في نقد استحالة نقد العروي
إدرس هاني
يحيلنا العروي على كتاباته بإلحاح ولكنه لا يقبل الاستفسار..وإن فعل ذلك فعله في مواسم متقطّعة مصحوبا بمغالطة السّلطة: أي النّص الاستعلائي الذي ينزل فوق الرؤوس على أنّه نصّ مقدّس، وهو الذي يرفض القداسة..الهالة التي يحيط بها العروي نصّه تنتمي إلى سياسة القهر النفسي -السادي – للمتلقّي..دائما سيكون المتلقّي جاهلا بمحتوى نصّه الذي عادة ما يكتبه بلغة واضحة ودقيقة وممتعة، وإذا ما اقتربوا من نصّه فلهم أن ينعموا بالمعنى وذلك قصارى ما يبلغه القارئ..علاقة تلقّي مشوبة بتقليدانية الشيخ والمريد..أقول ذلك بعد أن تأمّلت الطريقة القاسية التي صرف بها العروي معجبا شابا يريد أن يسائله(في اليوتوب)، وكذلك يفعل مع كل زملائه بينما يرافقه سمسار من عالم النّشر يمنحه العروي من الحظوة ما لم يمنحه لغريمه الجابري الذي لم يعزّي في وفاته..مثل هذه الهالة لم يحط بها كانط أو هيغل أو حتى هيدغر نفسه..العروي مفكّر لكنه غير تواصلي، معزول، غير إنساني في معاملاته وفق المعيار الحداثي والتقليداني..المغربي والأوربي..في جانب من هذا القهر السيكولوجي النّازي الذي يمارسه تجاه معجبيه يبدو هناك ما هو ملفت للنظر..أحيانا هذا القهر مفيد لفئة من سماسرة الثّقافة من أولئك الذين لا يقدّرون تواضع المثقف وعضويته..ولكن تبقى هذه الحالة مرضية غير قابلة للتبرير..كنّا نعتبر أنّ العروي جاد في تبرّمه من التقليدانية فنقدّر عجره وبجره ولكننا رأيناه ينبطح أمام زعاطيط الرجعية العربية ويمنح ذراريهم ما لم يمنحه لمثقفين مغاربة من فرص المساءلة..بتواضع وابتسامات وخفظ جناح أجاب عن أسئلة الإعلام الخليجي..
التحليل النفسي للموقف والسلوك العروي يعود بنا إلى الطفولة، إلى رفضه الجماعة وتشكل الذوق المستبشع للمجتمع الذي كان يحيط به..ما كان يقرف منه من تقاليد وهو في مراكش كما يروي في السيرة الذهنية لإدريس..هو مصاب بعقدة الثباتية(fixisme)، العقدة التي ستنمو أكثر حين غادر العروي المغرب باتجاه فرنسا..تتجلّى عقدة الثباتية في جملة من التصرفات والتعبيرات التي يعتبرها العروي تعبيرا عن موقف فكري، نظير:
ل ا زلت مؤمنا بموقفي ورأي(=منذ 50 عاما)، الشيء الذي قلته ولا زلت أقوله، لا بدّ من الرجوع للأنوار…
هذه تعبيراته أرويها بالمعنى وهي كثيرة يعرفها من خبر مواقفه ونصوصه..فكيف تستقيم التاريخانية مع عقدة الثباتية السيكولوجية؟ هل هي تعويض؟ هل هناك تأثير نفسي يقوض المعنى الحيوي للتاريخانية؟ هل هي خدعة؟ ما مقدار حظّه من الأيديولوجيا؟
رفض العروي السلفية وكان من أكثر المفكرين المغاربة نقدا لها إن لم نقل هو المدشّن الفعلي لهذا النقد.. والسلفية في نظر العروي هي موقف من الجديد أي هي موقف من العالم ومن المعنى والحقيقة..فعل هذا منذ ما يزيد عن 5 عقود..لم يعد فكر العروي استشرافا للمستبقل بل أصبح حدثا قديما..التحولات التي يعرفها العالم لم تلق أي اهتمام من العروي الثّباتي(fixiste)..يجب أن نستهين بكل هذه التحولات الما-بعد حداثية لنحافظ على راهنية النّص العروي..أي أن التّاريخ هو من يجب أن يتوقّف أو يعترف بـ(لا)زمانيته ليمنح نصّ العروي سلطة الإدانة..ليس العروي تاريخانيّا حتى بالمعنى الماركسي، لأنّه يمنح التّاريخانية معنى غير قابل للتكييفانية الخلاقة ولا لخصوصية المجال والتّاريخ نفسه..ما لا يريد العروي استيعابه هو أنّ التّاريخ الذي ندرك كل تفاصيله هو ليس تاريخا..التّاريخ هو شيء يفاجئ النّص حتى لو كان هذا النّص داعية للحداثة..يطالبنا العروي بأن لا ننظر إلى ما بعد الأنوار..لا قيمة لكل فكر يأخذنا بعيدا عن مطالبها..لا تتسع تاريخانية العروي إلاّ إلى جدل الحداثة/التراث..لكنها لا تتسع إلى جدل الحداثة/ما بعدها..لم يطبّق التّاريخانية على مسار الحداثة نفسها حيث تبدو الحداثة وفق أسسها الأنوارية تقليدا تجاوزته ما بعد الحداثة التي تجسدت في أساليب شتّى في العلائق بل حتى في التقنية..يرفض العروي ذلك مع أنّه آمن بإمكانية الطفرة واختصار الزمن..سلفية الأنوار قوّضت المعنى الجدلي نفسه للتاريخانية العروية..