّف، إلى حين.
كورونا… شر البلية ما يضحك!
وكلمة “حجر”، في الخطاب السياسي للأنظمة العربية والمغاربية، تعني “حجب الحرية” عن الأفراد أو الجماعات، حجب حرية التنقل وحجب حرية التبادل الحر للأفكار، بهذا المعنى، وفي عين الأنظمة الديكتاتورية، فالشعوب الحرة يجب أن تدخل الحجر لأنها خطر على النظام العام، والنظام العام هو ما تمليه السلطة القائمة من قوانين، هدفها إطالة حبل حياتها.
يولد المواطن العربي والمغاربي وفي فمه “كمامة” منذ الصغر، وتولد المرأة في هذا الوطن وعلى وجهها حجاب أو نقاب، وهذا ما تمكن تسميته بالحجر مدى الحياة، حجر ديني وسياسي.
يعبر المواطن في هذه المنطقة الجغرا-سياسية حياته في شكل حجر متواصل، من الممنوع السياسي إلى المحرّم الديني.
ما بين خطاب السياسي الطاغية الذي يستبيح مصطلحات الوطنية والقومية والدفاع عن فلسطين وخطبة الإمام السلفي الذي يدعو إلى الجنة ويبيع صكوك الجنة ويفتي بالتكفير والتقتيل والجهاد، يعيش المواطن العربي والمغاربي في حجر، وقد ضرب عليه بقوة “الممنوع”.
لقد ظلّ مصطلح “الحجر” دارجاً في قاموس السياسيين الطغاة عبر التاريخ، استعمله ستالين وهو يبعث بخيرة المثقفين والسياسيين والمبدعين إلى سيبيريا، فمن كان يُشحن إلى هذه المنطقة كان يُعتبر شخصاً “محجوراً” عليه، لأنه يشكّل خطراً على البقية، خطراً سياسياً وفكرياً وإبداعياً، كما أن الأعداد الكبيرة من المواطنين المقاومين الذين رُحّلوا من الجزائر إلى كاليدونيا الجديدة نهاية القرن الـ 19 من قبل السلطات الفرنسية الاستعمارية، عبارة عن عملية “حجر” عليهم لأنهم انتفضوا ضد الوجود الكولونيالي، وهو ما يفسّر خوف الاستعمار من هذه “الجائحة” السياسية التي قد تصيب الآخرين، بالتالي تشكّل خطراً على وجوده في الأساس، كما أن مؤرخي الثورة الجزائرية ذكروا لنا عدداً كبيراً من أسماء الشخصيات السياسية التي كانت توضع تحت الحجر في مدن وقرى داخلية بعيدة، حيث تُمنع من الحركة أو الاتصال بالساكنة، لأنها في عين الاستعمار وباء على الآخرين وخطر على “السلم” العام، كما يراه المستعمِر.
وظهر جلياً أيضاً في قاموس الطغاة مفهوم “الإقامة الجبرية” وهو تعبير عن “الحجر” وأيضاً مصطلح توأم لـ “السجن”
لقد ذاق المثقفون الجزائريون من مرارة “الحجر” السياسي والديني أيضاً في العهد الاستعماري كما في عهد الدولة الوطنية المستقلة التي تأسست ابتداء من 1962، فمن الشاعر والمناضل الكبير بشير حاج علي إلى المفكر الإسلامولوجي محمد أركون، عرفت “الإنتلجانسيا” الجزائرية الحجر ببعدَيْه السياسي والديني.
ظل محمد أركون محجوراً عليه في وسائل الإعلام الجزائرية، ممنوعاً أن يظهر أو يتكلم من خلالها، وهذا “حجر” ديني فرضه عليه الشيخ محمد الغزالي ويوسف القرضاوي حينما كانا صاحبَيْ الحلّ والربط في الجزائر في ثمانينيات القرن الماضي، أي في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد، فعاش المفكر محمد أركون غريباً معزولاً عن شعبه وقرّائه وبلده، وقد صُوِّر للجزائريين من قبل “الكهنوت” الديني على أساس أنه الشخص صاحب “الفتنة” الكبرى، وقد مات البروفيسور محمد أركون ودُفن في المغرب وفي قلبه شيء من يوسف القرضاوي وأتباعه.
ونحن نحتفل بالذكرى الـ 29 لوفاة الشاعر والمناضل بشير حاج علي، توفي في الثامن من مايو 1991، فإنّ ما عاشه هذا المثقف الاستثنائي في حياته، يجسّد مفهوم “الحجر” السياسي بوضوح، وبشير حاج علي واحد من أكبر الشعراء في الجزائر الذين يكتبون باللغة الفرنسية، وهو أيضاً باحث في الموسيقى الشعبية الجزائرية وله فيها بحوث كثيرة ومتميزة، وهو مجاهد منذ الساعة الأولى لانطلاق الثورة التحريرية في البلاد في الفاتح من نوفمبر 1954، وهو أيضاً الأمين العام للحزب الشيوعي الجزائري سنوات الثورة، إنّه مثقف كامل.
والشاعر بشير حاج علي هو المناضل الذي قاد الحوار السياسي الحاد مع القيادة العليا لجيش التحرير الوطني أيام الثورة، من أجل البحث عن طرق لالتحاق تنظيم “مقاتلي الحرية” (Les combattants de la liberté) وهو الجناح العسكري للحزب الشيوعي الجزائري، بصفوف جيش التحرير الوطني كي تتم وحدة صفوف الثورة.
بعد استقلال الجزائر في الخامس من يوليوز 1962، كان بشير حاج علي، أحد مؤسسي اتحاد الكتاب الجزائريين إلى جانب الكاتب مولود معمري والشاعر جان سيناك ومفدي زكريا ومراد بوربون وقدور محمصاجي وغيرهم. كان على جبهة الكتابة والأدب والثقافة والسياسة لأنه ظل مؤمناً بأن لا طلاقاً بين الثقافة والسياسة، لا انفصالاً ما بين السياسي والفنان.
حين انقلب الكولونيل هواري بومدين وهو وزير للدفاع آنذاك على الرئيس أحمد بن بلة عام 1965، وألقى به في جُحْر الحَجْرِ، عارض الشارع والمناضل والمثقف بشير حاج علي هذا الانقلاب العسكري، واعتبره الطريق الذي لن يوصل الجزائر الجديدة إلى التداول على السلطة وبناء الديمقراطية والعدالة الاجتماعية التي ضحّى لأجلها مليون ونصف مليون من الشهداء، وعلى الفور، ورداً على موقفه هذا، أمر الرئيس بومدين قائد الانقلاب بوضعه في السجن، ليعرف كل أشكال التعذيب في السجن، التي صوّرها بشكل دقيق في كتابه المعنون بـ”العسف” باللغة الفرنسية (L’arbitraire) صدر عام 1966 بباريس.
وعام 1968، أُطلق سراح الشاعر والمناضل بشير حاج علي من سجن لامبيز، وهو واحد من أصعب السجون منذ أيام الاستعمار، ليتم وضعه تحت “الحجر” السياسي، إذ سيُنقل إلى مدينة سعيدة أولاً ثم مدينة عين الصفراء، وهما مدينتان تقعان في الجنوب الغربي للجزائر، على بعد 800 كيلومتر تقريباً من العاصمة. وفي هذا الحجر الذي سيظل فيه حتى عام 1974، سيكون ممنوعاً عليه الاتصال بالناس، ممنوعاً عليه الخروج من مكان الحجر، وهو مطالب بتوقيع وثيقة إثبات حضور يومية.
فإذا كان البروفيسور محمد أركون قد مثّل ظاهرة الحجر الديني بشكل نموذجي، فإنّ المثقف والشاعر بشير حاج علي مثّل بالفعل ظاهرة الحجر السياسي.
وإذا كان المواطن العربي والمغاربي قد وُلد وعلى فمه كمامة سياسية أو نقاب ديني، كعلامة على الحجر السياسي والديني، فإنّ جائحة كورونا قد زادته حجراً ثالثاً.
المصدر: المقال منشور في أندبنت عربية