متابعا الصحافي مارسيلو وهو يطارد الحكي..فيلم La Dolce Vita: أيقونة فليني التي رسم من خلالها زيف حياة المترفين
هذه المادة يتم إنجازها بشكل مشترك بين ّدابا بريس” ومجموعة عشاق الفن السابع التي يديرها الكاتب عبد العزيز كوكاس.
حلقة اليوم:
فيلم La Dolce Vita الحياة حلوة الذي بصم به المخرج فيديريكو فيليني حياة السينما العالمية، حول مارسيلو روبيني، الصحافي الذي عاش كل أنواع المغامرات مع نجوم السينما ومشاهير روما المتنوعين.
سيرة شخص يكافح من أجل إثبات مكانته في مجتمع مشتت بين الصورة الاجتماعية الراقية الأخاذة خارجيا لطبقة النُخبة في روما، وبين العلاقة المتوترة التي تشاركه إياها صديقته ومحبوبته، وهو يسير نحو تحقيق طموحه في أن يصبح كاتبا ناجحا. نجد أنفسنا أمام قصة رمزية لرجل بلا مركز ولا جاذبية برغم كل إمكانياته وطموحه الحالم.. سلسلة ليالي وفجر بلا حدود، سهر وخمر ومخدرات ومتع وجنون براق للبذخ التافه الذي يؤول إلى زيف.
صوّر فيليني الفيلم في عام 1959 في شارع فيا فينيتو، وشوارع روما ذات الملاهي الليلية الشهيرة، ومقاهي الرصيف وأماكن استعراض فتيات الليل لأجسادهن الرخيصة المعلبة.. حيث يتجول مارسيلو كاتب عمود، رجل وسيم، مرهق، يائس، يحلم بفعل شيء جيد يوما ما، لكنه عالق في حياة ليالي فارغة ومجون شكلي، خمر ومخدرات وثراء ومجون مصطنع، يؤرخ فلم “الحياة الحلوة” للحياة الباهتة للأرستقراطيين، ونجوم السينما من الدرجة الثانية، والعازفين المسنين والداعرات الغارقات في الخمر والمخدرات والحلم بتحقيق ثراء خيالي بضربة نرد وبأجساد تنمسخ كل يوم وتتحلل ذرة ذرة.
يزور مارسيلو حفر النوادي الليلية الماجنة، مواقف السيارات في المستشفيات، دور المومسات، وقبو قديم للدعارة مليء بالأسرار.
ويصعد بعدها إلى قبة القديس بطرس، وإلى شقة شتاينر (آلان كوني) الشاهقة، حتى أنه سوف يطير فوق روما حالما.. يقفز الفلم من روعة بصرية إلى أخرى، متابعا الصحافي مارسيلو وهو يطارد الحكي والنساء والنجوم.
رفقة خطيبته الانتحارية المجنونة (ماجالي نويل).. يصور تفاهات النخبة المخملية، جراح المومسات ومجون الملهى الليلي، يلتقط الجمالية المصطنعة والزائفة للمجتمع المخملي.. إنه فلم الرمزيات التي عرف بها فليني والذي وضع به المخرج حدا لمسار الواقعية الإيطالية، منذ مشهد افتتاح الفلم، حيث يتم نقل تمثال للمسيح فوق روما بواسطة مروحية لإيصاله إلى بابا الفاتيكان، ويبرز كيف يوحد الإيمان كل شرائح المجتمع، فقراء وكادحون وفتيات جميلات مخمليات مرحات في مسبح، يتطابق مع المشهد القريب، حين يجد الصيادون على الشاطئ سمكة على شكل وحش بحري في شباكهم.. رمزان متناقضان: تمثال المسيح “جميل” لكنه زائف، والسمكة “قبيحة” لكنها حقيقية.
