محمد الحبيب طالب يكتب: … وإن غدا لناظره قريب
عندما كتبت مقالة “الشهيد عمر ومسألة القومية”، والتي أعادت جريدة الاتحاد الاشتراكي، مشكورة، نشرها من جديد في ذكرى استشهاده، لم يكن وقتها لا الموقف الأمريكي المستجد المعترِف بمغربية الصحراء، ولا بداية استئناف العلاقات التطبيعية مع إسرائيل. وقارئ المقالة اليوم سيستخلص أن منظورها العام لا يزال هو نفسه المنظور الذي تناولت به المستجدات اللاحقة في المقالة التالية.
وقد ورد في نص “الشهيد عمر والمسألة القومية”، أن اختياري لهذا الموضوع من بين ميزات كاريزمية الشهيد الجاذبة والعديدة، “فلأني أحسست أن النخبة المغربية، التي خص لها عمر في أعقاب هزيمة 67، مقالة نقدية جذرية، كشفت عن مصادر ثقافتها القومية الهجينة، وعرَّت عن غربتها وانخلاعها عن قضايا أمتها.. تعود اليوم القهقرى لنفس الوعي المستلب؛ بعدما حسبنا أننا تخطيناه إلى الأبد” ! ولكن واقعها اليوم أبعد سلبية من الأمس بكثير وكثير، بل لعله يشكل منعطفا تاريخيا حاسما في تموقع النخبة المغربية عامة من المسألة القومية.
ولهذا نحن بحاجة أشد من الأمس أيضا إلى حوار هادئ ومعقلن وبما يعزز انتصارات إجماعنا الوطني على أرض الصحراء المغربية، والذي هو ملاذنا الدائم الأول والأخير. وفي نفس الآن، يفتح عيوننا على المزالق والانحرافات التي تنطوي عليها معركتنا الوطنية في عالم معقد. ولا سبيل إلى ذلك، إلا بانخراط واع من قبل النخبة الفكرية والسياسية في مثل هذا الحوار الاستباقي.
ولا يهم الموقف السياسي الذي ستميل إليه، بقدرما هو مهم أن تكون على دراية بكل مخاطره ومنزلقاته، لأن انخراطها الجماعي الواعي والفاعل هو ضمانة الاستدراك في أي وقت. ولعل في الصمت المريب لأغلبية المفكرين والمثقفين إلى اليوم على الأقل ما يثير استفهامات القلق ليس على الموقف السياسي وحسب، بل وعلى الحالة المجتمعية العامة، التي لن تزيد في مثل هذا الوضع إلا شعبوية حابلة بكل المخاطر البعيدة، وبلا تفاصيل سيأتي وقتها، أرجو من القارئ أن يفهم عنواني أعلاه “وإن غدا لناظره قريب” على أنه دعوة إلى التفكير الجماعي العميق، ودوما، في المستقبل. ومقالتي التالية لا تدعي أنها كلمة الفصل والختام، إنما هي واحدة من الآراء الممكنة، وستفي بغرضها إن استنفزت آراء غيري، لأن الصمت في هذه اللحظة هو القاتل:
في هذا المنعطف السياسي الحساس والدقيق، أجد نفسي مضطرا إلى أن أصرخ بأعلى صوتي : أنا عربي – أمازيغي، هذه تركيبة عائلتي الصغيرة والكبيرة، وهذه أصولي الأقوامية، والجامع بينهما انتمائي للحضارة العربية الإسلامية لغة وتاريخاً وامتدادا جغرافيا وقواسم نفسية مشتركة وروافد دينية ولغوية وإثنية مختلفة، وتطلعات نحو الوحدة والتحرر والتقدم.
إسقاط هذه الهوية الحضارية الجامعة، بتطلعاتها التحررية الوحدوية التقدمية، هو إسقاط للبعد التاريخي الدينامي للكيان الوطني نفسه، وتخريب لإمكانيات تحرره وتقدمه.
لذلك، فمن حقي ومن واجبي بقدر ما أحافظ على كياني الوطني، بقدر ما سأحافظ أيضا على كل إمكانياته في النهوض والتحرر والتقدم. وليس من خيار آخر سوى المنظور الحضاري الدينامي والمستقبلي الذي أنا منه وإليه. ولهذا أنا مضطر لهذه الصرخة الهوياتية التي حكم بها التاريخ علينا جميعا، وناضلت من أجلها أجيال بعد أجيال. وإذا كان الوضع العربي الحالي في بؤس وتراجع، فلا تقدم سيتحقق، ويُرجى، إلا إذا كان لمجتمعاتنا طموح وأفق حضاريين يتناسبان مع مكانتها ومؤهلاتها في عالم اليوم.
