دراسة: الصراع على المحيطات.. هل تحدد إفريقيا مستقبل التنافس الصيني – الأمريكي؟
يمكن القول إن من يسيطر على البحار والمحيطات يحكم العالم. لقد تشكلت ديناميكيات القوة العالمية – التجارة والقوة العسكرية – لمئات السنين عن طريق البحر. وعليه فإننا نشهد اليوم ثلاثة أنماط من الصراعات الجيوسياسية التي تشهدها مياه محيطات الكرة الأرضية الخمسة: المنافسة المتزايدة بين الولايات المتحدة والصين وإلى حد ما روسيا، والتدفق المستمر للتجارة العالمية عبر البحار والمحيطات، وواقع التغيرات المناخية. ولا يخفى أن هذه الصراعات، المعقدة والمتشابكة، تحدد الدور الحاسم لمحيطات العالم في سياسات القوة العالمية، ولذلك فإن استشراف آفاق المستقبل بالنسبة لميزان القوة الدولي يتوقف على معرفة الطرق التي تتشكل بها الديناميكيات الرئيسية للقوة العالمية – التجارة والقوة العسكرية – بواسطة البحار من جهة والطرق التي يشكل من خلالها التغير المناخي التحديات والفرص، الأمر الذي قد يقف حجر عثرة أمام التفاعلات التعاونية على الصعيد الدولي من جهة أخرى.
تقع المحيطات في قلب التنافس التجاري والتعاون العلمي والتنافس البحري بين القوى الدولية الكبرى. إذ إن التجارة المرتكزة على البحر ليست مجرد عنصر من عناصر العولمة؛ إنها تشكل الجوهر والمرتكز. يتم نقل 85 % من التجارة العالمية بالكامل عن طريق البحر، ويتم الحصول على ما يقرب من ثلثي إمدادات العالم من النفط والغاز من البحر أو يتم نقلها عن طريق البحر إلى سوقها النهائي. كل هذا يدعم سباق التسلح البحري المتصاعد، المتمركز في غرب المحيط الهادئ، ولكنه ينتشر بسرعة إلى القطب الشمالي، والهند، والمحيط الأطلسي، والمحيط الجنوبي أيضاً.
ومن المعروف أن الصين تعتمد بشكل كبير على تدفق السلع التجارية وسلع الطاقة من وإلى البحار القريبة منها، وبالتالي فهي تواجه معضلة أمنية حقيقة قد تعيق بروزها كقوة عالمية: كلما زاد نموها، ازداد اعتمادها على دور البحرية الأمريكية في توفير الأمن لتدفق التجارة الحرة والطاقة عبر المحيطات. إنه وضع لا يمكن الدفاع عنه أو السكوت عليه بالنسبة للصين.
لم يكن مستغرباً أن تتحرك بكين لزيادة قدرتها الخاصة لتأمين الشحن وترسيخ مكانة الصين في البحر الأصفر وبحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث إنها تتطلع إلى حماية وجودها هناك من إجراءات الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في غرب المحيط الهادئ. وتؤسس الخطة الصينية وجوداً فاعلاً يصل إلى الأطراف الغربية للمحيط الهندي. في غضون ذلك، عززت روسيا وجودها في القطب الشمالي، بشكل يمكنها من الوصول إلى شمال المحيط الأطلسي. كل هذا يجعل البحرية الأمريكية وحلفائها من الأوروبيين والآسيويين يشعرون بعدم الارتياح الشديد والخوف من صعود التنين الصيني. والنتيجة، باختصار، هي سباق تسلح بحري عالمي متصاعد.
صراع على أطلسي “أفريقيا”:
وفقاً لتقارير المخابرات الأمريكية الأخيرة، تتطلع الصين إلى بناء أول قاعدة عسكرية دائمة لها في غينيا الاستوائية الواقعة في غرب إفريقيا على ساحل المحيط الأطلسي. إذا مضت الخطة الصينية قدما، فستكون أول قاعدة عسكرية دائمة للصين على المحيط الأطلسي. وعلى الرغم من هذا التقرير الاستخباراتي الذي يضع الطموحات العسكرية للصين في غرب أفريقيا في المقام الأول، فإن الوجود الصيني في المنطقة يمتد لتاريخ أبعد من ذلك. من الواضح أن الصين لم تستيقظ في عام 2021 وتبدأ الاستثمار في غرب أفريقيا.
