موسى بن ميمون.. أن تكون يهوديًّا في دولة الخلافة الإسلامية أو قصة الفيلسوف اليهودي الذي برع في آداب الأديان (فيديو)
يعد ابن ميمون أعظم فلاسفة اليهود شأنًا في العصور الوسطى، ووصفه الشيخ الجليل مصطفى عبد الرازق، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الملك فؤاد المصرية (جامعة القاهرة حاليًا)، في كلمة ألقاها في حفلة ابن ميمون بدار الأوبرا في أول أبريل عام 1935، أنه من أهم فلاسفة العرب والإسلام؛ وذلك لما اختص به من ألوان البحث النظري في الفلسفة، الذي نما في بلاد الإسلام وترعرع في ظل دولته.
فما قصة هذا الحبر اليهودي؟ وما إسهاماته ومؤلفاته؟ وما العلاقة التي جمعته بصلاح الدين الأيوبي؟ وكيف كانت مكانته في دولة الخلافة الإسلامية؟
البداية في قرطبة
ولد موسى بن ميمون بن عبيد الله القرطبي في قرطبة، في 30 مارس عام 1135، وكان أبوه قاضيًا في المحاكم الكنسية. وبعد اضمحلال دولة المرابطين في الأندلس، واستيلاء الموحدين على قرطبة؛ خرجت أسرة ابن ميمون إلى فاس في المغرب سنة 1159، حيث درس بجامعة القرويين، ثم انتقلت الأسرة مجددًا إلى فلسطين في عام 116، وأخيرًا استقرت في القاهرة التي عاش بها ابن ميمون حتى وفاته.
درس ابن ميمون أولًا على يد أبيه الديانة اليهودية، ودرس أيضًا العلوم العربية والفلسفة على بعض علماء وفلاسفة المسلمين، وخاصة ابن رشد الذي عكف على دراسة مؤلفاته. كذلك، أخذ عن ابن الأفلح، وعن أحد تلاميذ ابن الصائغ، علاوة على دراسته للطب الذي برع فيه وأصبح عالمًا.
موسى بن ميمون
برع موسى في آداب الدين، وآداب الكتاب المقدس، والطب، والعلوم الرياضية، والفلسفة، ولم يكن يضارعه في علمه إلا ابن رشد. وبعد أن استولى البربر على قرطبة، وهدموا الكنائس المسيحية والمعابد اليهودية، وخيّروا المسيحيين واليهود بين الإسلام أو النفي؛ غادر ابن ميمون إسبانيا في عام 1159 مع أسرته؛ وأقاموا في فاس تسع سنين مُدعيّن أنهم مسلمون؛ لأن المسيحيين واليهود لم يكن يُسمح لهم بالإقامة هناك أيضًا.
ابن ميمون طبيبًا وزعيمًا
سافر ابن ميمون إلى فلسطين، ومنها انتقل في عام 1165 إلى الإسكندرية ومصر القديمة؛ حيث عاش حتى وافته المنية. وفي مصر، اشتهر ابن ميمون أنه من أعظم أطباء زمانه، حتى جرى ضمه إلى أطباء السلطان الأيوبي صلاح الدين، واختير طبيبًا خاصًّا لنور الدين علي أكبر أبناء صلاح الدين، وللقاضي الفاضل البيساني وزير صلاح الدين.
وكانت الطريقة التي اعتمدها ابن ميمون في ممارسته المهنية بسيطة جدًّا، تبدأ بالسعي إلى العلاج باتباع نظام غذائي محدد قبل إعطاء الدواء. وفي حديثه عن حياته الطبية في رسالة موجهة إلى تلميذه يوسف بن عقنين، قال موسى بن ميمون: «أعلمك أنه قد حصلت على شهرة عظيمة في الطب عند الكبراء، مثل: قاضي القضاة، والأمراء، ودار الفاضل، وغيره من رؤساء البلد… فكان هذا داعيًا لقضاء الأيام في القاهرة لزيارة المرضى. حتى إذا ما انتهى كنت متعبًا، وإن أمكنتني الفرصة طالعت في كتب الطب ما أحتاج إليه، وأظنك تعلم صعوبة ذلك عند من لديه دين وتحقيق، ويريد ألا يقول شيئًا إلا وهو يعلم له دليلًا، وأين قيل، ووجه القياس في ذلك».
وخلال فترة العهد الأيوبي، عاش ابن ميمون في الفسطاط، وفيها عُيّن زعيمًا لليهود في القاهرة، ورئيسًا لمجلس الحاخاميين «الطائفة اليهودية» في عام 1177، وحمل على عاتقه حل المسائل الدينية اليهودية، وأوكلت إليه مهمة القيادة الخُلقية والدينية لليهود.
وقد تزوج موسى بأخت أبي المعالي اليهودي، الذي كان كاتبًا عند والِدة نور الدين علي بن صلاح الدين، ورُزق منها موسى وهو في الخمسين من عمره بابنة توفت في حداثة سنها، وولد واحد اسمه إبراهيم، عني بتربيته عناية فائقة، وتحقق له فيه ما كان يصبو إليه؛ فأصبح عالمًا يهوديًّا وطبيبًا كبيرًا.
ابن ميمون فيلسوفًا.. أعماله ومؤلفاته
يقوم منهج ابن ميمون على التوفيق بين العقل والدين، متأثرًا في ذلك بفلاسفة الأندلس وعلمائها، خاصة ابن حزم، وابن رشد. كذلك، تأثر ابن ميمون بالنسق الفكري الإسلامي، ويتجلى ذلك في محاولاته لـ«أسلمة اليهودية» كما قال عنه الدكتور عبد الوهاب المسيري. وتعني أسلمة اليهودية إضفاء الصبغة التوحيدية المتجاوزة، أي التي ترى أن الله واحد متجاوز للطبيعة، والتاريخ، والإنسان على النسق الفكري اليهودي.
استطاع ابن ميمون العمل بحرية في الأندلس؛ فكتب التلمود، ونظر إلى الفلسفة اليهودية في الوقت الذي واجهت فيه الثقافة اليهودية إحراق مراجعها الدينية، مثل التلمود في كثير من البلدان الأوروبية. فضلًا عن ذلك، استطاع ابن ميمون وهو في بلاط الأيوبيين أن يكتب أشهر كتبه في أصول الإيمان والعقيدة اليهودية، كتاب «دلالة الحائرين»، وأن يوجه الرسائل للجاليات اليهودية المنتشرة في العالم، يحثها على التمسك بدينها وثقافتها.
ومن أشهر مؤلفاته أيضًا: كتاب «الفصول» في الطب، وكتاب عن مرض الربو، وآخر في السموم والتحرز من الأدوية القتالة، بالإضافة إلى اختصار الكتب الستة لجالينوس، و«تدبير الصحة»، و«شرح العقار». ويُعد كتابه «دلالة الحائرين» أحد أهم الكتب التي دوَّنها اليهود، حتى إنهم يعدون ابن ميمون «موسى الثاني»؛ نظرًا لعلمه وفقهه.
لكن رغم أصالة إنتاجه الأدبي وغزارته، فإن مُصنفات ابن ميمون لم تلقَ انتشارًا جديرًا بها بين الناطقين بالعربية؛ ويرجع السبب في ذلك إلى أن كثيرًا من مدوناته الأدبية، لا يُمكن فهمها فهمًا صحيحًا إلا إذا كان القارئ واسع الاطلاع، وكثير البحث في الآداب العبرية.
هذا بالإضافة إلى أن مدونات ابن ميمون العربية كان تُؤلف بالعربية، وتُدون بحروف عبرية، كما كان يفعل غالبية علماء اليهود في الأندلس ومصر. كذلك، كان ابن ميمون يرى أن تأويل النصوص المقدسة، لا ينبغي أن يُذاع منه إلا القليل الذي يكفي لفهمه، وأن يكون ذلك للشخص الذي لديه الاستعداد فقط.
ابن ميمون سياسيًّا مُحنكًا.. اليهود في دولة الخلافة
إلى جانب تميّز موسى بن ميمون في النواحي الطبية، والدينية، والفلسفية، لم يكن الحبر اليهودي الفيلسوف أقل تميزًا في الناحية السياسية. تُشير بعض روايات المؤرخين أن الصلة التي جمعت بين ابن ميمون وصلاح الدين الأيوبي ووزيره القاضي الفاضل، لا ترجع فقط إلى تقدير السلطان الأيوبي ووزيره لقيمة ابن ميمون في الطب والفلسفة، بل أيضًا لمعرفتهما بمدى مهارته، وحذقه، وحنكته السياسية.
تُشير تراجم ابن ميمون إلى أن صلاح الدين كان ينتفع بما لدى الحبر اليهودي من لطف التدبير، والمكانة، والقبول عند يهود اليمن في تهدئة الثورات، التي كانت تنشب في تلك البلاد. أيضًا استخدم ابن ميمون نفوذه في بلاط السلطان لحماية يهود مصر، وعلاوة على ذلك، عندما فتح صلاح الدين فلسطين؛ أقنعه ابن ميمون بالسماح لليهود بالإقامة فيها من جديد.
مكنت علاقة ابن ميمون الوثيقة بالسلطان الأيوبي صلاح الدين، من إقناعه بالسماح لليهود بالإقامة في القدس بعد تحريرها، وبناء المعابد والمدارس الخاصة بهم، بعدما حظر الصليبيون عليهم الإقامة فيها، أثناء احتلالهم المدينة. بالإضافة إلى ذلك، تُشير بعض المصادر التاريخية إلى دور ابن ميمون في إقناع صلاح الدين بمحاربة دولة بني مهدي في اليمن والقضاء عليها، بعد أن علم بما يفعله به حكامها من اضطهاد ليهود اليمن، وإجبارهم على اعتناق الإسلام.
معبد موسى بن ميمون في حارة اليهود
توفي موسى بن ميمون في يوم الاثنين 13 ديسمبر عام 1204 في القاهرة، ثم حُملت جثته إلى طبرية بفلسطين حيث دُفن هناك بين قبور عظماء بني إسرائيل. وبعد وفاته، جرى تشييد معبد موسى بن ميمون في مطلع القرن الثاني عشر الميلادي، في المكان نفسه الذي أقام فيه ابن ميمون بعد وصوله إلى مصر، ويُعد من أهم وأقدم المعابد اليهودية في العالم.
يقع معبد ابن ميمون في حارة اليهود التي تقع في قلب منطقة الموسكي، أحد أشهر المناطق التجارية في وسط القاهرة، وتأتي إلى الحارة سيدات يهوديات حتى اليوم يسألن عن المعبد. ارتبط سكان الحارة من اليهود والمسلمين والأقباط بمعبد ابن ميمون ارتباطًا وثيقًا؛ إذ إنه أقدم معابد الحارة الذي جرى بناؤه في مطلع القرن الثاني عشر الميلادي، ثم أعيد تجديده وافتتاحه أكثر من مرة في أعوام: 1887، و1925، و1967.
ينقسم المعبد إلى ثلاثة أقسام، يحتوي الأول منها على بهو مخصص للصلاة والشعائر الدينية، وهو عبارة عن صالة مستطيلة يقع في نهايتها تابوت العهد، وخزانة من الكتب المزخرفة على الطراز الإسلامي، والمطعمة برُموز يهودية مثل نجمة داوود، والشمعدان السُداسي، وإلى جواره منبر صغير لإقامة الشعائر اليهودية.
ويشتمل قسمه الثاني على حجرة دُفن فيها موسى بن ميمون إثر وفاته عام 1204 ميلادية، وقد بقي جسده بها سبعة أيام، قبل نقله إلى مدينة طبرية الفلسطينية؛ كي يُدفن هناك بناء على وصية ابن ميمون نفسه، الذي فَضَّل أن يُدفن بجوار كبار الحاخامات الذين دُفنوا في طبرية، التي شهدت تأليف «التلمود الفلسطيني» أحد أهم كتب الشريعة اليهودية. بالإضافة إلى ذلك، يضم القسم الثاني حجرة بها بئر صغيرة، اعتاد ابن ميمون أن يغتسل فيها قبل كل صلاة. واعتاد يهود مصر، وأتباع ابن ميمون من يهود العالم زيارتها والمبيت فيها، والاغتسال في البئر طلبًا للبركة والشفاء.
أما القسم الثالث والأخير من المعبد، يتكون من حجرات مخصصة لرجال الدين، وصحن مكشوف لضوء الشمس نهارًا، وضوء القمر ليلًا. ويُعد أجمل ما في المعبد بوابته الحديدية، التي تأخذ شكل عقد نصف دائري، مُحاط بالرخام الأبيض، وتعلو الباب لوحة بديعة تصور ألواح الوصايا العشر، التي تسلمها نبي الله موسى على جبل سيناء.