لن أخوض، هنا، في نقاشات أيديولوجية تستصغر مسألة الهويات القومية بذرائع شتى، خالطة بين الهويات العنصرية والامبريالية والهويات المضطهدة والمستغَلة، لأن أصحابها لا يدرون أنهم يكررون عن جهل أرذل مقولات الرأسمالية العالمية الهادفة إلى إدامة هيمنتها وتحويل المجتمعات إلى “مجتمعات أسواق” خالية من أي اعتبار إنساني آخر، وبينما المشكل الحقيقي هو في دمقرطة وعدالة وأنسنة العلاقات بين الهويات المكونة للمجتمع البشري.
كان أولى بدعاة التطبيع مع الكيان الصهيوني الفاشي، قبل أن تستلبهم “انتصاراته المؤقتة”، أن يتعظوا من تجربته، وفي واحد من الدروس، على الأقل، أن ينظروا، أولا وأساساً، إلى إصراره الناجح على إحياء لغته العبرية بعد موات طويل، وبلا أي تفريط في سيادة هذا الأساس الذي يراهن عليه في بناء كيانه المصطنع. بينما تُركت اللغة الأم في بلدان هؤلاء المستلبين للإهمال والاحتقار. وكان أولى أن يتعظوا، بعد سبعين سنة ونيف، أن الأصل في ما حققه العدو من انتصارات مؤقتة، يعود إلى أنه أخذ معركته بجدية وصرامة، ضد ما يعتبره عن حق العدو الرئيسي والنقيض الجذري لكيانه: “القومية العربية” أولا وأخيرا. فكان هدفه الدائم وبلا تردد أو تخاذل، تخريب كل ما يمكن أن يتيح إجماعا عربيا ولو في حده الأدنى، وكل ما يمكن أن يتيح لبلد عربي مَّا قدراً من النهوض والتقدم الواعد. لقد أخذ معركته بصرامة إستراتيجية وجدية تكتيكية على أنها معركة وجود لا معركة حدود، وكما تعلمنا نحن إنشائيا في صغرنا.
وعندما يتمعن هؤلاء المستلبون في سيرورة كل ما فات، سيكتشفون أن ما وصلت إليه أوضاع النظام العربي المزرية اليوم، ليس إلا الحصيلة المرة لاختياراتهم العدمية الطموح الحضاري التقدمي، وأنها ليست إلا النتيجة المنطقية للحسابات التكتيكية الانتهازية الآنية، بدءاً من زغاريد “مصر أولا” لكامب ديفد إلى الزغاريد التي نسمع طنينها اليوم.
درسان يفقآن عيون من لا يرى أبعد من أنفه، وهو يعتقد واهما أنه في منتهى الذكاء السياسي والواقعية الوطنية، بينما عقلانيته الواهمة ليست أكثر من تكتكة تقوم، ومرة أخرى، على أرذل ما في مقولات الأيديولوجية الرأسمالية النيوليبرالية؛ “الغاية تبرر الوسيلة” التي، وعلى قِدم اعتواراتها، انحطت، في عالم اليوم، بانسلاخ الغاية كلية عن المبادئ إلى “المصلحة تبرر الوسيلة” عارية الفجاجة. وإذا ما عممنا هذه المقولة الرئيسة، كثقافة وطنية، على كافة مكونات المجتمع المغربي، فلنقل للمجتمع، عليك رحمة الله!
وهكذا، بدل أن نستخلص الدرس الواقعي من تجربة الصراع العربي الإسرائيلي من ما فات في كليته، نقلب الحقيقة التاريخية رأسا على عقب، لتغذو مفاهيم التحرر والتقدم والوحدة هي أصل الداء في أوضاعنا العربية المزرية، عوض التبعية والتأخر والتطبيع المجاني. حقاً، إن التاريخ يعيد نفسه لمرتين، الأولى دْرامية والثانية “مسخرة” !