حين اقترح العروي المدرسة الماركسية على العرب لأنها تنطوي على الفكر التاريخي، وهو الليبرالي الذي يمتح مفهومه للدولة من الفكر البورجوازي، يعتقد أنّ التّاريخانية اختيار..بينما الحداثة ليست اختيارا لديه..حين تصبح الحداثة مطلبا سلفيا نكون أمام مفارقة..لا شيء في الغرب اليوم يستحق أن نوليه أهمية..في الكون العروي لا يوجد هيدغر، ميشيل فوكو، لا توجد مدرسة فرانكفورت، لا شيء من هذا يمكنه أن يكون حقيقيا غير أنوار القرن الثامن عشر..وهنا مكمن المفارقة حيث يناهض العروي أوهامنا بالأنوار كما لو كانت لا تحتوي على أوهامها أيضا..يجب أن نتخلّى عن أساطيرنا – كل ما له صلة بالتراث- وننفتح على كل شيء في الأنوار حتى أساطيرهم..ويتجاهل العروي أنّ أساطيرنا لا يمكن أن نتخلّى عنها حتى نبدع أساطير جديدة تتكيّف مع منسوب اللّوغوس نفسه الذي تبلغه الأمم..التاريخانية ليست ضد الميتوس، بل هي تاريخانية لوغوس وميتوس في آن واحد..وهذه تقتضي ثورة في الخيال، وهو أهم ما عرفه عصر الأنوار..اعتبار الأنوار لوغوس محض هو من مثالب المقاربة العروية الثّباتية التي نظرت إلى الأنوار نظرة سلفية لا تاريخانية..إذن، هو ينزع نزعة أصولية تشبه غريمه السّلفي..أمّا من حاولوا نقد العروي فقد فهلوا ذلك من دون تفكيك حقيقي لنصّ مريض بحداثة هي اليوم جزء من تاريخ الحداثة..انتقدوه أيديولوجيّا إمّا بمزيد من تشطير التراث وتبنّي النزعة التصنيفية ذاتها..العودة إلى أنوار جون جاك روسو عند العروي ستصبح هي الدعوة إلى أنوار ابن رشد عند الجابري، بينما اقتضت محاولة طه عبد الرحمن محاكمة العروي بمنظور للخصوصية السلفية وجد في التداوليات إدانة منطق(انية) لنصّ العروي..شيء ذكيّ في مقاربة الخطيبي لهذه التّاريخيانية وجب أخذه بعين الاعتبار..التّاريخيانية بالإحالة إلى المدرسة الماركسية في زمن المشاريع الكبرى كان كافيّا للحؤول دون التفكيك المطلوب لنصّ رهن الفكر المغربي لنزعة ثباتية تشعره بعقدة الذنب المستدامة، بينما يفتخ داعية التاريخيانية بأنّ آفات الزمان لم تغير من موقفه ورأيه قيد أنملة..مفكّر لا يتغيّر وإن تغيّر العالم من حوله..يعزز بسلوكه القهري ديكتاتورية التلقّي..وحده النص المقدس لا يتغير، وينزل من أعلى، بينما نقرأ مصادر العروي الكلاسيكية بكثير من التسامح النقدي..
ألمس في عيون الكثير من المثقفين المغاربة خيبة أمل وهم مضطرون لابتلاع طعم مغالطة السلطة التي يمارسها العروي وهو مفكّر محترم عندي جدّا لكن أسلوبه الباشوي تافه عندي جدّا..المثقف الحرّ الشجاع عليه أن لا يخشى من ديكتاتورية مثقف له رأيه في بحر من الآراء..صنّاع الأفكار الذين اقتبس منهم العروي وتعلّم ما لم يعلم هم أكثر تواضعا وديمقراطية وإنسانية مع زملائهم والمحيط..العجرفة أحيانا دجل..وإذا استمرت فهي مرض..هذا كلام يؤمن به كل المثقفين المغاربة ولكنهم لا يستطيعون البوح به..لنقوله وكالة عنهم..لسبب بسيط أنه لا مصلحة لي في أن أسكت عن هذه الحقيقة..المصلحة إذن، هذا ما يقرّه نصّ العروي نفسه..سمسار من عالم النّشر يفرده العروي بملازمة دائمة تعلم منه وهو أجنبي أن يستهين بالمغاربة حتى أنّه مرّة وصف لي بعض الساكنة الفقراء بالأوباش..أصابه مسّ منه فاستهان بالكتّاب المغاربة متلبّسا بشخصية العروي وهو خارج دائرة الجدل الأيديولوجي بين المغاربة..لا بدّ من استحضار التحليل النّفسي ونحن نباشر مطبّات الرأي والموقف عند أيديولوجيينا..عمل العروي بواسطة لعبة الغياب/الحضور، أي الغائب الذي يفرض من غيابه غير الطبيعي حظورا مكثّفا، على إصابة المثقف المغربي بعقدة الصغار أمام نصّه الذي يحبل بمطبّات أيديولوجية كبيرة..حاول الجابري أن ينتفض أمام هذا القهر العروي كما فعل طه عبد الرحمن في نهاية المطاف، فنالوا منه بالغ السخرية..لقد حوّلوا المشهد الفكري إلى مشهد مريض..غير قابل للمساءلة والنقد..
النص العروي مهمّ ومحترف لكنه قابل للتفكيك..ومغالطة السلطة التي يحيط بها نصّه من خلال التمظهر بباشوية المثقف لا بعضويته محاولة لإحاطة نصّه بهالة المقدّس..وكل ما يحيط به العروي نصه والطريقة التي تحضر “الثباتية” في نصه تجعله نصّا سلفيّا لا تاريخانيا..ومحاولة لوضع نصّه فوق قانون النّقد وهو أمر مضرّ بالعقل والفكر والممارسة النقدية..