“كورونا” في زمن الرأسمالية..لا فلسفة ولا نظريات؟..الأوبئة الحداثوية وحروب المناعة والدولة الأمنية 2/2
هل هدم “كورونا” فكرة الفلسفة والنظريات الاجتماعية؟ وهل بات خوفنا مادة للاستثمار بيد النظام الرأسمالي؟
فيروس الإيديولوجيا
الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك تساءل ضمن مقالٍ له بعنوان «كورونا.. فيروس الإيديولوجيا» عن الهوَس بهذا الفيروس، رغم أن ضحاياه ما زالوا رقماً صغيراً إذا ما قورنوا بضحايا “الإنفلونزا الإسبانية” التي أودت بحياة 50 مليون شخص بين عامي 1918 و1920، مُرجعاً الأسباب إلى أن «البارانويا العنصرية تعمل» في حالة الفيروس الذي انطلق من ووهان الصينية، إضافةً إلى أن التكنولوجيا بقدر ما تجعلنا أكثر استقلالية عن الطبيعة، فإنها من ناحية أخرى تجعلنا أكثر تبعية لتقلّباتها، وبالتالي «كلما كان عالمنا أكثر ارتباطاً ببعضه، استطاعت كارثة محلية إطلاق خوف عالمي، وفي نهاية المطاف كارثة».
لكن جيجيك في الوقت ذاته ينظر إلى النصف الملآن من الكأس/المحنة، معتبراً أن أوقات الفراغ قد تكون حاسمة لإعادة إحياء تجربة حياتنا، والتفكير بمعنى “لا معنى” أوضاعنا، زاعماً أنه يمكن حتى للأحداث المروّعة أن تكون ذات نتائج إيجابية غير متوقّعة، مُستعيراً موقف الأميركي فريدريك جيمسون أهم ناقدي الرأسماليّة المعاصرة الذي اعترف أيضاً بالإمكانيّة اليوتوبيّة للكوارث الكبرى، حين تجد البشريّة نفسها في مواجهة حقيقة أن الجميع يبحر في وجه العاصفة في ذات المركب المثقوب.
الفيلسوف السلوفيني يعتقد أن محاربة هذا الفيروس لن تكون عبر العزلة والحجر الصحي، بل هناك حاجة إلى تضامن كامل غير مشروط واستجابة منسّقة على المستوى العالمي، شكل جديد لما كان يسمّى في ما مضى “الشيوعية”، من دون أن يحدّد ملامح تلك «الشيوعية الحتمية»، ولا أن يضع مرتكزاتها النظرية، ما جعل الناقد والباحث الثقافي سعيد محمد يقول عن شيوعية جيجيك الموعودة: «شيوعيته ليست سوى فاشيّة دوليّة جديدة، نوعاً من إمبرياليّة بلا عنوان بريدي محدّد، إمبراطوريّة معولمة على نسق تهويمات أنطونيو نيغري ومايكل هاردت في ثلاثيتهم المشهورة “الإمبراطوريّة”، وبيروقراطيّة فوق السيادات المحليّة أشبه بمنظمة الصحة العالميّة وقد منحت صلاحيّات شرطيّ العالم».
الأوبئة الحداثوية وحروب المناعة والدولة الأمنية
من جهته، يؤكّد استاذ الفلسفة في جامعة تونس فتحي المسكيني في مقال له بعنوان “الفلسفة والكورونا: من معارك الجماعة إلى حروب المناعة”، يؤكّد أنه لا يمكننا اليوم أن “نفهم” فيروس “كورونا” الذي يهدّد باجتياح العالم إلاّ بالنظر إلى اكتشاف الفيروسات منذ 1892 الذي غيَّر معنى الحياة، بوصفه انقلاباً في السياسات “الوبائية” الكبرى للحداثة، بعد الانتقال من عصر الأمراض التقليدية (حيث لا يزال للناس “أجساد” خاصة، وبالتالي هويات صحّية مستقلة يمكن حمايتها أخلاقياً)، إلى عصر الفيروسات (حيث يصبح “الجسم” العضوي مساحة للعدوى مفتوحة لا معنى فيها لأيّ احتياط أخلاقي).
ويدعو المسكيني إلى الاستضاءة بطريقة فوكو في كتابة تاريخ وباء الطاعون بوصفه ورشة “بيو – سياسية” لدراسة نشأة العلاقة بين المعرفة والسلطة التي مثّلت الوجه الخفي لواقعة “الحداثة” الأوروبية. والفكرة الهادية هي أنّ الصلة التاريخية بين الحداثة والأوبئة ليست عرضية، بل هي جزء أصيل من هويتها الأخلاقية.
ويضيف المسكيني: «إنّ نشر الخوف يمكن أن يتحوّل إلى سلاح وبائي ما بعد حديث ضد الجموع يختزلها في مجرّد مساحات للعدوى بلا أي نوع حقيقي من الحماية. وبذلك تسترجع الدولة الأمنية كلّ نجاعتها البيو-سياسية التي فقدت شطراً واسعاً منها باسم قِيَم الديمقراطية. وعندئذ علينا أن نسأل: هل من الجائز افتراض نيّة بيو- تكنولوجية لتحسين النوع البشري من خلال تصنيع فيروس “كورونا”، واختباره بوصفه يستند بوجه أو بآخر إلى سياسة بيو- سياسية تتلاعب جينيّاً أو وراثيّاً بالطبيعة البشرية، سواء أن كان ذلك بشكل مقصود (في المخابر) أو غير مقصود (بسبب سياسات سيّئة في الصحة أو الغذاء أو البيئة)؟
إلى أيّ مدى يمكننا أن نفترض هروب الفيروسات من المخابر (وهو احتمال يتم تكذيبه إلى الآن) وتحوّلها، مستقبلاً، إلى تهديد يطول كل مساحة “المناعة” الجسدية، ولا تصمد أمامه أيّة حدود هووية للـ”جماعة” مهما كان شكلها؟».
حول هذه النقطة يقول المسكيني «إنّ ما يحدث مع “كورونا” يشبه ما شخّصه فوكو في كتابه “المراقبة والمعاقبة” (1975) عن طريقة الدولة في معالجة وباء الطاعون بوصفه نموذجاً سائداً لمنطق الحجر الصحي: إخلاء الشوارع والساحات من البشر، حيث لا يحقّ التجوال إلاّ للشرطة أو الجيش. ها هنا تصبح الصحّة مشكلاً أمنيّاً لا علاقة له بأيّ أخلاق أو دين. لا يفعل فوكو هنا سوى وصف المستقبل البيو- سياسي للجموع ما بعد الحديثة حين تحل الكارثة: تلك التي تنقل الناس من معارك “الجماعة” إلى حروب “المناعة”».
يبدو الجسد، كما يرى المسكيني، بمثابة مجموعة لا متناهية من الأمكنة التي تجمّعت من دون سبب واضح في موضع واحد. وكوّنت “فرداً”. ولذلك، فإنّ خطورة المرض وطرافته الحادة، إنّما تكمن في كونه شروعاً أخرس في هدم المكان، ومن ثمّ في تعطيل فكرة “الفرد” من الداخل. عندئذ يعود الفرد ليس إلى قفص الجماعة، بل إلى محيط المناعة الحيوية التي تخترقه مثل نبتة خرساء في سلسلة وراثية لا تراه.
المصدر: الميادين الثقافية نيت