فكر .. تنوير

متى نكتب سيرة النبي محمد؟

أيُّهم محمّد؟ ذلك الذي كنا، ولم نزل، نتنفسه في لغتنا اليومية… نصلي عليه في الفرح كي يدوم، في الحزن كي يهون، نهدي صلاته للغاضبين كي يهدأوا، نستفتح بالصلاة عليه حواديت الصغار، ونحلف به قبل “وهبنة” المزاج المصري، ونتقّي به شر الحسد “النبي حارسك” ونبالغ به في الترحيب بالضيف “زارنا النبي”، حتى زيارة البيت الحرام، في الخطاب الشعبي، زيارة له، ندعو لمن لم ينلها: “ربنا يوعدك بزيارة النبي”، ترتبط باسمه وصفته وسير أبنائه وأحفاده وحفيداته آلاف القصص والأشعار والأمثال والحقائق والأساطير والخرافات، لا يعنينا صحيحٌ من ضعيف، غثٌّ من سمين، ما يعنينا هو التدفق المستمر لمزيد من شحنات الحب والوجد، فهل هذا حقا هو النبي؟

- كاتب صحفي، وإعلامي، وباحث في العلوم الإنسانية
بقلم محمد طلبة رضوان كاتب و صحافي وباحث في العلوم الإنسانية

محمّد في الخطاب الوعظي أسطورة. ليس بشرا، وليس مثلنا. مخلوقٌ من نور وجه الله، خلقت الدنيا من أجله. معصوم، لا يخطئ، لا يضعف، لا يقلق، لا يفشل، تحيط به المعجزات الحسّية منذ طفولته، تسقط شرفات الملوك، وتغلق أبواب السماء في وجه إبليس، ترمى الشياطين بالنجوم، وتكبّ الأصنام على وجوهها، وتغيض بحيرة ساوة، ويفيض وادي السماوة، وتخمد نيران فارس، الموقدة من ألف عام، وينتشر النور من الحجاز إلى المشرق. ..

تصحبه المعجزات قبل النبوة رضيعا وطفلا وشابّا يشقّ جبريل صدره وينتزع علقة من قلبه ويقول هذا حظ الشيطان منك ويغسله في طستٍ بالماء والذهب ويعيده إلى موضعه تظلّله سحابة وهو يمشي بين الناس ويشير إليه بحيرا الراهب وهو لم يزل طفلاً ويقول هذا نبي… فهل هذا حقّا هو النبي؟

محمد في خطابات الفرقاء يشبههم جميعا، في خطابات المتشدّدين شديدٌ غليظ، وفي خطابات الوسطيين سهلٌ ليّنٌ رحيم، في خطابات الحركيين مرشد جماعةٍ ورئيس دولة، وفي خطابات الجهاديين ضحوكٌ قتّال، مبعوثٌ بالسيف بين يدي الساعة، رزقُه تحت ظلّ رمحه، يقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، في خطابات غير المسلمين، يراه المنصف قائدا ومصلحا عظيما، غيّر وجه التاريخ، ويراه المتطرّف كما يراه…

طبيعيٌّ أن تدور الأساطير حول شخص محمد، وتاريخه، ومنجزه، فهو الذي اتفق أتباعُه وخصومه على أنّه أهم (أو من أهم) الشخصيات في التاريخ الإنساني، غير الطبيعي أن تتحوّل الأساطير إلى “أدلة”، ويتحوّل محمد، صلى الله عليه وسلم، إلى درعٍ، يتلقّى الضربات، عن الطرف وخصمه، وتتحوّل السيرة إلى “دكّانة حكايات”، تبيع الرواية وضدها، فتبدو متناقضةً، ولا يمكنك، بعد القراءة، أن تعرف “بوضوح” من هو محمد؟

هشام جعيط

محمد، في القرآن، أكثر وضوحا، بشرٌ، يخطئ .. يضعف .. يشتهي .. يخفق .. لكنّه يوحَى إليه .. هذا هو الفرق، يعلّمه الله ليعلّمنا، يؤدّبه ليؤدّبنا .. يعاتبه .. يوجهه .. يبشّره ويبشّر به، يؤكّد على بشريته قدر تأكيده على نبوته، يختصر رسالته في كلمتين: “رحمة للعالمين” فهل هذا هو محمّد في كتب التاريخ والسير ومدونات السنّة وغيرها؟

تحتاج السيرة النبوية، ربما أكثر من غيرها، إلى جهودٍ كبيرةٍ في التصحيح والتنقيح ونقد الروايات، سندا متنا، وتفعيل متمكّنات المناهج العربية القديمة، ودعمها بالمناهج الغربية الحديثة، والبحث عن “منهجٍ” جادّ في الكتابة والقراءة، ومن ثم الفقه والاستدلال، الفهم والوعي، التمييز والتفرقة الدقيقة بين مقامات النبي وأحواله .. محمد البشري النسبي الزمني التاريخي ..

سيرة

ومحمد النبي… محمد الحاكم ومحمد القاضي .. محمد المصلح ومحمد المقاتل… ومحمد العربي ومحمد الإنسان… تحتاج السيرة النبوية موازين دقيقة لذلك كله، وهو ما التفت إليه باحثون وعلماء منذ بدايات القرن الماضي، وحاولوا، وبدأوا، ولم يزل جهدهم يكافح محاولات تسييس السيرة ومذهبتها، ويحتاجُ إلى من يستأنفه ويراكم عليه، أشير هنا إلى كتابات محمد الصادق العرجون “محمد رسول الله منهج ورسالة” ومحمد عزة دروزة “سيرة الرسول… صور مقتبسة من القرآن” ومحمد أبو زهرة “خاتم النبيين” ومحمد الغزالي “فقه السيرة” وأكرم ضياء العمري “السيرة النبوية الصحيحة” فضلاً عن ثلاثية هشام جعيط، فهل من مزيد؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى