رأي/ كرونيك

أسس الإسلام السياسي والأساسيات المنسية

تقوم السياسة على العديد من الأساسيات التي قد ينساها البعض، وقد يتناساها الكثيرون من المنشغلين بالإسلام السياسي. وعلى أساس التناسي أو النسيان قد تنشأ فرضيات خاطئة، وخيارات مضللة. من بين الأساسيات المنسية للسياسة نذكر ما يمكن تسميته ب “وظيفة النفس العاقلة” فمن أول شروط الحياة السياسية أن يكون المواطنون قادرين على التحكم في انفعالاتهم السلبية وغرائزهم البدائية، إذ يلجمون داخل أنفسهم -ولو نسبيا- قوى الغضب، والغيرة، والحسد وما إلى ذلك من الأهواء التي كلما تغوّلت إلا وقد تقود إلى خراب العمران وخلو الأوطان. وإذا كان أفلاطون، قد اعتبر الحكماء هم الأحقّ بالحكم، فدليله في ذلك أنّ الحكيم من يحكم نفسه، ولا يليق بمن لا يحكم نفسه أن يحكم الآخرين.

كما تستدعي الممارسة السياسية الالتزام بالسلوك المهذب. فمن أهم قواعد السلوك السياسي السليم أن يتصف الممارس السياسي بآداب اللباقة بلا قيد ولا شرط ولا استثناء. وهي الآداب التي تنسجم مع الدلالة الاصطلاحية للسياسة والتي تحيل في اللغات الأوروبية إلى أخلاق المدينة (بوليس إيتيك). أما الأساسية الجوهرية في العمل السياسي فهي ترسيخ السلم الأهلي بين الناس.
وبصرف النظر عن طبيعة النظم السياسية القائمة، والتي هي مسألة اجتهادية في آخر الحساب، فإن الغاية القصوى للسياسة تكمن في ترسيخ السلم الأهلي، عبر ترسيخ ثقافة القانون، واحترام المؤسسات، وتنمية القدرات التواصلية. على هذا الأساس، يُعتبر تأجيج الانفعالات المؤدية إلى العنف، من قبيل الغضب والغيرة والكراهية، وكل أشكال التهييج والتجييش، بمثابة إجراءات مدمرة للسياسة، حتى ولو قام بها من يحملون مصادفة صفة “رجال السياسة”، لا سيما في عصر موصوف بعصر انتصار الديمقراطيات.

وللديمقراطية بدورها عدة أساسيات منسية، من بينها المساواة في العقول بين كافة البشر، ذلك أن الناس متساوون في قدرتهم على التمييز بين الجيد والسيء، أو بلغة المعتزلة بين الحسن والقبيح. فلا عصمة لأحد، ولا وصية لأحد على أحد. لذلك لا تشترط الديمقراطية على المواطنين أي شروط معرفية أو اجتماعية أو دينية كيفما كان نوعها. لذلك، عندما يزعم أحدهم بأن المسلم هو الأقدر على إدراك الحق طالما ينتمي إلى “خير أمة أخرجت للناس”، فإنه بذلك الادعاء يمثل تهديدا للديمقراطية.

ومن المهم التذكير بأن لا ديمقراطية دون وجود الفرد كذات مستقلة، إذ يعتبر الستار العازل داخل مخادع التصويت الانتخابي تعبيرا بليغاً عن اللحظة الأكثر أهمية في ممارسة الديمقراطية، لحظة وقوف الفرد بصيغة المفرد أمام ضميره الخالص. لذلك لا توجد ديمقراطية إلاّ حيث يوجد الفرد كذات تمتلك إرادتها الحرة والمستقلة.

الإكثار من الديمقراطية يقتل الديمقراطية. كما يقول المنظرون الغربيون في الحقل السياسي. وأكثر ما يهدد الديمقراطية هو الديمقراطية نفسها، أي الشعبوية. لذلك السبب تحتاج الديمقراطية إلى تدابير وقائية قد لا تبدو ديمقراطية، ولقد اهتدى الوعي الديمقراطي المعاصر إلى بعضها، من قبيل دسترة حقوق الأقليات والحريات الفردية وحرية الإعلام والمساواة بين الجنسين.
ومن الأساسيات الثابتة في الديمقراطية، الحرص على عدم الإفلات من النقد. كونك تمثل أغلبية ديمقراطية فهذا الأمر لا يمنحك الحصانة من النقد، ولا العصمة عن الخطأ. بل يظل النقد السياسي ضروريا طالما الواقع السياسي محكوم بالنسبية والسيولة، وذلك حتى لا تنقلب الديمقراطية على نفسها.

كانت هذه ـ وبشكل مختصر ـ أساسيات السياسة والديمقراطية، أما عن أساسيات الإسلام فهي بدورها منسية وكثيرة، نذكر من بينها أساسية رئيسية تتمثل في مبدأ كلي وجامع وهو أن لا مؤسسات في الإسلام. مؤكد أن الإسلام ديانة لا مؤسساتية، ديانة دون رجال دين، ديانة دون هرمية. فإمامة الصلاة تطوعية ومتاحة لأي كان بلا شروط مؤسساتية، كما أن الإشراف على أي شعيرة من الشعائر ليس سوى ممارسة تطوعية، وقد يجعلها الناس أحيانا نشاطا تكميليا ضمن مهن حديثة، ووفق شروط تقنية وفنية غير شعائرية.

كما أن لا كهنوت في الإسلام، وحين نقول بهذا المبدأ وهذه القناعة الثابتة فمعناه إن لا وجود لرجال دين في الإسلام، وهو ما لا ينكره أحد. لكن معناه كذلك أن لا وجود لدولة أو سلطة دينية في الإسلام. الأساسية الجوهرية الأخرى في الدين الإسلامي هي أنه لا يحيل إلى أي انتماء أو هوية أو تيار أو جماعة، لكنه تجربة روحانية قائمة على توحيد الربوبية، ومجردة عن كل النزعات المذهبية.

أما الأساسية الأخيرة والمفصلية فتتمثل في قناعة يجب أن تُرسخ في الأذهان وهي أن لا دولة في الإسلام، إذ لا يكفي أن نقول إنّ الإسلام دين وليس دولة، لكي ينتهي النقاش حول علاقة الدين بالدولة في الإسلام، فهذا القول استنزف منذ الخوارج الذين أكدوا قديما بأنّ الإمامة ليست أصلا من أصول الدين ولكنها من المصالح المفوضة لنظر الأمة. ومع أنه لا أحد استطاع أن يبرهن بالحجج على نقض أطروحة الخوارج، حتى ابن تيمية نفسه، إلا أن ذلك لم ينه النقاش حول علاقة الدين بالدولة في الإسلام. عقب الفتنة الكبرى انتهت السلطة إلى معاوية بن أبي سفيان (الأموي) وليس إلى علي بن أبي طالب (الهاشمي)، وهو ما بدا كما لو كان منافياً للمكانة الاعتبارية لعلي بن أبي طالب، ومعاكسا لموازين القوى العددية.

وإذا كان التفسير الشائع يكتفي بالإحالة إلى دهاء معاوية وخديعة التحكيم، فإن هذا النوع من التفسير لا يفيد شيئا في فهم حركة التاريخ. ذلك أن المشروعية القائمة على كثرة الأتباع أو وَرَعهم لا تمثل أي سند للدولة، ولا تمثل أي قاعدة للملك. كتب ابن خلدون في تاريخه: “لما هلك عثمان واختلف الناس على علي، كانت عساكر علي أكثر عددا لمكان الخلافة والفضل، إلاّ أنّها من سائر القبائل من ربيعة ويمن وغيرهم. وجموع معاوية إنما هي جند الشام من قريش شوكة مضر وبأسهم، نزلوا بثغور الشام منذ الفتح، فكانت عصبيته أشدّ وأمضى شوكة”.

وإذا كان أساس الدولة في تاريخ الإسلام هو العصبية، وليس الدين، فإن بناء الدولة المدنية العلمانية اليوم سيكون بمثابة خروج عن العصبية، وليس خروجا عن الدين.
بخلاف الوظيفة العقلانية للسياسة، وبخلاف الوظيفة الاجتماعية للسياسة، وبخلاف الوظيفة الأخلاقية للسياسة، بخلاف كل تلك الوظائف الأساسية فقد رفع الإسلام السياسي شعارات ومفاهيم مضادة، سرعان ما دمرت مقاصد السياسة، ولم تترك منها سوى فتنة تنام حينا وتصحو أحيانا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى