
أسماء بنعدادة تنبش في مذكرات عبدالرحمان الغندور
نظمت شبكة القراءة بالمغرب ومكتبة بنعدادة. يوم السبت 3 ماي 2025 بقاعة المحاضرات بمقر الجماعة الحضرية بفاس، لقاء التقديم والتوقيع للاصدار الجديد ” أوراق من مذكرات عبد الرحمان الغندور ” لمؤلفه عبدالرحمان الغندور، وفي هذا الإطار قدمت الدكتورة أسماء بنعدادة مداخلة تقديمية للكتاب.
وبالنظر لأهمية هذا التقديم الحصري، تعيد “دابا بريس ” نشره كاملا:
أشكر المنظمين، مكتبة بنعدادة في شخص الأخ حسن وشبكة القراءة في شخص رئيستها رشيدة رقي التي سهرت على طبع هذه المذكرات ضمن منشوراتها.
مساحة للتأمل الذاتي
أهنئ الأستاذ الغندور على هذا القرار، فكتابة المذكرات الخاصة هو أولا قرار، اتخاذه لا يكون أمرا سهلا. أتخيل أنك مررت بمرحلة تفكير عميق وربما تردد قبل اتخاذك هذا القرار الذي منحك مساحة للتأمل الذاتى ومكنك من استرجاع ذكريات وأحداث ووقائع واستكشاف تجارب وأفكار وعواطف، قرار أثمر هذا العمل القيم الذي نلتقي اليوم لمناقشته.
أنا سعيدة لكوني أشارك في أول لقاء حول هذا المنجز المتميز هنا بفاس.
العنوان: أوراق من مذكرات الغندور، هي أوراق / جزء أو أجزاء من المذكرات وليس كل المذكرات.. يوحي بأن هذا جزء أول من المذكرات، وعلينا أن ننتظر أجزاء أخرى.
وتأتي هذه القراءة السوسيولوجية ضمن جهود متواصلة لتوثيق وتحليل مسارات رموز فكرية وسياسية مغربية، مثل عبدالرحمان الغندور الذي شكّل علامة فارقة في تاريخ اليسار المغربي.
تتكون هذه الأوراق من 380 صفحة. تتوزع على مقدمة عنونها بسؤال البداية وستة فصول، كل فصل يتوزع على مجموعة من العناوين. بدء من الطفولة في مكناس وبداية النضال التلاميذي بمكناس، بداية تدريس الفلسفة والعمل السياسي بقصر السوق، الانتقال إلى فاس والانخراط السياسي مع حزب الاتحاد الاشتراكي والانتخابات فترة السبعينات. الفصل الأخير مواقف مبدئية واختبار المصداقية.
تكون صفحة ظهر الغلاف غالبا هي أول صفحة يطلع عليها القارئ، يقول الغندور: “الآن وفي مكاني هذا وقد قررت الكتابة، لا بد من التصريح بأني لا أكتب مذكرات شخصية. بل مذكرات جيل بطريقة شخصية. لأن المذكرات مهما كانت موضوعية لا تخلو من نرجسية، ولكنني فضلت كتابة مذكرات جيل أنتمي إليه عمريا، عايشته وعايشني، تقاسمنا فيه الأحلام والآمال والطموحات، توحدنا واختلفنا، تصارعنا وانشطرنا، انتصرنا وانكسرنا، ولا زلنا نتعايش بانتمائنا إلى أرض جمعتنا.
يعتبر الأستاذ الغندور أنه يكتب مذكرات جيل ينتمي إليه بطريقة شخصية، فالشخصي حاضر ومؤطر لهذا العمل، وهو أمر مشروع بل ومرغوب ومطلوب..
انطلاقا من تمييزه بين دور المؤرخ ودور الشاهد، يعلن الغندور أنه لا يقوم بدور المؤرخ بل بدور “الشاهد” الذي عاين وعاش وسمع ورأى. إلى أي حد يمكن حصر مهمة الكاتب وهو يكتب هذه المذكرات في ما يقوم به “الشاهد” فقط ؟ ألم يقم بمهام لا يستطيع المؤرخ القيام بها دائما أو نادرا؟ هل المؤرخ لما يكتب عن حقبة وعن أحداث يكون قد عاين وسمع ورأى وعاش.. أم قرأ وفهم ثم دون؟
هذا رأي الكاتب، صاحب هذه الأوراق، فما هو رأي القراء وأنا واحدة منهم؟
بعد اطلاعي على أوراق من مذكرات الأستاذ الغندور كاملة، من أول سطر إلى أخر كلمة، أعتبر أن هذه العمل هو شهادة، شهادة للتاريخ، وشهادة عن فترة من التاريخ تزيد عن نصف قرن.. وهي فترة ليست هينة على الإطلاق..شهادة شخص هو فرد من مجموعة أدرك وفهم وتعلم وفعل وانتقد من منظور جيل انتمى إليه، لهذا اعتبر الغندور أنه لم يكتب مذكرات شخصية بل مذكرات جيل بطريقة شخصية.. فهو لم يكتب عن تجربته بشكل منعزل، بل كتب عن تجربته كفرد ينتمي إلى مجموعة ثم إلى جيل بأكمله، وهذا ما يضفي على مذكراته بعدا تاريخيا، فالمؤرخ لا يكتب عن نفسه بل يكتب عن الأحداث والوقائع والفاعلين فيها..
تجرنا هذه الخلاصة الأولية إلى التساؤل عن معنى المذكرات؟ ما معنى أن يكتب شخص ما مذكراته؟ من هم الأشخاص الذين يكتبون مذكراتهم؟
المذكرات هي نوع من الكتابة الوصفية، الانطباعية، التحليلية التي تغطي بعض مراحل حياة الكاتب وتكشف عن تجاربه وآراءه وعواطفه وآماله وتطلعاته ونجاحاته وانكساراته ومواقفه اتجاه ذاته أولا ثم اتجاه الأحداث والوقائع والأشخاص والأمكنة. كتابة المذكرات هي استنطاق لخبايا المستور في نفسه ونفوس الغير، تمنح صاحبها مساحة واسعة من الحرية في الشكل والمضمون مما يمكنها من أن تنافس الكتابات السردية وعلى رأسها الرواية. الشخصيات الزمن والمكان الأحداث السرد الحبكة والتشويق كلها عناصر حاضر وبقوة.. تعرض المذكرات صفحات من فترة/ فترات تاريخية هي جزء أو كل من عمر من يكتبها،
بطريقة سردية حينا وتحليلية حينا آخر، تتحدث عن ما عاشه هو كذات راوية تمتلك جزئيا أو كليا الحرية في تذكر وتشكيل وبناء الأحداث وتفسيرها وجعل القارئ يتقاسمها معه.
عرفت كتابة المذكرات الشخصية بدايتها في الفترة الحديثة، ابتداء من القرن السادس عشر، ثم أصبحت تحتل شيئا فشيئا موقعا، بين العلماء والفنانين والمفكرين والساسة يوثقون تجاربهم لكي تكون في متناول القراء، اعتقادًا منهم بأن هذا النوع من الكتابة يعد مسؤولية اجتماعية وسياسية تستوجب إتاحة قراءتها لعامة الناس أو متخذي القرار السياسي باعتبارها محصلة هائلة من الخبرات الإنسانية.
هل المذكرات كتابة تاريخية أم كتابة أدبية أم كتابة سوسيولوجية؟
لن أخوض في الجدال المنهجي، بل أعتبر أن قوة المذكرات بشكل عام ومذكرات الغندور بشكل خاص هي قدرتها على احتواء هذه الأصناف في الكتابة وخلقها جسور التواصل بينها. في مذكرات الغندور تقاطعت الكتابة التاريخية والأدبية والسوسيولوجية.
1- البعد التاريخي في مذكرات الغندور
يمكن للمذكرات حسب مدرسة الحوليات التي ظهرت في العشرينيات من القرن الماضي أن تكون مصدرا من بين المصادر المهمة للكتابة التاريخية، وذلك نتيجة تفاعل التاريخ مع العلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة علم الاجتماع والأنثروبولوجيا. على عكس المدرسة الوضعية التي اهتمت بدراسة الأحداث السياسية والدبلوماسية في حدودها الضيقة مثل تاريخ الدول وتطورها وسقوطها وتاريخ الشخصيات البارزة .. تهتم مدرسة الحوليات بدراسة التاريخ الاجتماعي والبنيات الثقافية والاقتصادية والعقليات المتحكمة في صنع الأحداث لهذا يوصف هذا التاريخ ب “تاريخ الشعب ” أو “التاريخ من الأسفل”
مذكرات الغندور هي شهادة يمكن أن تتحول إلى وثيقة في كتابة التاريخ السياسي والاجتماعي لمغرب ما بعد الاستقلال. أشرح لماذا؟
تحتوي هذه الأوراق من المذكرات التي حسب رأيي لم تنتهي وسنرى لها قريبا تتمة، على معطيات/ وقائع وأحداث تاريخية سياسية، اجتماعية، وثقافية، محددة بالسنوات والشهور والأيام، استحضر فيها كاتبها مخزون ذاكرته القوية جدا والقادرة على التقاط أبسط التفاصيل وتسجيل أدق الملاحظات من أحداث وأقوال وأشخاص وأسماء وأمكنة ودروب وأحياء ومنازل وأسواق وفضاءات عمومية .. استرجاعها في جميع المراحل العمرية من الطفولة والشاب إلى الكهولة ثم بداية الشيخوخة – حسب تصنيفه- ص 12، أرخ لكل مرحلة من هذه المراحل مع تركيزه الشديد على الفعل السياسي الذي اعتبر “أنه استهلك القسط الأوفر من العمر”.. الميلاد في 1950 ، بداية الحكي في 1955. والمذكرات نشرت في 2025 ، أي المذكرات تبدأ بأحداث عايشها وعاشها الغندور في 1955، أي قبل 70 سنة..
يسجل هذا الحكي/ التدوين تفاصيل ومعطيات وحقائق تهم تجارب أفراد وجماعات ربما تغيب في الوثائق المكتوبة والرسمية والتي يتم اعتمادها في إعادة بناء الوقائع التاريخية والكتابة عنها. لهذا يمكن أن تتحول المذكرات – رغم أن صاحبها اعتبر أنه شاهد وليس مؤرخ- إلى مرجع يعود إليه المؤرخ ليملأ الفراغات التي تتركها الكتابة التي تعتمد الوثيقة الرسمية فقط.
مذكرات الغندور هي جزء من تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال/ تاريخ الشعب/ تاريخ من الأسفل، يتحدث عن المهمشين الذين لا يأخذون الكلمة.. لأنها لم تتوقف عند الأحداث السياسية الكبرى والشخصيات الوازنة التي صنعتها، بشكل معزول، بل كتبت التاريخ السياسي في بعديه الإنساني والاجتماعي وفق منهج جديد يتجاوز المكتوب/ الوثائق ويوظف الرواية الشفوية والذاكرة الفردية والجمعية والتجارب الإنسانية التي لم تكتب في التاريخ الرسمي.
كان الغندور أثناء كتابته لهذه المذكرات محكوما ومقيدا بتجاربه الخاصة التي عرفت انطلاقتها في سن الخامسة في علاقة مع الأب/ الفاعل السياسي / الاستقلالي الانتماء والذي شكل المدرسة الأولى التي تعلم فيها مبادئ ولغة وأهمية الفعل السياسي، والذي طبع جميع مراحل عمره والمحطات النضالية التي كان عنوانها البارز، الانتماء إلى اليسار وإلى حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. مذكرات عكست قناعاته الفكرية وتجاربه النضالية وصراعاته ومخاوفه وتطلعاته واحباطاته التي تنطبق على جيل بل أجيال بكاملها.