خلال كلا المشهدين هناك فشل في الاتصال. تحلق المروحية بينما يحاول مارسيلو الحصول على أرقام هواتف ثلاث جميلات يأخذن حمام شمس. في النهاية، عبر الشاطئ، يرى الفتاة الخجولة التي التقى بها ذات يوم عندما ذهب بحثا عن أجواء لكتابة روايته التي يحلم بها. تقوم بحركات كتابة لتذكيره، لكنه لا يتذكر، يتجاهل، ثم يستدير للغوص فيما اعتاده.
إذا كانت المشاهد الافتتاحية والختامية متناظرة، تتطابق مع المقدس والمدنس وتلقي بظلال من الشك على كليهما. يغطي مارسيلو وصول نجمة سينمائية ممتلئة الجسم (أنيتا إيكبيرج) إلى روما، تبعها إلى قمة القديس بيترز، ثم إلى أحشاء ملهى ليلي، حيث تعوي الكلاب البرية. ينتهي سعيه عند الفجر عندما تدخل في نافورة تريفي حيث تبدو صورتها مثالية بين كل النساء.
يشارك شتاينر في صنع بهجة الحلقات المركزية في فلم “الحياة حلوة “، الذي يمثل كل ما يأمله مارسيلو ويتغياه. يعيش في شقة مليئة برموز الفن. يترأس صالون الشعراء والمغنين الشعبيين والمثقفين. لديه زوجة جميلة وطفلان مثاليان. عندما رآه مارسيلو يدخل الكنيسة، تبعه فصعدا إلى دور علوي للأرغن، يلعب شتاينر دور الموسيقار باخ الذي يحث مارسيلو على الإيمان بنفسه وإنهاء الكتاب الذي يحلم به.
ثم يلي ذلك ليلة حفلة شتاينر حيث يأخذ مارسيلو آلة كاتبة إلى تراتوريا الريفية ويحاول الكتابة. ثم يأتي مشهد شتاينر الثاني الرهيب، عندما اكتشف مارسيلو أن هدوءه كان مصنوعا من نسيج من الأكاذيب، ويؤكد: ما أخطر أن يكتشف كاتب حالم زيف الواقع وكذب المقربين الزائفين والحياة المخملية الباهتة والسطحية للغارقين في أتون الثراء الزائف والمجون السطحي والبلادة اللانهائية التي ترسمها حياة المجتمع المخملي للأرستقراطيين بروما.
وهو ما يتجسد في المشهد الذي تبدو فيه الممثلة الأمريكية المشهورة سيليفيا التي تزور روما ويتعرف عليها مارسيلو ويصطحبها في جولة بروما، حيث تجد قطة جائعة تصر على شراء حليب لإطعامها، وحين يعود الصحافي يفاجئ بارتمائها في بركة نافورة تحت أقدام تماثيل تعبر عن الحب المطلق وكبح المشاعر الجياشة، فتدعوه ليغرق بالماء.. يطاوعها فيغوص معها وسط النافورة ببدلته الرسمية، يمرر يده على قسمات وجهها متحسسا جمالا ربانيا لم ير مثله من قبل فيقول لها: “أنت أول امرأة خلقت في هذا العالم.. أنت الحبيبة والزوجة والعشيقة والأم والأخت.. أنت الأرض”.
تلك كانت أروع صورة جمالية لمشهد عاطفي مر عابرا لكنه عميقا فيما مشهد الفسوق والمجون والشذوذ فرض نفسه في فلم الحياة حلوة عبر مساحة زمنية كبيرة جدا، ليبرز فليني زيف الحياة الجديدة، حيث تمر مشاهد الحب والحلم والصدق بشكل سريع فيما تهيمن السطحية والتفاهة والأحلام الزائفة ويهيمن الكذابون والمحتالون والمزيفون والسطحيون العابرون الزاحفون على جزء كبير من زمننا المعاصر.. تلك حكمة فلم فليني “الحياة حلوة”.
حلقة الأسبوع القادم: فيلم “غريس من موناكو”: الأساطير تموت أيضا، لكن يهمنا كيف تموت