
ملامح خارطة ترامب تضع إسرائيل في موقع “المتفرج”!
عن “هارتس” وترجمة “الأيام الفلسطنية”
في مارس الماضي، بعد فترة قصيرة على بدء ترامب هجومه الكثيف على قواعد الحوثيين في اليمن، أعلن الرئيس الأميركي أن “الحوثيين حركة سياسية إسلامية يمنية يتشوقون جداً لصنع السلام، وأنه تم ضربهم بشدة وهم يريدون وقف الهجمات. يمكنني فقط القول إن الهجمات، في النهار وفي الليل، كانت ناجحة بصورة تتجاوز توقعاتنا. سنفعل ذلك لفترة زمنية طويلة”.
عملياً، استغرق الأمر سبعة أسابيع إلى أن تمت ترجمة رغبة الحوثيين الشديدة في اتفاق لوقف إطلاق النار. يصعب معرفة كيف بالضبط نضج الاتفاق بالتحديد الآن.
السعودية ضغطت على ترامب
حسب أحد التقديرات فإن السعودية هي التي ضغطت على ترامب لتمهيد الأجواء قبل زيارته المملكة، الأسبوع القادم. تقول تحليلات أخرى إن إيران “أوصت” الحوثيين بالموافقة على وقف إطلاق النار كبادرة حسن نية للدفع قدماً بالمفاوضات حول القضية النووية، التي من شأنها أن تستأنف، غداً (الأحد)، رغم أن موقف إيران الرسمي يؤكد على أن كل “وكلائها” مستقلون في قراراتهم، وأن إيران لا تتدخل في تقديرهم.
من خلال نسيج هذه التقديرات تملصت حقيقة بأن الأمر يتعلق باتفاق بين دولة عظمى في العالم وبين نظام يعتبر منظمة “إرهابية” دولية، لكن من الجدير تخفيف الصدمة. فهذه ليست المرة الأولى التي يجري فيها ترامب مفاوضات مع من صنفه هو نفسه بأنه منظمة “إرهابية” دولية. في العام 2019 بعد مهاجمة الحوثيين منشآت النفط في السعودية، رغم أن السعودية طرحت دلائل كما يبدو على تدخل إيران في الهجوم الذي تسبب بأضرار كبيرة وتقليص عميق في قدرة المملكة على إنتاج النفط، إلا أن ترامب لم يضغط على الزناد.
“أنا شخص غير معني بالحرب”، رد ترامب في حينه. وعندما سئل هل تعهد بالدفاع عن السعودية أجاب: “لا، لم أتعهد بشيء كهذا في أي يوم للسعودية. يجب علينا الجلوس مع السعوديين وتخطيط شيء. كان هذا هجوماً على السعودية وليس علينا، لكن نحن بالتأكيد سنساعدهم”.
بعد ذلك أوضح ترامب بأن الاستعداد لمساعدة السعودية موجود، لكن له ثمن. في موازاة ذلك “عرض” على السعودية البدء في مفاوضات مع الحوثيين للتوصل إلى تسوية معينة.
بعد سبعة أشهر تقريبا على ذلك الهجوم هدد ترامب ولي العهد، محمد بن سلمان، بأنه إذا لم تقلص السعودية و”أوبيك” إنتاج النفط وإنهاء حرب نفطهم مع روسيا، التي تسببت بأضرار لصناعة النفط الأميركية، فإن ترامب لن يستطيع وقف التشريع في الكونغرس، الذي ينوي المطالبة بإخراج القوات الأميركية من السعودية، وصواريخ الباتريوت، ومنظومات الدفاع ضد الصواريخ، أي منظومات الدفاع ضد إيران والحوثيين. بعد عشرة أيام أعلنت السعودية تقليص حجم إنتاج النفط.
