قبل فوات الأوان…
يا أغنياء المغرب…!
يا أثرياء الوطن…!
يا ملاكي المؤسسات الصناعية…!
يا كبار الفلاحين…!
أيها الأثرياء…
لمَ تخليتم عنا…؟ لمَ تباعدت بيننا الدروب، وتباينت الجغرافيا، وسكنتم بعيدا عنا، كأن الجرب أصابنا أو الجذام، فأحطتم بيوتكم بالأسوار، وجعلتم على الأبواب العسس الشداد، والكلاب الشرسة…؟
حتما تخافون…؟
لأننا صرنا مجرمين… لصوصا وقطاع طرق…
هل كنا هكذا..؟
كيف علا سور التوجس والحذر بيننا…؟
هل تخافون منا…؟
أم تخافون من ظلال الماضي ومن صور تجركم جرا نحو جحيم الضمير..؟
نحن منكم…
منكم نحن…
منا من يوجد في مطابخكم يعد طعامكم وطعام ضيوفكم…
منا من يشذب حدائقكم…ويصنع لكم الظل والصورة والجمال..
منا من ينظف مسابحكم…ودورات مياهكم، ويعتني بشيوخكم وعجزتكم… حيث لا تستطيعون أنتم أن تطيقوا رائحة آبائكم وهم ينحدرون وهنا وتعبا ومرضا…
نحن نتحملهم… لأننا نقدس العمر والسن، والشيخوخة عندنا تاج لا عار..
منا من يعتني بكلابكم… أكثر ما يعتني بأبنائه..
فكلابكم محظوظة كقططكم وخليلاتكم…
منا من يقل أبناءكم إلى المدارس، يكبرون في حضنه ومعه وأحيانا مع أولاده… ويرافق زواجاتكم إلى الأسواق والمحلات التجارية وصالونات الحلاقة والتجميل والتنحيل والتدليك… يعيش القهر وهو يرى ثمن عطر يساوي مهر ابنته…يعض أصابعه ولا يستطيع وهو يرى كم هي عجيبة بطائقكم البنكية التي يبتسم لها الجواهري ومحلات الملابس الغالية..
قد يقود بك سائق منا سيارة طول عمره، يعرف أدق تفاصيل شبقك وعهرك… يموت ومعه أسرارك… وقد تكتفي بأن تربت على ظهره وبضعة كلمات…وتنسى أرملته…
قد تحتاجه في شهادة فيقسم من أجلك… قد يخوض شجارا من أجلك… لكنه سيظل الآخر الذي لا يشبهك…
منا ن يفتح لكم البوابة صباحا ومساء…قد لا ترونه أبدا… قد يمشي في جنازتكم زلا تعرفونه أبدا…
قد ينظف قيئكم الليلي… أثر فوضاكم… بقية جنون ومجون.. ولا تعرفونه..
منا من يخلصكم من فضلات بيوتكم ومن يتحمل وزر أخطائكم…
أعرف أحدهم تزوج صبية اغتصبها سيده…
كم صرنا نطيق العار… مقابل رضاكم..
منا من يحرث ويزرع الأرض لكم حين يأتي الحصاد… لا يطلب غير ربع رضاكم..
منا من يعتني بقطعانكم وضيعاتكم.. يحرسها ليلا ونهارا… ويسهر على لياليكم الماجنة…
منا من يبكي لوجعكم…ويمرض لمرضكم… وهو لا يعلم أن عينيكم على زوجته أو ابنته..
فبعضكم… يظن أنه يملك الروح والجسد والمصير والنفير والعير…
كثرة المال قد تصير نقمة عند البعض، فيغدو مخنثا أو عاهرا أو آكل لحوم بشرية…
منا نساء خادمات تزغردن وتفرحن لميلاد أحد أبنائكم… وترقصن بجنون… وتخضبن الأكف بالحناء، وبعضكم قد ينهش لحمها نهش الكلاب…
منا هؤلاء الذين يستيقظون في الغبش جحافل مثقلة بالديون والمرض والوهن لتدور آلات معاملكم… وتدور معها أموالكم بالبورصات والأبناك…
منا نساء كالرقيق في ورشات معاملكم الزنازين القاتلة يعملن ويبكين بصمت…
لا يشكين قيظا ولا قرا… وحين يمتن إهمالا يحاكم القدر بدل الغفر…يتهم الوطن بدل الجشع…تتهم الحجارة… ويحتفل بالمنجنيق… يلعن السوط ويتوج الجلاد
حين تتدفق الأنوثة على صدر بناتنا…
لا خيار لهن… سوى…
كوني عاهرة أو خادمة أو قتيلة محتملة..
بعضهن يكسرن دورة الخيارات المرة…
قليلات لكنهم أيقونات بلدي..
قليلات لكنهن قديسات في جبهة الصمود والإلحاح…
بعضهن… ملائكة لا يدنس القهر ظلالهم… ولا يجرؤ الفقر على تدنيس ترابهن…هن عاملات صابرات يمتحن الأمل من الألم… ويستمررن كي تستمر الحياة في البيوت…
اخترن أقسى طريق… لكنهن قديسات وطني… بل أنصاف آلهات..
منهن من يجعلن آلات الخياطة تدور… لتدور حياتهن..
بينما شيطان القهر يطلب المزيد… ويطمع في الجسد المتعب….
يا أغنياء المغرب…!
تذكروا…!
كنا نسكن معا…
في الحي نفسه…
ونتسوق من السوق ذاته…
حمام واحد…. وفرن مشترك… وعيد ومواسم وأفراح وأعراس…نفسح لكم المجالس… ونعرف قدركم… لكنكم كنتم حكماء الحي… وآباء الآباء … وقضاة الحارات..
كان عدلكم منصفا… لأنكم كنت نخلة الزقاق… وعموده الكهربائي الوحيد..
بلا جدران ولا عسس ولا كلاب…
كنت منا… وكنا منكم…
حتى قررتكم يوما ما…
أنكم لستم مثلنا…
وأنكم جنس آخر….
مغاربة آخرون…
فتغيرت لغتكم… وطريقة لباسكم.. وتغيرت سلالة كلابكم… وأسماؤكم غدت غريبة…
وسكنتم بعيدا عنا… فصرنا نحن… وصرتم أنتم… لكم الأشجار والأنوار والسياسة والجاه ولنا الأسوار والأغوار، لكم الطريق والحراس والأمن والفرح ، ولنا الخوف والقهر والجنون والترح..
مرضكم غير مرضنا….
نمرض فنموت…
لأنكم قررت ذات زمن أن الصحة سلعة كالزيت والسكر والشاي…
لكنكم… لحظ الحظ فانون…
كنا ندرس معنا… نرتقي معا سلم الحياة، الطاولات نفسها، رائحة الحبر ذاته الذي يبلل أصابعنا وملابسنا…
ثم ذات زمن… وجدنا أنفسنا وحدنا في مدارس باردة، بلا نور ولا أفق، يحيط بها الفقر والقهر، مدارس تتآكل كلما تمددت وتنوعت مدارسكم، حيث الهواء والماء والضياء والفرح، حيث الصباغة ضاحكة والموسيقى مشاغبة، والحروف زاهية…
حين غدت لكم مدارسكم الخاصة، وقبلتم أن تكونواخريجي مدارس المحتل فخرا مزيفا … بلغته وحضارته تحكمنا نخبتكم..
فغدت لكم لغة ناعمة نعومة جلودكم… ولم تبق لنا نحن أي لغة… فقدنا حتى القدرة على الكلام…
وأنتم… تفكرون لنا… وتخططون لنا… وتحكمون باسمنا… ولستم منا…
ولأننا أغبياء نمنحكم تفويضا باستنزافنا وقهرنا… وبدل أن نغير خرائطنا… نغير كل بضع سنين ساري مركبنا…
ولأننا أغبياء… نظن أن الفطر على الجبهة نور وعلامة العابد
ولأننا أغبياء تظن أن لسان الدين هو لسان الصدق…
والدين في زمننا صار وليمة سياسية شهية الأعشاب..
ولأننا أغبياء مازلنا نمنح تفويضا لتدبير حياتنا لمن خرج باكرا من حياتنا… وصرنا فقط مجرد رقم يحتسب…
تبا للسياسة…تبا للديمقراطية… حين يمنح حق تقرير المصير للقطيع..
هذه اللعبة العاهرة… ألحقت بكم من كانوا منا… فغدوا منكم…فانشغلوا عنا بطول الأسوار وهوية الكلاب الشرسة والفخر نساء يتكلمن بالفرنسية، والتشدق بسفريات لباريس ولندن…
تغيرتم ببساطة…
فقط لأنكم تحفظون أشعار بودليروملارمي وفيكتور هيجو، وتمجدون الليوطي فاتحا… بطلا فرنسيا… تنشدون قبل منبت الأحرار لامارسييز
كنت معنا… وفينا….ومنا…
حتى غيرتكم الدار العالية والرياض البهية بالفيلات الواجمة والعقارات الضارية
كنت منا وفينا… حتى… سكنتم بعيدا… وتغير الشجر والبحر والقدر
كان النخيل هويتنا فاستوردتم نخيلا سامقا هجينا بلا بلح
كان التين والرمان والليمون نكهة حيانا فغدت الأشجار مجرد سور على سور… وعلامة على العبور..
كنا نسبح معا على الشاطئ نفسه، فأخذتم الشاطئ…برصيفه ومقاهيه وملاهيه وتركتم لنا الصهد والحفر والمستنقعات و شواطئ تتقيأ فيها المدينة كل عفنها…
في المآتم والأحزان والأفراح والأعراس..
كنا معا… في المواسم والأعياد…
فصارت مواسمكم كرنفالا يشد له الرحال وتضرب له أكباد الطائرات نحو عالم آخر لا ينام ليلا.. ووحدنا ضللنا ننصب خيامنا قرب الأضرحة…نزور الموتى بذريعة البركة ونحن نتوق للحركة والحرية…
هذا خطاب قد لا يعني القليل منكم…
ماذا سيفيدكم أن تزداد ثروتكم ويزداد كره الشعب لكم…؟
ماذا سيفيدكم أن تراكموا مزيدا من الأموال والعقارات و الضيعات والأراضي، و والشعب يكرهكم… ويكره حياتكم ويتربص بأسواركم العالية ويلعن كلابكم النادرة الشرسة، وسياراتكم البراقة النفيسة، وعطوركم الغالية، وملابسكم العجيبة…؟
ماذا سيفيدكم كل هذا الثراء… ونحن لا نحبكم…
ماذا تظنون…؟
أتظنوننا حين نمشي جحافل في جنائزكم… نحبكم…؟
لا … أبدا…
ففينا من يمشي في جنائزكم ليضمن عمله في مصانعكم..
وأراضيكم…وأوراشكم…
وفينا من يمشي مقدما الولاء للوارث المحظوظ…
وفينا من يمشي لأنه ألف تزلف الأغنياء ولو كانوا جثثا…
ففينا أيضا العبيد، لو حررتكم لماتوا كمدا…
يا أثرياء بلدي….
لا عيب في الغنى والثراء…
تلك سنة الحياة…
لكن…
ماذا سيفيدكم عزلكم قبوركم عنا، وإحاطتها بسور عال، وباب وبواب…؟
هل الأسوار والرخام تمنعان تعفن الجثث…؟ هل تجميع قبوركم في شبه دور يغير الحساب والمصير…؟
يا أغنياء المغرب…؟
أي نشوة تجدونها و أنتم تطلعون كل يوم على حسابات جارية، تزداد أصفارا على اليمين، و نحن… الفقراء… المساكين… المقهورين… سكان العالم السفلي… نموت كمدا… لأننا لا نجد الدواء…. ولا العزاء..
نختفي قهرا لأن كلفة العلاج تساوي الجميع… ولأن أبناءنا يقهرهم الفراغ والبطالة، فيكرهون وطنهم ووجودهم، فيتحولون إلى وحوش ضارية، تنكل بأجسادها…
يا أغنياء الوطن….
بعضكم اغتنى من السياسة… وغير المقام والمقال… ألا تخجلون من نظرات الشعب على الطرقات…؟
كونوا معنا…
عودوا بيننا…
حطموا جدار الحقد…
فقد تساوي جولة بسياراتكم… فاتورة حياة…
وقد ينقذ ثمن قنينة خمر معتقة…عشرات المرضى..
حين تديرون مفتاح محركات سيارتكم اعلموا أنكم تديرون طواحين الحقد في النفوس….
عودوا إلينا…
معنا…
لا عيب في الثراء…
لكن العيب كله… أن يموت المغربي من أجل دواء قد يساوي بقشيشا في ملهى…
ليس العيب في المال… بل في الجشع ومص الدماء…
والعيش وراء الأسوار… وفي الوطن… شعب تعصره المحن…