هذه الزاوية، التي وصلت اليوم حلقتها 24، توثق لكتابات صحافي عاش تجربة الصحافة الحزبية، وإن بطريقة نقدية وبكثير من المسافة عن الحزب، من خلال جريدة “النشرة” التي كانت الشبيبة الاتحادية قد أصدرتها، ورسمت لنفسها خطا مشاكسا للخط الرسمي للاتحاد الاشتراكي، ثم انتمى إلى تجربة أخرى، من خلال جريدة “الصحيفة”، التي انخرط عبرها في معركة بناء صحافة مستقلة وحرة، بعيدة عن جبه الأحزاب وألسنته المتعددة، الكابحة أحيانا لصياغة الخبر وصناعة الرأي العام المستقل، وبعيدة بنفس القدر عن سطوة إعلام السلطة.
في هذه الحلقات، تواصل “دابا بريس” نشر الافتتاحيات التي كان محمد حفيظ كتبها قبل عشر سنوات، بجريدة “الحياة الجديدة”، التي أصدرها بعد توقف “الصحيفة”، في إطار مواكبته لانتفاضات ما سمي إعلاميا ب”الربيع العربي” ونسخته المغربية التي أطلقتها “حركة 20 فبراير”، وتفاعله بالرأي والتعليق مع ما تلا ذلك من أحداث وتطورات…
وهي الحلقات التي نتعرف من خلالها على آراء ومواقف إعلامي حرص في تجربته الصحافية على اتخاذ المسافة عن الدولة، بنفس المستوى الذي اتخذها إزاء انتمائه السياسي والحزبي.
الحلقة 24: “خطأ مادي”!
أفاد بلاغ للأمانة العامة للحكومة بأنه «على إثر الخطأ المادي الذي وقع في الجريدة الرسمية عدد 5952 مكرر الصادر بتاريخ 14 من رجب 1432 (17 يونيو 2011) المنشور به مشروع الدستور، فقد تم نشر استدراك للخطأ المادي المذكور قبل الاستفتاء، وذلك بالجريدة الرسمية الصادرة بتاريخ 27 من رجب 1432 (30 يونيو 2001) تحت عدد 5956».
البلاغ أوردته وكالة المغرب العربي للأنباء، في قصاصة لها بثتها يوم الأحد 10 يوليوز الجاري. وهو يثير مجموعة من الملاحظات، أستعرض بعضها بسرعة:
أولا، البلاغ، كما أوردته «لاماب» لم يتحدث عن طبيعة «الاستدراك»، مثلما لم يكشف عن طبيعة الخطأ الذي «اكتشفته» الأمانة العامة للحكومة، واكتفى بوصفه بـ«الخطأ المادي»، دون أن يوضح هل الأمر يتعلق بخطأ إملائي أم بخطأ نحوي أم بحرف أو كلمة أو عبارة «سقطت سهوا»!!
ثانيا، البلاغ صدر بعد أحد عشر (11) يوما على «اكتشاف» الخطأ و«تصحيحه، ونشر «الاستدراك» في الجريدة الرسمية. واحسبوا كم من يوم مر من 30 يونيو إلى 10 يوليوز.
ثالثا، البلاغ حرص على أن يؤكد أن «استدراك الخطأ المادي» تم نشره بالجريدة الرسمية قبل يوم الاستفتاء. وبالفعل، فإن عدتم إلى التاريخ الذي صدر فيه العدد المعني من الجريدة الرسمية (30 يونيو 201)، ستكتشفون أن النشر تم قبل يوم الاستفتاء (فاتح يوليوز 2001)، ولا يهم إن كان الفارق بضع بساعات!
إن الشكل الذي ورد به نص البلاغ وطبيعة مضمونه والتاريخ الذي صدر فيه، كل ذلك يكشف أن الأمانة العامة للحكومة اضطرت إلى إصدار هذا البلاغ، بعد أن تحدثت أوساط إعلامية وسياسية عن تغيير شَابَ نص مشروع الدستور الذي عُرِض على المواطنين من أجل التصويت عليه (انظروا العدد الفارط من «الحياة» في مثل هذه الصفحة). وإلا لما كانت مضطرة إلى هذا «الاعتراف المتأخر».
الأمانة العامة للحكومة أرادت أن تهون من الأمر، لتبرر فعلتها، فادعت أن الخطأ مادي، وأن استدراكه تم قبل يوم التصويت، وكأن من حقها أن تتدخل لتصحيح ما بدا لها من أخطاء، متى أرادت، شريطة أن يتعلق الأمر بأخطاء مادية! وأن يكون ذلك قبل يوم التصويت! إذا سلمنا بهذا المنطق، فإنه كان على المغاربة أن ينتظروا إلى آخر ثانية من يوم 30 يونيو، التي تصادف زمن انتهاء الحملة الاستفتائية، ليحددوا اختيارهم، بعد أن يكونوا قد اطلعوا على النسخة «المزيدة والمنقحة» من الدستور، التي ستصدرها الأمانة العامة للحكومة في الجريدة الرسمية!
إن ما تم الإقدام عليه خرق فاضح لكل المعايير المتعارف عليها في إجراء الاستفتاءات. فحتى لو تعلق الأمر بخطأ مادي، كما ادعت الأمانة العامة للحكومة، فإنه ليس من حق أية جهة، كيفما كانت وتحت أي مبرر كان، أن تتدخل لإدخال تعديلات على نص مشروع الدستور، بعد أن يكون قد عُرِض على الناخبين من أجل قول رأيهم فيه. فحين انطلقت الحملة، يوم 21 يونيو 2011، ونُشِر مشروع الدستور في الناس، لم يعد من حق أي كان أن يتصرف ولو بإدخال نقطة أو فاصلة.
إن بلاغ الأمانة العامة للحكومة يعترف بأن نص مشروع الدستور الذي على أساسه خيضت الحملة الاستفتائية في كل ربوع المملكة، من 21 إلى 30 يونيو، ليس هو النص الذي صوتوا عليه يوم فاتح يوليوز. وهذا البلاغ يفيد بأن من أعطى لنفسه هذا الحق في التدخل لتغيير نص مشروع الدستور في آخر لحظة، فإنه سيعطي لنفسه الحق في أن يتصرف كيفما شاء في هذا الدستور، حتى بعد التصويت عليه!
كيف لم يتم الانتباه إلى «الخطأ المادي» إلا قبل نهاية فترة الحملة بلحظات؟! ولماذا لم يتم إشعار الناس بذلك في حينه؟ ولماذا انتظرت الأمانة العامة للحكومة كل هذا الوقت لتطلع علينا ببلاغ جاء ليعترف بالخرق على رؤوس الأشهاد؟؟
إن هذا الخرق يأتي لِيُضاف إلى خرق آخر تم ارتكابه، قبل انطلاق الحملة، حين «نسيت الأمانة العامة للحكومة أن تصدر مرسوما ينظم تاريخ الاستفتاء ومدة الحملة وتاريخَيْ بدايتها ونهايتها، كما تنص على ذلك مدونة الانتخابات، حيث كان يجب أن يصدر عن مجلس الوزراء مرسوم في هذا الشأن. وهو ما جعل أحزاب «تحالف اليسار الديمقراطي» تعتبر ذلك «خرقا صريحا وخطيرا لمقتضيات القانون»، ذاهبة – حينها – إلى أن من شأن هذا الخرق أن يلغي الاستفتاء «المقرر إجراؤه يوم فاتح يوليوز 2011»!
لم أكن أنتظر، حينها، أن ترتعد فرائص الحكومة والجهة المشرفة على تنظيم الاستفتاء، بعد اكتشاف ذلك «الخرق الصريح والخطير»، بوصف أحزاب تحالف اليسار الديمقراطي. فالأمر، في نظر مرتكبي الخرق، لا يعدو أن يكون «خطأ ماديا» ولا تأثير له على مجريات الاستفتاء!
فالمغاربة جميعهم، بفضل الدعاية الواسعة في وسائل الإعلام وعن طريق أعوان السلطة في المدن والبوادي، علموا بـ«تاريخ الاستفتاء ومدة الحملة وتاريخَيْ بدايتها ونهايتها»، ولم يكن ذلك متوقفا على إصدار مرسوم، حتى وإن كان القانون يلزم الحكومة بذلك، لأن في مثل هذه الأمور لا تنفع القراءة القانونية الحرفية المبالغ فيها. فالعبرة بالنتائج! والنتائج، كما علم القاصي والداني، كادت تصل إلى 99٪، لولا الأقدار الإلهية التي أنقذت المغرب من استفتاءات 99٪ واكتفت بنسبة 98,53٪!!
لن أزيد. فقط، أريد أن أشير إلى أنني لم أستغرب سكوت بعض الأحزاب التي جابت ربوع المملكة للدعاية للتصويت بـ«نعم» على نص دستوري سيطوله التغيير في آخر لحظة، وبدون أن يكون لها علم بذلك. لكني أسأل عن أولئك الأساتذة الذين ظلوا يقدمون لنا أنفسهم، طيلة أيام الحملة باعتبارهم «أساتذة في القانون الدستوري»، ومنهم من لم يُدَرِّس سطرا واحدا في هذا «العلم». أين اختفى هؤلاء «الأساتذة الأجلاء»؟ وماذا يقولون في هذه الواقعة «الدستورية»؟ لعل الأمانة العامة للحكومة تنتظر «تخريجاتهم»، فعليهم ألا يبخلوا عليها، فمازال الوقت صالحا لـ«الحملة الدستورية». فربما لم تنفع 98٪ ويزيد.
14 يوليوز 2011