نصف قرن من السياسة، تطرقت مذكرات الغندور إلى وقائع وأحداث تاريخية تهم الحياة السياسية من خلال تجربته داخل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتي عرفت انطلاقتها من المؤتمر الاستثنائي 1975 إلى اللحظة الراهنة. المذكرات هي وثيقة تاريخية لأنها قدمت عددا هائلا من المعطيات عن التاريخ السياسي من أحداث وتواريخ وتفاصيل وأماكن وأسماء شخصيات فاعلة.. هي وثيقة تاريخية للجيل الذي عايش الكاتب كما أنها وثيقة تاريخية بالنسبة للأجيال اللاحقة تمكنها من الاطلاع على حقائق وأحداث صنعت تاريخهم ويمكن أن تساعدهم على فهم واقع الحياة السياسية ومستقبلها في المغرب.. الاستشهاد بمذكرة بوعبيد كتفعيل لهذه الفكرة، أي توظيف المذكرات للفعل التأريخي. ص 338
لقد ميز العروي مغربي بين المؤرخ والأراخ، المؤرخ لا ينقل الأحداث، يتأكد منها يفهمها في سياقها، يعلق عليها، ويناقشها ويقارنها مع أحداث أخرى.. أما الأراخ فهو يعيد كتابة ما حدث بدون مناقشة. والغندور قام بالدور الأول دون أن يكون مؤرخا..
2- البعد الأدبي في مذكرات الغندور
تتقاطع مذكرات الغندور مع السيرة الذاتية، سأشرح لماذا؟
هناك علاقة تقارب كبير بين كتابة المذكرات والسيرة الذاتية باعتبارها أجناسا أدبية ومن حيث الشكل والمضمون مع وجود فرق يتجلى في كون المذكرات تعطي الأهمية للأحداث العامة والوقائع التاريخية التي عاشها الكاتب، بينما تركز السيرة الذاتية على الأحداث الشخصية بالدرجة الأولى. وجدت في مذكرات الغندور ملامح للسيرة الذاتية تتجلى من خلال:
أولا، التقاطع والتداخل بين الفعل العام والفعل الخاص. فالانخراط في الحياة السياسية والنقابية هو أبرز ما طبع حياة الغندور لدرجة أن مسيرته السياسية هي مكون أساسي وبارز في سيرته الذاتية.
فحين تمتد التجربة النضالية والسياسية والنقابية لأزيد من نصف قرن في حياة شخص ما، فمعناه أنها أخذت الجزء الأوفر من سنوات عمره مما يجعلها تتحول إلى مكون رئيسي في مسيرة حياته وسيرته الذاتية..
ثانيا، لم يستعمل الغندور في كتابة مذكراته لغة إجرائية جافة، بل استعمل لغة سلسة عذبة، سهلة التلقي، تميل أحيانا للغة الأدبية، يحضر فيها عنصر الحكي والسخرية والتشويق وتولد لدى القارئ الرغبة في التتبع.
اعتمد الغندور في كتابة مذكراته على الذاكرة بمخزونها العقلي والوجداني. ومن جهة ثانية اعتمد على اليوميات التي كان يكتبها بشكل منتظم. مما مكنه من تقديم أدق التفاصيل لتجربته السياسية بذكر عشرات بل مئات الأسماء لأشخاص عايشهم وتقاسم معهم تجاربه منها بشكل مبهر.. فهو يتذكر مثلا أسماء رجال التعليم الذين اشتغل معهم، أسماء بعض التلاميد، والإداريين ومدراء المدارس والحراس .. إلخ يمكن أن نحصي أزيد من مائة اسم … كما ذكر أسماء الأحياء والأمكنة والمقاطعات والدوائر الانتخابية بكثافة ووقوف عند التفاصيل بشكل يثير الدهشة..
قدمت المذكرات معطيات تاريخية دقيقة مصحوبة بتواريخ مثل مواعيد الانتخابات الجماعية والتشريعية، تواريخ خاصة بمؤتمرات الحزب والنقابة اللتين انتمى إليهما، تواريخ همت حياته المهنية والشخصية.. وفي كل فقرة أو حادثة كان الفعل الشخصي يتقاطع مع الفعل العام والعمومي، تحدث عن نفسه لكن من خلال الأحداث والوقائع التي عاشها وعايشها وساهم في خلقها. ما يجعل مذكرات الغندور تتقاطع مع السيرة الذاتية هي أنها نجحت في خلق جسور الثقة بينه وبين القارئ وذلك بنقل العديد من الأحداث الخاصة منها والعامة بصدق وجرأة تذكرنا بالخبز الحافي لمحمد شكري، وهي خصال مطلوبة في كل كتابة تسعى إلى تقديم “شهادة” وجعل صاحبها يكون “شاهدا ” على حقبة تاريخية يساهم في التأريخ لها. إدراك صفة الصدق والمصداقية هي مهمة القارئ، فإما يلمسه من خلال صفحات المذكرات أو لا يلمسه..