لم يستفق هؤلاء بعد على أن “المصلحة تبرر الوسيلة”، وهي المقولة الرئيسة للعولمة النيوليبرالية، أنتجت لنا “الترومبية” الأمبريالية الأمريكية، وليس صدفة أن شعارها “أمريكا أولا”، وأنتجت لنا أشباهها في الغرب الرأسمالي، و”الغويدية” الفنزويلية التبعية، وأمثالها من العرب الكثر الذين دمروا أوطانهم لمصلحة “الديمقراطية” بأي تحالف كان، وأشدد على أي تحالف كان، وبأي ثمن كان! تأملوا في هذا المشهد العالمي وفي تجارب ما سمي بالربيع العربي، لتعرفوا جيداً الوظيفة الأيديولوجية والسياسة لهذه المقولة الملعونة في زمن العولمة!
يريدون أن يقنعوننا بأن التطبيع مع إسرائيل، لن يغير شيئا في موقفنا المبدئي من القضية الفلسطينية. ويقول أحد قادة المعارضة، التقدمية واحسرتاه! إنه على العكس يخدم القضية وفي صالحها, ولا يعير هذا القائد أي اهتمام لصراخ الشعب الفلسطيني، بجميع فصائله وحساسياته، المدين لأي تطبيع لأنه يُضعف موقفه وصموده ونضاله. فمن نصدق يا ترى، أصحاب القضية الذين يؤدون الثمن من أرواحهم يوميا أم أصحاب “التكتكة العقلانية” المتعالية عن الواقع وعن جروحهم وتضحياتهم؟! ويُعلق نتنياهو الفاشي العنصري، بعد أزيد من ربع قرن في إفشال إسرائيل المتعمد لمفاوضات أوسلو وللمبادرة العربية بعدها، أنه يرى في التطبيع المغربي “نوراً عظيما للسلام يلوح في الأفق!” فعلى من يضحك هذا الفاشي؟!
لا معنى لأي تكتيك أو اتفاق إلا في سياقاته الموضوعية والإستراتيجية، والجميع يعرف، وفي العلن، أن السياق الحالي لحملة التطبيع مع إسرائيل، خارج المبادرة العربية وعلى ضدها، يندرج في المخطط الأمريكي – الإسرائيلي لما سمي “بصفقة القرن”، وهي بالتعريف، وبلا مراوغات مؤدلجة، تطبيع مجاني، ولو كان يتستر بتلبية بعض المصالح الإقليمية هنا وهناك، في مقابل تصفية القضية الفلسطينية من جذورها، حتى لو استعملت إسرائيل قبلها وخلالها وبعدها، كل وسائل التهجير القسري والابتلاع الاستيطاني وكل أشكال القمع والعنصرية. والتطبيع يأتي بعد أن أعلنت الولايات المتحدة على أن القدس عاصمة أبدية لإسرائيل وسلمت الجولان رسميا لها ! وهذا ما حدث وسوف يحدث، ويا للمفارقة، في زمن التطبيع الجاري. فأي قيمة لأي موقف مبدئي إنشائي، والذي سيضطر إلى الانخفاض المستمر، ونحن نضيف لإسرائيل، وبالتطبيع، قوة اقتصادية وسياسية ودبلوماسية وجيوبوليتيكية وشرعية تاريخية (وهي أكبر من سياسية)، فضلا عن أنها رسالة لبقية الدول المقاطعة لكي تستسلم هي الأخرى. فهل بعد هذا كله، سيبقي من معنى لسفسطة كلامية أكبر مما قاله السيد العثماني للجزيرة: (إن ثوابتنا كانت وستظل أعلى من المبادرة العربية !؟).
ولا يغيب عني، أن الإستراتيجية الأمريكية لها مآرب أخرى تتسع لما يتناسب وموقعها الإمبريالي الدولي , لكن ما يهمني منها في حدود سياقنا الخاص، تمسكها الدائم بإعلاء قوة إسرائيل وهيمنتها على العرب، والتركيز تحديداً على إنهاء الصراع العربي معها بكل الوسائل وعلى امتداد الساحة العربية. وهو الهدف الثابت لجميع الإدارات الأمريكية كيفما تعاقبت ألوانها الحزبية. والمثير في هذه المسألة، أن الولايات المتحدة وإسرائيل، وبعض الغرب بوجه عام، يتعاملون مع الجغرافية السياسية على امتداد الساحة العربية، وكأنها قوة حضارية كامنة وقابلة للتوحد والنهوض، ويسعون إلى تفكيكها أو تجميدها وتأخيرها، بينما يتعامل بعض العرب، والحكام منهم خاصة، بعقلية الضيعات المنفردة.
وبالعودة إلى استنطاق الواقع، كما هو، في زمن العولمة المنفلتة القطبية، ألا تطرح علينا وقائعه سؤالا كبير الدلالات في ما نحن بصدده. والسؤال، لماذا البلدان العربية تكاد تكون وحدها في العالم تتعرض، بذرائع مَّا، فورا وبلا تردد، إلى أشد العقوبات الاقتصادية، وإثارة الفتن الأهلية، تمويلا وتسليحا، وللتقسيم الصريح والمقنع، وحتى للتدخل العسكري “الدولي” في الأغلب؟! بينما إسرائيل تصول وتجول ولا تُحاسب على جرائمها إطلاقا؟!
عندما أتمعن في الدلالات التي يحملها هذا السؤال، والذي تُغطي وقائعه تاريخنا السياسي الحديث، أستخلص من جملة ما أستخلصه، كم تُهنا في دوامة الدوخة الأيديولوجية التي أصابت حركات التحرر الوطني، بعدما أسقطت من مقولات مرجعيتها، مقولة “الإمبريالية”، بينما واقعنا العربي خصوصا يتمرغ في مستنقعاتها، بل وفي أبشع مظاهرها القديمة، الاحتلال الاستيطاني والإرغام بالقوة، بما فيها القوة الاحتلالية العسكرية إن اقتضى الحال!.
أبدا، ليس كل ما هو قديم في مرجعيتنا الأيديولوجية التحررية والقومية والاشتراكية قد ولى زمنه و بات فاسداً. نعم نحن بحاجة دائمة لتطوير منظومتنا الفكرية، ولكن على أسس منهجية صحيحة مشبعة بالوقائع المادية، وليس على طريقة التجديد “الموضة”، ترفض كل شيء، فقط، لأنه قديم، ولا يهمها إن كان صحيحا وصلبا، لم يستكمل زمنه بعد، ويخدم أهدافنا وغاياتنا الكبرى.
كم هو مدهش اشتغال الإيديولوجية المستلبة عندما تقلب الحقائق رأسا على عقب، وحينما تُنعت المبادئ التي ضحت من أجلها أجيال بعد أجيال بلغة الخشب والفوات الأيديولوجي، ويتعالى صوت مراجعتها والتخلي عنها بعلة الحاجة إلى التطبيع مع إسرائيل، أي مع فاشية مناقضة لنصاب التاريخ، أليست هذه مفارقة غريبة ومريبة! بينما السؤال المركزي الحق، كيف نُطور مقاومة الشعوب العربية لكل أشكال الاستتباع والاحتلال والتخلف! المقدمات الفاسدة تولد بالضرورة نتائجها الفاسدة!
وفي هذا الإطار، ليست لنا أية خصوصية وطنية تُعيقنا أو تُعفينا من مقاطعة إسرائيل، لا إنسانيا ولا حضاريا ولا في مواجهة تحديات التنمية والتقدم والتحديث. فنحن جزء من هذا “الوطن العربي” أحب من أحب وكره من كره. ولعل توضيح الواضحات من المفضحات، كما درج القول. وبعيدا عما بقي من الماضي الثقافي – الفولكلوري لدى المستوطنين اليهود ذوي الأصول المغربية، فإنهم جميعا، كباقي شتات المكونات الإسرائيلية الأخرى، مستوطنون مغتصبون للحق الفلسطيني؛ ناهيك عن أنهم يشكلون القاعدة الانتخابية الأشد تطرفا ضد الفلسطينيين والعرب عامة، وإلا هاتوا برهانكم على ما يُبين العكس، ولو بعشرة أسماء، لكي تُطمئنوا قلوب المغاربة على أن في ما تبقى من تلك الروابط الثقافية التقليدية الفولكلورية بعض الفائدة في خدمة الحق الفلسطيني والعربي.
ولا عجب في هذا الأمر، فمادامت الخطيئة الأصلية هي الاحتلال والاستيطان، فإن ما يمكن أن نُطلق عليه “الشعب الإسرائيلي” سيظل في موازين القوى الحالية، ولأمد طويل، شعبا عنصريا عدوانيا بجميع مكوناته وأيديولوجياته وأحزابه ومؤسساته، وإلى أن تتفكك وتنهار الأيديولوجية الصهيونية اللاحمة لهذا الكيان المصطنع.
وهذه المسألة تحتاج إلى تحليل مفصل لجميع عواملها وممكناتها مما لا يسمح به المجال، لكنها تطرح إشكالا في غاية الدقة، إذ لا ينبغي أن ننسى (أو نتناسى) أن حل الدولة الفلسطينية على حدود 67 وعاصمتها القدس الشرقية، وعودة اللاجئين لمن يرغب في ذلك وفق القرارات الدولية في هذا الشأن، هو حل تسوية جاء في ظروف دولية وإقليمية معينة، وقد تتخطاه التطورات وتحديدا بفعل العمى العنصري الإسرائيلي. وسيكون وقتئذ الحل الوحيد المتبقي هو العودة إلى المشروع الفلسطيني الأصلي القائم على الدولة الديمقراطية الواحدة على كامل التراب الفلسطيني. وفي الحالتين الأبرتايد الإسرائيلي هو الخاسر لترابطهما الصميمي. ولا ينتابنا شك في أنها معركة طويلة الأمد، ولكنها بقراءة لجميع ديناميات الصراع الجيوبوليتكية الإقليمية والعالمية حتمية المنال.
فقط من يئسوا من الأوضاع العربية الفلسطينية، واستُلبوا بالقوة الأمريكية الإسرائيلية، سيرون في موقفنا هذا محض خيال لما يسمونه بلغة الخشب، وهم لا يدرون، للمرة العاشرة، أن المقولة النيوليبرالية لفوكوياما في “نهاية التاريخ” التي تسربت إلى عقولهم، بوعي أو بدون وعي، إن كانت تحتوي على شيء من الصحة، فالصواب الوحيد فيها، هي نهاية تاريخ الاستعمار، الذي لم يبق منه إلا إسرائيل. وكل الباقي مفتوح على اللانهاية، والشعب الفلسطيني والشعوب العربية وكل محبي السلام والحرية في العالم، أهلٌ لها. وليس حلما أن نتوقع، في يوم ما، مقاطعة العالم لإسرائيل، كما قاطع الأبرتايد في جنوب إفريقيا، فهما من طينة وأيديولوجية واحدة، قد ولى، في أقل تقدير، زمنهما التاريخي.
ومن الأفضل لقضيتنا الوطنية تحديداً ألا نستعجل النتائج قبل أوانها، فالموقف الأمريكي من إدارة راحلة لصالح مغربية الصحراء، ليس بنهاية المطاف، ولا هو بالضربة القاضية كما يتصورها البعض. والخشية ليست في أن للإدارة الجديدة اشتراطات غير ما كان لسلفها في التطبيع الشامل والعاجل والسريع (في أقرب الآجال كما ورد في النص) مع إسرائيل، فنحن نعرف أن ما قدمه المغرب هو من أعز مغريات الإجماع الأمريكي، جمهوري وديمقراطي، بل والغرب الأوروبي أيضا. إنما الخشية من التصريف العملي له والمحدود، من جهة، بقرارات مجلس الأمن ودوله الكبرى، والتي ليست بالمناسبة طوع بَنانِ التوجه الأمريكي، كما تصور البعض. والمجلس لن يخرج في قراراته المحتملة عن البحث عن تسوية ترضي كافة الأطراف، لأن لها جميعا مصالح في ذلك، حتى بعد أن انحاز مجلس الأمن ضمنيا إلى استحالة إجراء استفتاء لتقرير المصير، وترك الباب مفتوحاً للتفاوض على حكم ذاتي كما هو المقترح المغربي.
ومن جهة ثانية، الخشية الأكبر من الشهية الإستراتيجية الأمريكية الافتراسية والأوسع من موقفها الدبلوماسي في قضية الصحراء، لأنها ستبقى كما كانت دائما مفتوحة على الاحتواء المزدوج للحصول على أكبر المكاسب والتنازلات من أطراف الصراع لصالح إسرائيل والهيمنة الأمريكية , ومفاوضات الحكم الذاتي نفسها، إن تم القبول بها، هي بحد ذاتها معركة أخرى، فثمة تجارب لحكم ذاتي انفصالي مقنع!
وبخلاصة وجيزة، للولايات المتحدة كل الوقت المتاح لاستثمار شهيتها الإستراتيجية الاحتوائية بأريحية تامة (وبمعية إسرائيل في الوضع المستجد) بينما ليس للقوى الضعيفة المتصارعة حينها سوى البحث عن ترضيتها , فالزمن السياسي لصالح الأقوى دائما!
وهذا يقودنا إلى استخلاص آخر لا يقل خطورة: ليس جديداً على الدولة الجزائرية أن توظف القضية الفلسطينية في صراعها ضد المغرب ووحدته الترابية , وهذه الازدواجية الرذيلة والبراغماتية هي الأخرى، لوحدها كانت كافية لإدانة الموقف الجزائري. فلا يمكن أن تكون وحدويا عروبيا تقدميا في جهة، وتقسيميا رجعيا في الجهة الثانية. مصيبة النخبة السياسية العربية أنها تتصرف بعقلية براغماتية آنية، بينما هي تدمر إمكانياتها البعيدة في التقدم والاتحاد والنمو. ومن هذه الوجهة، تتحمل الدولة الجزائرية كل المسؤولية التاريخية الكبرى في ما آل إليه الاتحاد المغاربي من جمود وتفكك وتقاتل إقليمي مدمر لمستقبل بلدانه.
لكن، وبينما كان الشعب الجزائري في طريقه لأخذ زمام المبادرة، وبدأ وعيه العميق يستيقظ ويسعى إلى التخلص من أثقال طفيلية البوليساريو ودويلتها المزعومة على حريته ومصالحه المغاربية، جاء التطبيع المغربي مع إسرائيل ليعطي لبقية الطغمة الحاكمة ذرائع تحصن بها مواقعها وادعاءاتها. ويعطي موضوعيا لأمريكا ولغيرها فرصا لاستغلال الوضع الجزائري الانتقالي لصالحها، ولجر أقسام من القوى المتهافتة على السلطة إلى حظيرة الدعوة إلى التطبيع هي الأخرى. وقس على هذا الوضع الجزائري بقية بلدان الاتحاد المغاربي والتي ليست في أحسن حال منه. والاتحاد المغاربي والنظام العربي في مجموعه هما الأكثر ضررا في الحصيلة العامة. وهذا دليل آخر على أن توقيت التطبيع المغربي وغيره، لم يكن وفق الساعة المغربية والعربية الحرة، بل جاء وفق توقيت ساعة ترامب تحديدا. لنكف إذن عن التلاعب بالمصطلحات والبحث عن تبريرات وطنية “عبقرية” حُشرنا فيها ولم نخترها !
التطبيع ليس كلمة خفيفة على اللسان، كما يصوره لنا البعض، بل هو تدحرج استراتيجي، يكبر ككرة النار، تُلهب الصراعات والاختيارات التي تشهدها المنطقة (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كما يحلو للبعض عنونة تسميتها) ليشملها جميعا، ودائما، على حساب مصالحها التحررية المشتركة الكبرى. إن التطبيع الجاري مع إسرائيل سينقل الاصطفافات التي يعرفها الشرق العربي إلى الساحة المغاربية. وهذا بلا شك إضعاف للجميع وبلا استثناء.
وأمام هذا المنعطف السياسي الدقيق، نحن بحاجة إذاً إلى حوار متعقل وهادئ ومتأن، وبعيد عن لغة التخوين والشتائم الذاتية، وفي جو من الحرية الكاملة، بهدف صون وتطوير انتصاراتنا ومكاسبنا التي أنجزت على أرض الصحراء المغربية بفضل إجماعنا الوطني الذي لن ينثني ولن يركع ولن يتراجع. ليس التطبيع قدراً لا رجعة عنه في أية لحظة قادمة, فلا تعطوا لنتانياهو حجة إضافية في أنه انتصر وهزم “القومية العربية” كما قال , ولنراهن بالعمل على موقف مماثل للشعب المصري العظيم، الذي رغم اتفاقات كمب دافيد “أُم الهزائم” إلى اليوم، بقي على حاله شعبا مقاطعا للتطبيع بجميع أشكاله وفي كل مستوياته. وكما الأمس القريب والبعيد، فلسطين قضية وطنية لجميع المغاربة، وستظل كذلك إلى أن تنتصر. ودائما، إن غدا لناظره قريب!