ففي غينيا الاستوائية وحدها، بدأت الصين في الاستثمار في مشروع إعادة تأهيل وتوسيع ميناء باتا المزمع إقامة القاعدة العسكرية فيه، في عام 2006 . ويبدو أن الولايات المتحدة أبدت انزعاجها على الفور من هذه التحركات الصينية واعتبرت إدارة بايدن أن القاعدة الصينية في غرب أفريقيا تمثل تهديداً للأمن القومي الأمريكي. صحيح أن الولايات المتحدة تمتلك عدداً لا يحصى من القواعد العسكرية في جميع أنحاء العالم، لكن واشنطن قلقة بشكل خاص من الوجود الصيني الذي يمكن أن يظهر في المحيط الأطلسي.
تتمتع الولايات المتحدة بوجود عسكري غير مسبوق في جميع القارات السبع، وتحافظ على ما يقرب من 800 قاعدة عسكرية في أكثر من 70 دولة ومنطقة في الخارج. ومع ذلك في أكتوبر الماضي، وبسبب المخاوف الأمريكية المتزايدة بشأن القاعدة العسكرية الصينية، أرسلت واشنطن نائب مستشار الأمن القومي لإدارة بايدن إلى غينيا الاستوائية للحيلولة من دون إقامة القاعدة الصينية. وفي الوقت نفسه تصف واشنطن أي رفض لاستضافة القوات الأمريكية في أي دولة – والتي قد ترى في الوجود العسكري الأمريكي أنه يهدد أمنها القومي – بأنه معاداة لأمريكا.
قاعدة صينية في غينيا الاستوائية:
على الرغم من الوجود الصيني في العديد من دول غرب أفريقيا المشاطئة للمحيط الأطلسي فإن اختيار غينيا الاستوائية تحديداً يعزى إلى مجموعة من العوامل لعل أبرزها: أولاً: تتمتع غينيا الاستوائية بأهمية استراتيجية كبرى على الرغم من كونها دولة صغيرة الحجم لا يتجاوز عدد سكانها 1.4 مليون نسمة. حيث تمتلك البلاد موارد نفطية وفيرة، ما يجعلها الأغنى في جميع أنحاء البر الرئيسي الأفريقي جنوب الصحراء من حيث نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. تم اكتشاف معظم احتياطيات النفط في غينيا الاستوائية واستخراجها من قبل شركات النفط الأمريكية، مما جعل كل من الأسرة الحاكمة في البلاد، نغويما، والشركات الأمريكية الأكثر ثراء، بينما يعاني نحو نصف سكان البلاد من عدم الحصول على مياه الشرب النظيفة، وفقاً لمؤشر التنمية البشرية.
ثانياً، منذ حصولها على استقلالها عن إسبانيا عام 1968، ظلت غينيا الاستوائية خاضعة لحكم نفس العائلة. إذ يحكم الرئيس الحالي تيودورو أوبيانغ نغويما البلاد منذ عام 1979، عندما أطاح بعمه فرانسيسكو ماسياس نغويما . ولاشك أن طبيعة النظام الأبوي الحاكم في غينيا الاستوائية تسهل على بكين مهمة التفاوض والحصول على تنازلات مقابل تقديم خدمات مهمة ترتبط بأمن الأسرة الحاكمة هناك.
ثالثاً، توتر العلاقات بين الولايات المتحدة وغينيا الاستوائية بسبب ملف الفساد وحقوق الانسان، لاسيما أسلوب الحياة المترف ونفقات نائب الرئيس تيودورو نغويما أوبيانغ، وهو أيضاً نجل الرئيس. لقد قام محامون أمريكيون بملاحقة تيودورو أوبيانغ مما أثار استياء مواطنيه، وإجباره على إعادة بعض الأموال إلى الخزانة العامة. ومن المحتمل أن يدفع هذا الضغط الأمريكي غينيا الاستوائية إلى التحرك نحو الصين، التي استثمرت في البلاد على نطاق واسع في السنوات الأخيرة، حيث طورت ما لا يقل عن عشرة مشاريع مختلفة تتراوح ما بين بناء ميناء باتا الاستراتيجي إلى تدريب وتسليح قوات الأمن في البلاد. وترى الصين من خلال خطابها الرسمي أن غينيا الاستوائية تعتبر أهم شريك استراتيجي لها، مما يدل على مزيد من التقارب بين البلدين.
من المرجح أن تعيد القاعدة الصينية في باتا تسليح وتجديد السفن الصينية عبر الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وهو ما يسبب قلق البنتاغون وسط التنافس المحتدم بين الولايات المتحدة والصين على النفوذ والهيمنة العالميين. أولاً، تقع غينيا الاستوائية على الساحل الأطلسي لأفريقيا، وهي المنطقة التي كان للجيش الأمريكي فيها سيطرة قوية منذ فترة طويلة ولا يريد أن يرى خصماً مثل الصين يكتسب قاعدة استراتيجية هناك، مما يهدد الهيمنة الأمريكية. ثانياً ستسمح القاعدة للعملاق الآسيوي بأن يكون له وجود بحري على المحيط الأطلسي عبر البوابة الأفريقية. وربما يكون هناك ما هو أكثر من مجرد القاعدة العسكرية حيث تعمد الصين إلى فرض بصمتها العسكرية على منطقة غرب أفريقيا. ثالثاً: يمثل وجود سفن عسكرية صينية في المحيط الأطلسي إيذانا بميلاد مرحلة جديدة من المنافسة الاستراتيجية تقوم على الردع المتبادل، حيث يكون الأمر ببساطة كالتالي: إذا تمكنت الولايات المتحدة من إرسال مجموعات حاملة طائراتها القتالية إلى غرب المحيط الهادئ، فيمكن للصين بدورها أن ترسل سفنها إلى المحيط الأطلسي عبر البوابة الأفريقية.
مستقبل السيطرة على المحيطات:
من خلال بناء قواعد في كل من غرب وشرق أفريقيا، تريد الصين تحدي التفوق البحري للولايات المتحدة عبر محيطات العالم. فلقد كانت أول قاعدة عسكرية خارجية للصين أيضاً في جيبوتي في الجزء الشرقي من القارة، على جانبي المحيط الهندي وقناة السويس الإستراتيجية. وثمة أوجه تشابه كبيرة بين كل من جيبوتي وغينيا الاستوائية من حيث عدد السكان والمساحة الصغيرة. نتيجة لذلك، يبدو أن الخيار الصيني بإنشاء قاعدتين عسكريتين في أفريقيا يشير إلى أن العملاق الآسيوي يريد وصولاً عسكرياً إلى كل من المحيطين الأطلسي والهندي، بهدف زيادة المنافسة السياسية مع الولايات المتحدة. وبالفعل شهدت بكين وواشنطن توترات متزايدة عبر المحيط الهادئ حيث يمتلك كلا البلدين سواحل ممتدة.
وفي تقرير للكونجرس هذا العام، قال البنتاغون إن الصين ربما تنظر في مسألة إقامة المزيد من القواعد العسكرية في دول مثل كينيا وسيشيل وتنزانيا وأنغولا. أضف إلى ذلك أنه في عام 2020، أقامت الصين منتدى للسلام والأمن بين الصين وأفريقيا لمدة أسبوع مع وزراء الدفاع وقادة الجيوش الأفارقة لإجراء حوار حول التعاون والسلام والتمويل الأمني في القرن الأفريقي. من المرجح أن تقوم الصين بتوسيع وجودها العسكري على نطاق أوسع بكثير، بحيث تصبح مشاريع الموانئ والمساعدات الاقتصادية والبنية التحتية واتفاقياتها وعقودها مجرد وسائل للعبور إلى المستقبل. وهكذا تضع الصين رهانات كبيرة على إفريقيا من أجل بروزها كقوة عالمية.
المصدر: مركز المستبل للأبحاث والدراسات المتقدمة