3- البعد السوسيولوجي في مذكرات الغندور
يحضر البعد السوسيولوجي بقوة في مذكرات الغندور ويتجلى في:
1- كون المذكرات التي تتقاطع مع السيرة الذاتية تصور الظواهر الإنسانية باعتبارها ظواهر متمثلة ثقافيا وسياسيا وزمنيا مما يمكنها من بناء الهوية الفردية والجمعية واعتبار الإنسان نتاج ثقافة المجتمع وفاعل في صناعة الأحداث من أي موقع كان. فمن خلال سيرة حياة فرد أو مجموعة من الأفراد أو مؤسسة يمكن أن نفهم واقع جماعة اجتماعية معينة ومرحلة تاريخية بعينها..
2- من أهدافها حفظ التراث الشفوي القابل للزوال. يستحضر الغندور علاقته مع الناس من جميع الشرائح الاجتماعية من مجرم سابق إلى وزير .. وهي قدرة لا يمتلكها إلا من يحمل حسا سوسيولوجيا ..
تسلط المذكرات بتسليط الضوء على المسارات العملية والمعيش اليومي الذي يحكي ذاكرة فرد و جماعة في نفس الوقت لها خصوصيتها الثقافية. توظف في العديد من الدراسات، الإثنوغرافيا، السوسيولوجية، الأنثربولوجية، والأدبية. الأمر الذي عزز وجودها في العقود الأخيرة اهتمامها.
4- هي عملية وصف وتحليل في نفس الوقت.
الغندور لا يقف عند وصف الحدث سياسيا كان أو اجتماعيا أو ثقافيا بل يمر مباشرة إلى تحليله ومناقشته والتعليق عليه ومقارنته بأحداث مشابهة وربطه بسياقه المجتمعي، مما يجعل القارئ لا يمل من قراءة ال 380 صفحة ويشعر أنه في كل فقرة أو فصل يخرج بخلاصة معرفية وتاريخية.
الأمثلة كثيرة في مذكراته سأقف عند مثالين فقط
1 – يتحدث عن أسباب عدم تمكن الاتحاد الاشتراكي من الفوز في بعض الدوائر في انتخابات 1976 ويرجعه إلى كون الحزب قدم مرشحا من الطبقة الشعبية في حي برجوازي يضم ما سماه أعرق العائلات الفاسية، كما قدم في دائرة أخرى مرشحا شبه أمي في حي يضم رجال التعليم.. ص 208. هنا يطرح العلاقة بين الانتماء الطبقي والانتماء السياسي، وأن القناعات الإيديولوجية غير كافية لمحو الفوارق الطبقية.
المثال الثاني: في وصفه لأول استقبال ملكي للمجلس البلدي في عهد المرحوم الملك الحسن الثاني سنة 1977 والذي كان يضم الاتحاديين والاستقلاليين. وكيف تم تأجيل الاستقبال بسبب ذهاب أعضاء الفريق الاتحادي بلباس عادي وعدم التزامهم باللباس التقليدي.
يصف الغندور بأسلوب جمع بين الوصف والسخرية كيف تم في اليوم الموالي إحضار اللباس التقليدي على حساب البلدية وكيف طلب من أعضاء الاتحاديين الالتحاق بقاعة الاجتماعات ليختار كل واحد مقاسه من اللباس..لنا أن نتخيل أعضاء المجلس يغيرون ملابسهم ويقيسون الملابس التقليدية وهم متواجدون في نفس الفضاء .. يستعمل هنا الغندور حسه السوسيولوجي في الوصف والتحليل والتعليق وسخريته المعهودة التي تحول حدثا عابرا بالنسبة للبعض إلى واقعة تستحق الوصف والتأمل والتساؤل والتحليل والربط بالسياق الثقافي والسياسي، ويستمر في الوصف إلى اللحظة التي أصبح فيها أعضاء الفريق الاتحادي مجلببون/ يضعون الجلباب التقليدي ومطربشون/ يضعون الطرابيش الحمراء ومسلهمون/ يضعون السلهام المغربي قبل الذهاب لحفل الاستقبال الملكي.. ص 219.
المذكرات مليئة بالوقائع التي يستحضرها الغندور والتي وضف في تحليلها ما درسه في كلية الحقوق وتحديدا في مادة “السوسيولوجيا السياسية”، وذلك لما تم طرده من وظيفة التعليم سنة 1979 مع مجموعة من المناضلين والمضربين.
الختم
انطلقت المذكرات من سؤال جوهري: لماذا فشل المغرب في تحقيق طموحات مواطنيه ومواطناته في الديموقراطية والعدالة والحرية وجميع الحقوق المتعارف عليها كونيا؟؟
كجواب استعرضت المذكرات مسيرة خمسين سنة من الانخراط في الفعل السياسي فكريا ونضاليا في صفوف أحد ابرز أحزاب اليسار المغربي، تصف بدقة لامتناهية وبعمق فكري وحس نقدي ووجداني، أبرز محطاته في علاقته بالنظام السياسي وفي انخراطه في النضال الديموقراطي وفي تغييره وتغيره التدريجي من حزب وطني ديموقراطي جماهيري اشتراكي، اعتبر أكبر حزب معارض في مغرب السبعينات إلى حزب عاش التفكك، التصدع ثم الانشقاق والضعف، مذكرات تنتقل من مرحلة كان فيها الانتماء الحزبي فعلا إراديا حرا ومسؤولا ، ينبع من الإيمان بقيم البناء والتغيير إلى فعل فاقد لهذه القيم، ولحياة سياسية مطبوعة بالفشل والعزوف السياسي ومقاطعة الانتخابات وطغيان الانتهازية لدى المرشحين والناخبين على حد سواء.
إلى مرحلة تدجين الأحزاب اليسارية والوطنية ومسح صورتها النضالية من ذاكرة الأجيال الحاضرة، وهذا ما يطرح سؤال المستقبل بحدة ومستقبل السياسة في بلدنا المغرب.. من نشوة البناء إلى حسرة الفشل انتقلت المذكرات إلى سؤال: ماذا تبقى بعد؟ ما الذي يخبئه الغد؟ ص 358
يتفاعل الغندور بالقول أنه لا مفر من الألم والحزن اللذين يسببهما هذا الواقع البئيس … لكن بنبرة تفاؤلية يضيف “اخترت أن أحول ألمي ووجعي وأسفي إلى غضب وتمرد وثورة في وجه الرداءة والتفاهة ولن أسمح لنفسي بالصمت والجبن والخنوع ص 367
كيف للغندور الذي قضى نصف قرن من حياته وهو يتكلم، يتحدث، يشرح، يفسر، يوضح، يدرس ويوجه من مواقع مختلفة، من القسم بالمدرسة إلى المقرات الحزبية والنقابية إلى الفضاءات العمومية في الحملات الانتخابية،،كيف بهذا الكائن المفكر، المتكلم أن يتوقف عن التفكير والكلام..
اختار الغندور أن يعطي الفرصة للفنان الموجود بداخله والذي ظل قابعا لسنوات أن يخرج للوجود، أن يظهر للعيان، أن يتفجر عطاء وإبداعا..
هنا بفاس التي عاد إليها بعد غياب طويل، أنشأ الغندور قبل أشهر معبده الروحي، فضاء للإبداع، مرسم يوظف فيه يوميا طاقاته الإبداعية بالريشة والألون والكلمة الشعرية….
فعلا، لم يصمت الغندور ولا يمكن أن يصمت، لم يستسلم بل يخاطب كينونته ووجدانه ويخاطبنا يوميا، عبر لوحاته الفنية التي جمعت بين التجريد والواقعية.. ليقول لنا أن الحياة في نهاية المطاف هي القدرة على الإيمان بما يسميه المثلث الكوني: الخير والحق والجمال..