هذه الزاوية، التي وصلت اليوم حلقتها 19، توثق لكتابات صحافي عاش تجربة الصحافة الحزبية، وإن بطريقة نقدية وبكثير من المسافة عن الحزب، من خلال جريدة “النشرة” التي كانت الشبيبة الاتحادية قد أصدرتها، ورسمت لنفسها خطا مشاكسا للخط الرسمي للاتحاد الاشتراكي، ثم انتمى إلى تجربة أخرى، من خلال جريدة “الصحيفة”، التي انخرط عبرها في معركة بناء صحافة مستقلة وحرة، بعيدة عن جبه الأحزاب وألسنته المتعددة، الكابحة أحيانا لصياغة الخبر وصناعة الرأي العام المستقل، وبعيدة بنفس القدر عن سطوة إعلام السلطة.
في هذه الحلقات، تواصل “دابا بريس” نشر الافتتاحيات التي كان محمد حفيظ كتبها قبل عشر سنوات، بجريدة “الحياة الجديدة”، التي أصدرها بعد توقف “الصحيفة”، في إطار مواكبته لانتفاضات ما سمي إعلاميا ب”الربيع العربي” ونسخته المغربية التي أطلقتها “حركة 20 فبراير”، وتفاعله بالرأي والتعليق مع ما تلا ذلك من أحداث وتطورات…
وهي الحلقات التي نتعرف من خلالها على آراء ومواقف إعلامي حرص في تجربته الصحافية على اتخاذ المسافة عن الدولة، بنفس المستوى الذي اتخذها إزاء انتمائه السياسي والحزبي.
الحلقة 19: الفتنة
ليس حكيما ذلك القرار الذي اهتدى إليه بعض الحاكمين في بلادنا لمواجهة مسيرات وتظاهرات حركة 20 فبراير. وهو قرار لا يقدر المرحلة التي نمر منها حق قدرها.
أنا، هنا، أقصد القمع العنيف الذي واجهت به القوات الأمنية المشاركين في تظاهرات الأحد الماضي (29 ماي) في عدد من المدن، وأيضا «تحريك» و«رعاية» تظاهرات مضادة لحركة 20 فبراير، إما باسم بعض الفئات من التجار، بدعوى حماية مصالحهم التجارية التي يقولون إنها تضررت بفعل استمرار المسيرات والمظاهرات، وإما باسم بعض السكان، بدعوى حماية أحيائهم ودروبهم ممن يوصفون بالوافدين.
ويظهر لي أن الذين تفتقت عبقريتهم على هذا «الحل» في التعامل مع ما يشهده الشارع المغربي من حركية إنما يعملون بقرارهم هذا على إدخال المغرب إلى منعرج خطير، بعدما ساد الاعتقاد بأن المسؤولين ببلادنا، مقارنة مع بلدان أخرى، وُفِّقُوا في التعامل مع احتجاجات الشارع، التي لم تعد وقفا على بلد واحد، بل شملت وتشمل المنطقة بأكملها، وهي ترسم في التاريخ حدا فاصلا بين مرحلتين.
لا أظن أن المسؤولين يجهلون أن القمع والعنف لا ينفع في مثل هذه الأوضاع التي تمر منها هذه الرقعة من الكرة الأرضية التي ننتمي إليها. صحيح أن القمع قد ينجح في تفريق هذه التظاهرة أو تلك، وقد ينجح في شل هذه المجموعة أو تلك. لكنه لا يعمل، في الواقع، إلا على الزيادة في حدة الدواعي والأسباب التي تدفع إلى الاحتجاج والتظاهر.
الأمر لا ينتهي بمنع مسيرة «شارع الشجر» (شارع إدريس الحارثي) بالدار البيضاء، مثلا، أو بتفريق المتوجهين إلى تمارة لتنظيم «نزهة احتجاجية» أمام مقر مديرية مراقبة التراب الوطني، لأن ما تشهده بلادنا هذه الأيام لا يتعلق بعمل معزول يصدر عن حركة طارئة قد تمر من أمامنا مرور الكرام، أو يصدر فقط عن تيار «متطرف» و«متشدد»، كما يحلو لبعض «المبررين» أن يقولوا… إن الأمر يتعلق بحركة تخترق المنطقة في الزمان والمكان، حركة لا ترتبط بالأشخاص أو بالتيارات أو حتى بالأقطار.
قد تعود عناصر الأمن إلى ثكناتها بعد إنهاء مهمتها القمعية، لكن الحركة لن تخمد فتتوقف عن التفاعل، بل لا يزيدها ذلك اشتعالا. ولعل أول درس من الدروس التي تمطرنا بها أيام «الربيع العربي» الجارية هي أن القمع أو العنف لا يحل المشكل بقدر ما يزيد في تعقيده. الأمثلة لم يعد يجهلها أحد. ولا داعي إلى ذكرها، حتى لا نثير مرة أخرى أطروحة «الاستثناء».
لم يتم الاكتفاء بالتدخل الأمني، بل تم تدعيمه بإدخال فئات من المجتمع وتحريكها لمناهضة شباب حركة 20 فبراير. ولعل هذا أخطر ما يمكن أن يصل إليه الوضع في بلاد ظلت تتباهى بالاستقرار الذي يسودها وبما تنعم به من تعايش بين مختلف فئاتها وطبقاتها. لقد نجح المغاربة في التغلب على كل الظروف والمحطات الصعبة التي كان من شأنها أن تشعل فتيل الحرب بينهم، لأسباب مادية أو عرقية أو ثقافية أو تاريخية، وقدموا نموذجا جديرا بالانتباه في التعايش بين جميع الفئات والطبقات والأعراق. وفي بعض اللحظات الحرجة التي كانت تشق المجتمع، كان الجميع يستظل بمظلة التعايش التي تحمي البلد من لهيب التفرقة. أستحضر، هنا، قضايا قريبة عاشها الجيل الحالي، مثل قضية المرأة، وقضية الأمازيغية، والهجمات الإرهابية التي كان المغرب عرضة لها، وآخرها تفجير مقهى «أركانة» بمراكش الذي توحد كل المغاربة في إدانته واستنكاره. وكان في مقدمة المستنكرين شباب حركة 20 فبراير.
السلطة لم تكفها أجهزتها الأمنية وعصيها وزراويطها، فلجأت إلى استعمال فئات من المجتمع في مواجهة مواطنين آخرين، كما لو أنها تستعمل هذه الفئات «أذرعا بشرية» في حربها على المحتجين. إنه لعب بالنار. ومن يقوم بهذا اللعب كمن يريد أن يدخل البلاد إلى نفق مظلم. ما معنى أن يُوَاجَه متظاهرو 20 فبراير بأعلام البلاد وبصور ملك البلاد؟ هل المغاربة انقسموا حول الوطن وحول الملك؟ ألا يراد لهذه الحكاية البئيسة (من مع الملك؟ من ضد الملك؟) أن تنتهي؟
حركة 20 فبراير لا تعلو على النقد. ورغم عمرها القصير جدا، فقد حظيت بانتقادات كثيرة من طرف حلفائها، الذين يشاركونها شعاراتها ومطالبها، قبل خصومها الذين ظلوا يتحينون الفرص لمهاجمتها، حتى قبل أن تهتدي السلطة إلى ما اهتدت إليه خلال الأسبوعين الأخيرين. وهي نفسها (حركة 20 فبراير) تجتمع بانتظام وفي لقاءات مفتوحة لتقييم عملها ومبادراتها. وخلال اجتماعاتها الأسبوعية، تُخْضِع نفسها لنقد ذاتي، وتتوقف عند أخطائها وعثراتها. والأكيد أنها في حاجة ماسة إلى وقفة تقييمية لـ100 يوم من عمرها. وإذا كانت حركة 20 فبراير لا تعلو على النقد، فإن انتقادها يجب ألا يُستعمل لتبرير القمع والتنكيل وتسويغ كل أشكال الاعتداءات الجسدية واللفظية التي وثقتها الصور وشاهدها العالم. وحتى الاختلاف السياسي والإيديولوجي مع جماعة «العدل والإحسان» أو مع «النهج الديمقراطي» لا يجيز للبعض أن يستعمل هذين التنظيمين شماعة يعلق عليها ما تقترفه السلطة وأجهزتها الأمنية من أعمال قد تكون نتائجها مما لا تحمد عقباه.
قديما قالوا: «الفتنة نائمة… لعن الله من أيقظها». واليوم أقول: «المستقبل بين أيدينا… لعن الله من اعترض طريقه».
2 يونيو 2011