رأي/ كرونيك

بين تونس والمغرب: هل عاد الرشد؟

نزار بولحية: كاتب وصحافي من تونس

لا أحد انتظر أو توقع من تونس والمغرب بالذات أن تطلقا، حتى في عز التوترات القليلة والمحدودة بينهما، تصريحات حادة أو قوية تجاه بعضها بعضا. فالبلدان معروفان بالاعتدال، وغالبا ما حرص المسؤولون فيهما على احتواء الأزمات والخلافات القليلة التي نشبت بينهما بالكثير من الحكمة والهدوء، وبعيدا عن أي تصعيد أو جعجعة كلامية. لكن في هذه المرة وفي ما ما بات يعرف بواقعة رادس الكروية، كادت الأمور تخرج عن السيطرة تماما وتشذ عن ذلك، لولا أن الطرفين استطاعا بالأخير، ورغم بعض السقطات والهفوات، وربما حتى سوء التقدير أن يبقيا على الهدوء وضبط النفس المطلوبين لإدارة تبعات ما خرج تماما عن كونه نزاعا رياضيا بينهما.

أما كيف حصل ذلك وما الذي جرى وراء الكواليس، وجعلهما يغلبان الرشد بعد أن كادت لحظات غضب وطيش تجرهما إلى عواقب وخيمة؟ فهذا ما سيبقى في هذه المرحلة على الأقل لغزا مبهما. لقد فضل رئيسا حكومة البلدين، لاسباب ربما تدرك بمرور الأيام، أن يبقيا على قدر من السرية والغموض، ويطلقا الثلاثاء الماضي تصريحات لم تكن لتوحي أو تدل على أن الأجواء، بعيدا عن قاعة اجتماعهما في قصر الأمم بجنيف، كانت على الاقل وإلى حدود زمن قريب حادة وحارة بعض الشيء، أو أن يشيرا ولو بشكل ضمني وعابر إلى كل تلك السحب والغيوم التي تراكمت فوق سمائهما منذ فترة، وما شهدته علاقتهما من توتر وجفاء نسبي ملحوظ. وكان واضحا يومها أنهما لم يكونا مستعدين ابدا لان يقولا حتى بأن الازمة ولت وانقضت وصارت وراء ظهرهما الآن، لأنهما لم يكونا راغبين في الإقرار أصلا بأنها كانت موجودة.

ومع ذلك فقد كان ظهورهما معا أضعف الإيمان، والحد الأدنى الذي كان مطلوبا منهما، وأفضل في كل الأحوال من استمرارهما في الصمت. ولعله اعتبر أيضا مؤشرا إيجابيا مهما قد يبعث على الاطمئنان وربما التفاؤل. لكن هل أن اقصى ما كان باستطاعتنا انتظاره هو أن يحصل الاجتماع التونسي المغربي لتكون نتيجته العملية الوحيدة تقريبا هي مراكمة المزيد من السفسطة اللغوية الركيكة إلى قواميس رسمية تعج بمئات العبارات، التي لا تختلف في صياغتها أو أسلوبها في شيء، عما ردده رئيس الحكومة التونسية من أن «هناك آفاقا واعدة للتعاون بين تونس والمغرب»، أو ما قاله رئيس الوزراء المغربي في سياق تنويهه بالعلاقات المغربية التونسية، بوصفه لها بالـ”مميزة” واشارته إلى انه «ينبغي تطويرها خاصة أن المنطقة تعيش تحديات صعبة في وضع اقليمي ودولي معقد يصعب التنبؤ بتطوراته».

ألم يكن كل ذلك كلاما في كلام ونفخا في قربة فارغة واحتواء جديدا لتطلعات حقيقية ومشروعة لأجيال حلمت وتطلعت في البلدين لمزيد من التقارب والتعاون، وحتى الوحدة، وإفراغا لآمالها وأحلامها تلك من أي معنى أو قيمة؟ ام أن التذكير بكل تلك الشعارات والأمنيات في مثل هذا الظرف بالذات، كان امرا ملحا وعاجلا أملته الحاجة للرد الضمني وغير المباشر على كل الشكوك والتأويلات المشبوهة، والنوازع والرغبات التي سيطرت على البعض من هنا وهناك، وجعلتهم يسعون لسكب مزيد من الزيت على النار؟

ما يعني التونسيين والمغاربة هو أن يدركوا أن المسؤولين انتبهوا لمشكل حقيقي بعد تعمق الجفوة بين بلديهما بفعل تداعيات مباراة لكرة قدم جرت بين فريقين رياضيين

لقد حصل اللقاء الموعود فوق أرض محايدة، وداخل قاعة واسعة ضمت طاولة عريضة سمحت للوفدين بأن يتركا مسافة واسعة بينهما، ربما لمراجعة أشياء لم يخططا لها في السابق. وكان المطلوب باختصار أن تطير السكرة عاجلا لتحضر الفكرة على الفور، ويصغي الجميع في وقت قريب لصوت العقل، بدلا من كل الزعيق والضوضاء الذي ملأ لايام معظم قنوات الإعلام ومواقع التواصل في البلدين. لكن من كان صاحب الفكرة ومن سبق الاخر وصحى قبله وكان المبادر بطلب اللقاء؟ لا تكشف لنا برقيات وكالات الانباء، ولا حتى التصريحات الرسمية شيئا عن ذلك. ولعل الامر يبقى في الوقت الراهن تفصيلا جانبيا، ربما لا يفيد كثيرا في المسعى لإعادة المياه لمجاريها، وتنقية الأجواء بين الطرفين. فما يعني التونسيين والمغاربة اليوم وبدرجة أكبر، هو أن يدركوا أن المسؤولين انتبهوا إلى أن هناك مشكلا حقيقيا لم يعد ممكنا أن يستمروا في تجاهله، واختاروا الجلوس ولو لوقت قصير لمحاولة البحث عن حل له، بعد أن تعمقت الجفوة بين بلديهما بفعل التداعيات والأبعاد التي اخذتها مباراة كرة قدم جرت بين فريقين رياضيين، وتخطت بأشواط حقل المنافسة الكروية الصرفة.

إن مجرد ظهور رئيس الوزراء المغربي سعد الدين العثماني ورئيس الحكومة التونسية يوسف الشاهد، بعد كل الزوبعة التي أثارتها تلك المباراة جنبا إلى جنب، وهما يبتسمان لعدسات المصورين، ويدخلان إحدى القاعات بقصر الأمم، لعقد جلسة عمل على هامش مؤتمر منظمة العمل الدولية، قد يحدث كما يتوقع الرجلان رجة نفسية، ويشكل حدثا في حد ذاته، رغم أن أخبارا أخرى غطت عليه، وجعلته يبدو موضوعا ثانويا لا يحظى بتغطية إعلامية واسعة لا في المغرب ولا في تونس. ولكن هل كان القفز فوق المشكل الاصلي، الذي سبب كل ذلك الشحن والتوتر الشعبي بين الجانبين، وكاد يحدث أزمة دبلوماسية عميقة بينهما، واعتبار انه لم يكن ولم يحدث بالمرة، هو الحل الأفضل لطي الصفحة أو لغلق القوس بشكل نهائي؟ أم أن مصارحة الشعبين بحقيقة ما جرى، والكشف حتى عن الطرف الذي تسبب في الصدع، أو حاول استثمار المشكل والنفخ فيه والركوب عليه، لتوتير العلاقة بين البلدين كان الأولى والأجدى حتى يعرف التونسيون والمغاربة من يتربص بهم، ولا يريد لهم ولا لباقي الشعوب المغاربية إلا المزيد من الفرقة والتشرذم والصراع؟ ألم يكن من حقهم مثلا أن يعرفوا من سعى لتخريب العلاقة وهل أن هناك طرفا ثالثا في القصة؟

إن واحدا من المفاتيح الضرورية للجواب قد يكون الاشارة القصيرة لرئيس الوزراء المغربي إلى التحديات الصعبة والوضع الاقليمي الذي لا يمكن التنبؤ بتطوراته. فليس من باب الترف أن يحاول المغاربة والتونسيون تجاوز الخلاف الرياضي ومحاولة السيطرة عليه واحتوائه حتى لا يتوسع لمدى اكبر. إذ فضلا عن المصالح الثنائية الوثيقة التي تربطهما، فإن نظرة سريعة إلى المجال الإقليمي والدولي المحيط بهما تكفي ليدرك الاثنان معا أنهما لن يكسبا من التصعيد بقدر ما أنهما سيكونان خاسرين في كل الحالات.

فالوضع في ليبيا مفتوح على المجهول، ولا شيء يدل على أن الانتقال السلمي للسلطة في الجزائر سيكون سلسا، وسيمر بهدوء ومن دون هزات جانبية. كما أن الأطماع الخارجية في المنطقة كلها باتت تزداد وتتضح يوما بعد آخر وبصمات التدخلات الأجنبية فيها لم تعد خافية على أحد. وإذا كانوا قد قالوا قديما إن الحاجة أم الاختراع، فربما علينا أن نقول الآن إن الحاجة هي التي كانت أيضا أم الحفاظ على الاخوة التونسية المغربية من مجانين الكرة والسياسة.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى