في الواجهة

عن الفقيد رشيد نزهري أحكي

الكاتب محمد الهجابي

في بدايات الثمانينات كنت ضمن الوفد الذي استقبل فقيدنا جميعا المناضل المقتدر والرجل الطيب والمحامي المائز رشيد نزهري عند البوابة البرانية للسجن المركزي بالقنيطرة بعدما قضى أزيد من العقد من السنين داخل عنابره برسم انتمائه السياسي إلى منظمة 23 مارس المغربية.

وفي المساء من اليوم نفسه انتقلنا برفيقنا أنا والصديق أحمد شوقي بنيوب إلى شقة صغيرة بزنقة وادي سبو بمركب سكني رقم 30 بحي أكدال بالرباط؛ وهي الليلة الأولى التي سيمضيها رفيقنا رشيد خارج أسوار السجن.

أذكر أننا في الليلة المشهودة تلك لم نتحادث عن طبيعة السجن وأهواله بقدر ما وسعنا الكلام في ما تبدل من أحوال مدينة الرباط وما لم يمسسه الزمن بتغيير.

كان الفقيد يصغي باهتمام. لم تمكنه الظلمة النازلة يومها من إدراك حقيقة اللحظة التي كانت تمر منها دخيلته في كامل حيزاتها وقد ترك، بعد حين، الأسوار خلفه هناك بالقنيطرة. أذكر أسئلته عن هذا المكان أو ذاك.

في تلك الليلة لم ننم مبكراً. كان رشيد يتجه، من وقت إلى آخر، نحو البالكون ليرفع عينيه إلى السماء المرقشة بنجوم. ماذا كان رشيد يشاهد؟ وهل كان يتوسل في ذلك بعينه البرانية أم بعينه الجوانية؟ وهل نام رشيد تلك الليلة؟ أقصد هل أثقل النوم جفنيه فنام؟

أبكر رشيد إلى البالكون في اليوم التالي. شاهدته من خلل زجاج البالكون يدفع بنصف جسده الهزيل والناخص إلى الأمام يروز المكان ناقلاً بصره بين حدي زنقة وادي سبو وبين البيوتات في الضفة الأخرى . ترى ماذا كان يدور في بال الرجل؟ وحينما زايلنا الشقة إلى شارع فرنسا لكي نأخذ وجبة فطور بمقهى قريب من محطة القطار_ المدينة، ولربما كانت مقهى السفراء، جرى أن خالف الفقيد الصعود إلى حافلة الأطوبيس، إذ بادر إلى الصعود من الباب الخلف – وفق ما جرت به العادة في السبعينات – بينما بات الصعود من الباب الأمام مثلما أفتت به أحوال الثمانينات ! وكانت تلك أولى الطرائف التي وقفنا عليها أنا وشوقي بنيوب ونحن نفسر للفقيد الأحوال الطارئة في عهده الجديد ذاك؟ كان مقر جريدة أنوال، قبالة مقهى الباهية بشارع محمد الخامس، هو المحطة التالية حيث احتشد الرفاق لكي يبصموا على تلك اللحظة التاريخية بما تمثله من رمزية في تاريخ المنظمة واليسار المغربي بعامة.

للفقيد مكانة خاصة في دخيلتي شخصياً؛ وهي المكانة عينها التي يحتلها في نفس كل من صاحبه وجايله وخادنه ورافقه وتعرف إليه. وها إن “كورونا”
تغدر بنا فتسلبه منا على حين غرة. كورونا لم تختطف منا رفيقاً عزيزاً فقط وإنما، إلى ذلك، سلبت منا، للأسف، ذاكرة هي جزء من ذاكرتنا الجماعية والمشتركة.

باعتقاله والزج به في السجن في السبعينات يكون رشيد نزهري قد منح قسطاً وافراً من شبابه من أجل الوطن والخبزوالديمقراطية؛ الوطن بما يعنيه من وحدة ترابية، والخبز بما يدل عليه من حقوق شعبية اجتماعية واقتصادية، والديمقراطية بما تحيل عليه من مواطنة ومؤسسات وسياسة. وبامتهانه لمهنة المحاماة يكون رشيد قد كرس وقتاً من كهولته للدفاع عن القانون ودولة القانون.

كان الرجل مكافحاً وصبوراً. لم تكن الابتسامة تفارق محياه. أنت ترى رشيد فترى الابتسامة تسبقه إليك مدفوعة بذراعين ممدودين على وسعهما. كان رجلاً حيياً وحبوباً يجد سبيله بسهولة نحو القلوب والأفئدة والمهج. منذ ولج الفضاء الأزرق لم يترك الفقيد فرصة لكي يمد اليد بالمصافحة والتهنئة والترحيب والمؤازرة والمواساة والتشجيع. وتلكم من شمائله وخصاله الحميدة الضاربة. كم سنفتقدك أيها العزيز ! لم نكن ننتظر هذا الخبر الفاجع والصادم. حقاً لم نكن ننتظره.

لترح روحك بسلام، والعزاء إلى أسرتك الفاضلة ورفاقك الأوفياء ولكل محبيك وأصدقائك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى