الرابحون والخاسرون.. في المشهد السياسي الجديد بالمغرب
لآن، وقد اكتملت أشواط المباراة الديمقراطية بالمغرب، بإجراء انتخابات تشريعية ومحلية وجهوية، هل بالإمكان القيام بجرد سريع وحساب للربح والخسارة التي أسفر عنها المشهد السياسي الجديد؟ طالما أن من تولى رئاسة الحكومة هو من أبرز رجال الأعمال، ينطلق من تقديرات الربح ويتفادي الخسارة في المنافسة التجارية، ويعتبر من الكائنات التي تنام وتصحو على مداولات البورصة ومؤشر الصفقات. وكلّ صفقة لا بد أن ينجلي غبارها عن رابح وخاسر.
فى مجال السياسة أيضا يحضر منطق الصفقات والربح والخسارة، حيث تصطبغ الممارسات ببرغماتية بحتة، تترجم توصيف السياسة بـ”فن الممكن”، ليتوافق قاموس المال والأعمال مع المعجم السياسي. من هنا لا يجب إهمال أن البرلمان المغربي بغرفتيه (مجلسي النواب والمستشارين)، دائما كان يضم نسبة من رجال الأعمال وأصحاب المقاولات، وهم بالطبع أصحاب خلفية تجارية واقتصادية. وإن كان القانون يلزمهم بالتخلي عن تسيير مقاولاتهم أثناء ولايتهم، فإن الأمر يحصل فقط على الورق.
رابحون وخاسرون…
تتقدم خانة الرابحين ثلاثة أحزاب احتلت المراتب الأولى، التجمع الوطني للأحرار، والأصالة والمعاصرة، والاستقلال، وهي التي شكلت الحكومة الحالية بأغلبية جد مريحة.
أما في خانة الخاسرين، فيعد “حزب العدالة والتنمية” (البيجيدي) الخاسر الأول. بل اعتبر انهياره بالشكل المفاجئ الذي جرى، أكبر خسارة سياسية مني بها الإسلاميون في المغرب، من 125 مقعدا في الانتخابات السابقة إلى 13 مقعدا! هزيمة تردد صداها عبر العالم، بدرجة استعجلت الكلام عن “نكسة للإسلام السياسي”.
إذا شخصنا الأمر، سنقول إن سعد الدين العثماني (رئيس الحكومة المنتهية ولايتها) خسر مرتين، مقعده في رئاسة الحكومة وفي البرلمان، ومن المنتظر خسارته لمنصب الأمانة العامة في حزبه.
وخسر محازبه عبد الإله بنكيران (رئيس الحكومة السابق)، لما فشل في آخر اختبار لشعبويته ومدى تأثيرها. ويرجع البعض أن من الأسباب المباشرة للسقوط المريع لـ”البيجيدي”، الخرجات الإعلامية المرتجلة لبنكيران، ومنها الفيديو الذي سجله من بيته بحي الليمون في العاصمة، وحرص فيه على التذكير بدور حزبه في إنقاذ النظام الملكي من ثورات الربيع العربي. بدا بنكيران وكأنه ينفذ عملية ترهيب مفخخة بحزام تحذير صاعق. لما توعد، مستبقا النتائج الانتخابية، أنه في حالة ما إذا أفرزت الصناديق فوز حزب التجمع الوطني للأحرار، وتم إعلان رئيسه عزيز أخنوش على رأس الحكومة، فإن المغرب – في اعتقاده – “ولا ريب ذاهب إلى الهلاك المبين”.
لقد حدثت مغالاة في التركيز على خسارة “البيجيدي”، بروح من التشفي. وتناسى القوم بقية عناصر المشهد، وحجم التزوير الذي حصل. إذ هناك أحزابا أخرى جنت الفشل، في مقدمتها أحزاب اليسار الراديكالي الثلاثة، التي كانت تأمل في تحسين وضعيتها بمجلس النواب، ولم يتأت لها سوى مقعدين، ومن الأسباب تأزم خلافاتها وانقسامها ليلة الانتخابات.
كما خسرت الأمينة العام للحزب الاشتراكي الموحد نبيلة منيب، رغم فوزها عن جهة الدار البيضاء – سطات، لأنها ستكون يتيمة حزبها تحت قبة البرلمان.
وخسر الثنائي عبد السلام لعزيز وعلي بوطوالة (تحالف فيدرالية اليسار)، الأول لم يظفر بتمثيل ساكنة الدار البيضاء في البرلمان، وهو اليوم على عتبة مغادرة رئاسة حزب المؤتمر الوطني الاتحادي بعد ثلاث ولايات متتابعة. وقد يخسر علي بوطوالة أيضا الكتابة العامة لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، بعد مناشدات أعضاء من حزبه تطالب بتغيير القيادة. ناهيك عن التصدعات التي ظهرت في هذه الأحزاب الثلاثة.
وخسر اليساريون بضياع حلم إطلاق “الحزب اليساري الكبير”، بعد انشطار فيدرالية اليسار الديمقراطي.
وخسر الأمين العام السابق لحزب الاستقلال حميد شباط، عندما لم يحصل على تزكية حزبه بالترشيح للبلديات. فتقدم باسم حزب جبهة القوى الديمقراطية، وهي سابقة سياسية، انتقال أمين عام حزب إلى حزب آخر. ورغم فوزه، فإنه لم يتوفق في العودة إلى منصب عمدة مدينة فاس، وقد تكون إطلالته الأخيرة في المشهد السياسي، ليعود إلى إقامته وأعماله بتركيا التي حصل مؤخرا على جنسيتها.
كما خسر الأمين العام للحركة الشعبية امحند العنصر بنيل حزبه الرتبة الخامسة، بـ 29 مقعدا، ليجده نفسه مرسلا إلى صقيع المعارضة، وقد اعتاد دفء الأغلبية والاستفادة من نعيمها. كما خسر رئاسة جهة فاس – مكناس.
وخسر الأمين العام لحزب الاتحاد الدستوري رجل الأعمال محمد ساجد، بتراجع حزبه إلى المرتبة السابعة، بـ 18 مقعدا، لتنطلق المطالبة من داخل حزبه بتركه القيادة.
ولن نتكلم عن الأحزاب الصغرى التي لم تحقق شيئا يذكر، سوى رفعها من مؤشر الأحزاب المشاركة إلى ما يفوق الثلاثين حزبا، فلم يحظ 20 حزبا بأي مقعد برلماني.
الحزب الضرورة
يبقى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وترتب رابعا، ما اعتبره كاتبه الأول إدريس لشكر ربحا ونتيجة متقدمة من محصلات “قيادته الحكيمة”. رغم أن 23 فائزا باسم الاتحاد (من أصل 35 نائبا)، تمت استعارتهم في “الميركاتو السياسي” من صفوف الأعيان وأحزاب السلطة. ورغم هزيمة جميع من ترشحوا من أعضاء المكتب السياسي، فقد أصر إدريس لشكر على التمسك بالمشاركة في الحكومة، وبلغ به الأمر مبلغا محرجا، تحول فيه الكاتب الأول إلى موضوع للسخرية والإشفاق على المواقع الاجتماعية وأحاديث المجالس الخاصة.
حيث تابع الرأي العام كيف أخرج “حزب الوردة” كل أسلحة الضغط والابتزاز من أجل تحقيق مبتغاه في المشاركة بأي ثمن. وبلغ الأمر ذروته لما تسرب أن إدريس لشكر طلب من المكلف بتشكيل الحكومة تأمين حقيبة وزارية له ولابنته. وزاد من تأكيد هذه التسريبات ما واظبت على نشره يومية “الاتحاد الاشتراكي”، من مقالات وتعليقات تصب جميعها في اتجاه “ضرورة” إلحاق الاتحاد الاشتراكي بتشكيلة حكومة أخنوش، دون أن يهمل محرر تلك المقالات الاقتباس من الخطب الملكية لتعزيز رأيه، ولإبراز الاتحاد الاشتراكي “الحزب الضرورة”، من دونه لا شيء يستقيم، وأن مشاركته “مصلحة وطنية عليا” من أجل تنزيل “البرنامج التنموي الجديد” الذي اقترحه وصادق عليه العاهل المغربي.
لكن الرياح مشت بما لا يشتهيه مجذاف لشكر ومركبه المكسور، إذ أنهى الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة كل جدال، وأعلن عن تأليف حكومته من الأحزاب الثلاثة الأولى. ليسارع إدريس لشكر، ما بعد منتصف ليل الأربعاء الأخير، إلى نشر “بلاغ عاجل” باسم المكتب السياسي، محتواه أن الاتحاد الاشتراكي “اتخذ قرار الخروج إلى المعارضة”. بينما العالم كله يعرف أنه ليس قرارا يعبر عن إرادة مستقلة، بل هو “أمر واقع” فرض على حزب استمات من أجل ما أسماه بـ”تناوب توافقي ثالث”، فجرى الدفع به مكرها “رغما عنه” للارتكان في زاوية المعارضة. ما لم يكن يرغب فيه مطلقا إدريس لشكر، ولا كان مهيئا له.
نحن المعارضة، نحن اليسار..
في صباح الغد الموالي (الأربعاء 22 سبتمبر 2021) استدعى لشكر الصحفيين، وحاول أمامهم تسجيل أهداف مباغتة في مرمى الأغلبية قبل إعلانها رسميا، واصفا إياها بـ”مثلث التغول”. متوقعا انفجارا وشيكا من داخل الأغلبية المشكلة. وتضمنت ردوده على أسئلة الصحفيين شعارات مستمدة من أصداء الزمن الاتحادي العتيد، لما كان الحزب في واجهة المعارضة لأربعة عقود، أدى مناضلوه خلالها الثمن غاليا بالسجون والاغتيال والمنافي. قبل أن يدخل الاتحاد إلى الإصطبل “المخزني”، ويصبح حزبا لا يختلف عن بقية الأحزاب التي كان بالأمس ينعتها بـ”الأحزاب الإدارية”. بل سينقلب على مواقفه وسيرته، مزايدا في “المخزنية” والموالاة.
ما يفيد أن أنياب الاتحاد ومخالبه تم خلعها بالكامل، ولم يعد بإمكانه سوى أداء معارضة مزيفة، هو ما لخصه تعبير ساخر على مواقع التواصل الاجتماعي يعلن عن “تعيين السيد إدريس لشكر وزير دولة مكلفا بالمعارضة”. وغمرت القفشات الساخرة الفيسبوك والواتساب، منها صورة تاريخية تجمع الأقطاب الثلاثة المؤسسين لحزب الاتحاد، (المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد ومحمد الفقيه البصري) وهم يستنكرون مآل حزبهم إلى “لشكر”.
لقد بدأ استثناء الاتحاد الاشتراكي من تصنيف اليسار منذ قبوله تأليف “حكومة التناوب” في آخر أيام الملك الحسن الثاني. ما جعل لشكر يصيح بعنف: “نحن اليسار”، وها هو اليوم يهدد بغضب، بعد عدم الاستجابة لرغبته الملحة في المشاركة في الحكومة بـصرخة: “نحن المعارضة”.
صعوبات تشكيل المعارضة
تشكلت الحكومة في وقت قياسي، ولم يجد الرئيس المكلف أمامه أية عوائق لضمان أغلبيته المريحة. لكن التساؤل العالق هو عن ماهية الأحزاب التي ستتولى دور المعارضة. إذ يتوقع أن تكون أضعف معارضة برلمانية يشهدها المغرب. فالاتحاد الدستوري والحركة الشعبية والحركة الشعبية الاجتماعية، تفتقد لثقافة المعارضة لأنها ولدت في أركان وزارة الداخلية.
والتنسيق بين أحزاب التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي والاشتراكي الموحد وفيدرالية اليسار، غير وارد بالشكل المنسجم والمطلوب، ويتضاءل التفافها، بدل التشتت، حول تصور موحد لأداء مهمة المعارضة.
يبقى سيناريو افتراضي بسعي الاتحاد الاشتراكي لمفاجأة حكومة أخنوش في أول أيامها، كفريق كرة متحفز يهاجم منذ الدقائق الأولى ليباغت خصمه بالتسجيل مع انطلاقة المباراة بغاية إرباكه. وقد يسقط الاتحاد في خطيئة محاولته الاستعراضية بزعمه “الحزب المعارض الأقوى والشرعي والوحيد”، ليس بغاية استقطاب نظر الجماهير، “كممثل لمطامحها ومدافع عن مصالحها”، ولكن أساسا لاسترعاء اهتمام الجهات العليا بأنه التلميذ المنضبط والنجيب. وربما منّى إدريس لشكر النفس بالاستنجاد به في منتصف الولاية الحكومية.
من جهة أخرى، كما أكد لشكر بلسانه، سيحرص الاتحاد من موقع المعارضة على “مراقبة تطبيق التوجهات الملكية السامية”! ما سيوقع الحزب ربما في بحر هائج يصعب فصل مياهه الدافئة عن الباردة، هكذا يضيع الحد الفاصل بين الموالاة والمعارضة، ولن يبادر الاتحاد بأداء مساءلة برلمانية مغايرة لما قام به منذ السنوات التي تلت “حكومة التناوب”. بعد أن تدهور الاتحاد الاشتراكي من حزب منظم متجذر وعريق، يحمل مشروعا مجتمعيا ورؤية فكرية وسياسية وأمجادا من التضحيات والنضال، إلى حزب انتخابي يسعى لاهثا وراء الكراسي والمناصب واستقطاب الأعيان وأصحاب المال.
الخاسر الأعظم!
لا يمكن تصور نجاح العملية الديمقراطية من دون استنادها على معارضة سياسية قوية في مواجهة السلطة المهيمنة، وليست معارضة شكلية تتلقى التعليمات في الكواليس. بمثل هذه المعارضة لا يمكن القيام بأي دور بناء، ما دام أداؤها ينحصر في التعبير عن مصالح حزبية ضيقة. مما يفتح الأبواب على مصراعيها أمام المعارضة الشعبية خارج البرلمان والأحزاب، من خلال منظمات المجتمع المدني المستقلة والمبادرات الفردية والتلقائية، أو الاحتجاجات الافتراضية المرابطة في منصات التواصل الاجتماعي، القابعة خلف متاريس الكمبيوتر وهواتف الأيفون والأندرواد. وهي معارضة ذات تأثير كبير ولا شك، لكنها تظل من دون قدرات تنظيمية، وتتصف غالبا بالجرأة وأحيانا بالتهور، علما أنها تخضع لمراقبة الأجهزة الاستخباراتية. وفي هذا الإطار يجري توقيف ومحاكمة مدونين بعدد من المدن المغربية.
إن المعارضة البناءة والنقدية تعكس حقائق السياسة الممارسة، وغيابها لا يعني سوى غياب السياسة. فهل يمكن اعتبار ما يجري حاليا في انتخابات رئاسات البلديات والجهات، شيء من السياسة؟ إن ما ينتشر الآن من أخبار أغلبها موثق ومصور، عن استعمال المال والتهديد بالاختطاف والتصفية والقتل، أمر يبعث على القلق والتخوف من المستقبل.
وبالعودة إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، فنشير إلى أن صعود إدريس لشكر كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي اقترن بموت خصمه في الحزب، الصحفي أحمد الزايدي، غرقا في فيضان “واد الشراط” (جنوب الرباط). وأن مغادرة لشكر القريبة للقيادة، يرافقها موت صديقه رجل الأعمال عبد الوهاب بلفقيه، (عضو المكتب السياسي السابق للاتحاد الاشتراكي)، في ظروف غامضة، قالت عنها تحقيقات أولية أنها “انتحار”. وقد سارع لشكر لتبرئة نفسه قاذفا بالاتهام و”المسؤولية الأخلاقية” على رئيس حزب الأصالة والمعاصرة، الذي فاز معه عبد الوهاب بلفقيه بمقعد نيابي في الانتخابات الأخيرة.
من الصعب الاعتقاد أنه بين مسافة موتين بهذا المستوى من التراجيديا والغموض، سيبعث الاتحاد الاشتراكي من جديد؟ فالسياسة – كما كتب جورج أورويل – “وجدت لتجعل الكذب يبدو صادقاً والقتل محترماً”.
ثمة رابحون وخاسرون آخرون يتوارون خلف الستار الشفيف، لكن الخاسر الأعظم في حسابات بيدر وحقل السياسة المغربية، هي الديمقراطية أولا وأخيرا.