من خلال هذه الأحداث كان يجب أن تعلم إسرائيل الدرس المطلوب لفهم الطريقة التي يدير فيها ترامب السياسة الخارجية، ويمكنه أن يوفر عليها المفاجأة والإحراج الذي لحق بها من اتفاق وقف إطلاق النار مع الحوثيين، والذي وقع من وراء ظهرها.
يقول أحد أسس هذه السياسة إن ترامب لا ينوي أن يخوض حروب الآخرين، سواء أكانت السعودية، حليفة الولايات المتحدة منذ سبعة عقود تقريبا، أم أوكرانيا، التي تحارب على حياتها أمام العدو التاريخي للولايات المتحدة، وكما يبدو إسرائيل أيضاً.
الأساس الثاني أصبح معروفاً جيداً، وهو يقول إن ترامب يفضل الصفقات على المواجهات العنيفة.
من اجل تحقيق صفقة أميركية جيدة، مع التأكيد على أميركية، فإنه ليست لديه أي مشكلة لكسر اطر دبلوماسية تقليدية كتلك التي تقول إنه لن يتم إجراء المفاوضات مع المنظمات “الإرهابية”، أو إصلاح خطأ ارتكبه عندما انسحب من الاتفاق النووي مع إيران.
تدخل مؤقت
الضغط الذي استخدمه ترامب على ابن سلمان لإجراء مفاوضات مع الحوثيين، والذي نضج في العام 2022 عندما تم التوصل إلى وقف لإطلاق النار معهم، سبق فقط بخمسة اشهر اتفاقاً آخر وقع عليه ترامب مع تنظيم إرهابي، “طالبان”، في العام 2020. سمح الاتفاق، الذي وقع في حينه في عاصمة قطر الدوحة، لترامب بسحب 5 آلاف جندي تقريبا من أفغانستان. وقد خلق البنية التحتية لاتفاق آخر، كان سيوقع عليه في آب 2023 بين الرئيس بايدن و”طالبان”، في إطاره تم تنفيذ الانسحاب المشوش والمخجل للقوات الأميركية المتبقية.
ترامب، الذي أثبت في حينه انه غير ملزم بقواعد اللعب السياسية والدبلوماسية المقبولة، أو منظومة علاقات تعتبر مسلمات، لم يتأثر أيضا بأن ممثله، آدم بهلر، التقى في هذه السنة مباشرة مع رئيس “حماس”، خليل الحية، لمناقشة قضية المخطوفين والسيطرة في غزة. تم عزل بهلر في الواقع عن منصبه بعد ذلك، لكن هذه السابقة تثبت أن مكانة إسرائيل، التي ليست جزء من الاتفاق مع الحوثيين، الآن أصبحت تشبه مكانة السعودية في العام 2019. من الآن فصاعدا، على الأقل طالما أن الطرفين ينفذان الاتفاق فإن هذه لم تعد حرب الولايات المتحدة.
يُضاف إلى قائمة “الإرهابيين”، الذين توافق الإدارة الأميركية على إجراء مفاوضات معهم، الرئيس السوري، أحمد الشرع، الذي التقت معه شخصيات أميركية رفيعة حتى في فترة ولاية الرئيس جو بايدن. مؤخرا التقى معه أعضاء كونغرس من الحزب الجمهوري، وسمعوا منه بأنه مستعد للانضمام إلى اتفاقات إبراهيم بشروط معينة. الشرع، الذي التقى في زيارته الأولى في أوروبا، هذا الأسبوع، مع الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وسبق أن أجرى لقاءات مع زعماء السعودية، الإمارات، وقطر، يرسل من خلال وسطاء طلبات للالتقاء مع ترامب عندما سيأتي لزيارة دول الخليج، الأسبوع القادم.
حتى الآن من غير المعروف إذا كان سيخرج لقاء كهذا إلى حيز التنفيذ، لكن الولايات المتحدة تجري مع دمشق نقاشات فعلية حول رفع العقوبات التي فرضت على سورية من اجل السماح بتدفق الأموال والاستثمارات إليها. وهي أيضا أعفت قطر من هذه العقوبات عندما سمحت لها بإرسال عشرات ملايين الدولارات لإدارة الشرع لتمويل دفع الرواتب.
إسرائيل، التي بدأت، أول من أمس، في باكو، عاصمة أذربيجان، جولة أخرى للمحادثات مع تركيا حول إقامة آلية تنسيق لنشاطاتها في سورية، يجب عليها من الآن فصاعدا مواجهة قيود جديدة حول حجم وطبيعة عملها في المجال الجوي والبري في سورية.
سيجب عليها الأخذ في الحسبان ليس فقط موقف تركيا، بل بالأساس سياسة واشنطن الجديدة التي تعتبر تركيا ذراعاً حيوية لمحاربة “داعش”، وهي الدولة التي ستحل محل القوات الأميركية التي بدأت بالانسحاب من سورية.
الاتفاق مع الحوثيين والتقارب العلني من النظام السوري الشرع وتعزز التحالف مع تركيا، وهي الخطوات التي تم دفع إسرائيل فيها إلى مدرج المتفرجين، تشير إلى ملامح الخارطة الجيوسياسية التي يطمح ترامب إلى رسمها.
هذه خارطة تلزم في الواقع الولايات المتحدة بالتدخل، الآن، بشكل مباشر، وأن تدس يدها في المواجهات، لكن فقط من أجل تمهيد الطريق للانسحاب منها في المستقبل القريب وترك للاعبين المحليين إدارة شؤونهم. لا تعطي هذه الخارطة لإسرائيل دوراً رئيسياً، ويلمح ترامب أيضا إلى أنها لن تشارك فيها إذا كانت ستشوش خطواته.
الانعطافة الدبلوماسية أمام إيران هي النتيجة الأكثر إثارة للانطباع لسياسة العزلة لترامب، التي لا تتردد في أن تسحق تحالفات وتفاهمات تاريخية في الطريق إلى تطبيقها. دون إشراك الاتحاد الأوروبي، ومن خلال وضع مطرقة ثقيلة على رأس نتنياهو، دخل في مفاوضات مع إيران وكأنها صفقة أميركية – إيرانية خاصة، إذا تم التوقيع عليها فسيتم تقديمها على أنها إنجاز شخصي لترامب وتأطيرها على أنها الاتفاق الأفضل، حتى لو كان يصعب العثور على اختلاف بينها وبين الاتفاق النووي الأصلي الذي وُقع عليه في العام 2015. لطالما كان ينظر إلى إسرائيل، الدولة الأكثر تعرضا لتهديد إيران، بأنها تمتلك “الامتياز” الحصري لتحييد هذا التهديد. الآن سحب الرئيس الأميركي، الذي خضع في السابق لضغوط إسرائيل، هذا الامتياز منها، الأمر الذي تسبب في تحويل إيران إلى دولة عتبة نووية.
صفقة القرن الاقتصادية أولاً
ثمة “مصير” مشابه ينتظر قطاع غزة، وهو منطقة حرب تمتلكها اسرائيل بشكل كامل، لعبت فيها الولايات المتحدة حتى الآن فقط دور الركيزة العسكرية والسياسية، وكوسيط رئيس في صفقة المخطوفين، والآن يمكن أن تنتقل إلى إدارة أميركية. بالصورة التي تدير فيها إسرائيل الحرب، تجويع سكان القطاع في الطريق إلى الاحتلال الكامل له، فقد حولت إسرائيل غزة إلى تهديد إقليمي، تداعياته بالنسبة للولايات المتحدة أوسع بكثير من بؤر الاشتعال المحلية، مثل الاشتباك مع الحوثيين وصراع السيطرة في سورية وتدمير “حماس” و”حزب الله”.
عندما تحذر جهة أميركية رفيعة من أنه إذا لم تستيقظ إسرائيل فإن الولايات المتحدة من شأنها أن تدفع قدماً بصفقة مع السعودية دونها، وهذا استمرار مباشر لسياسة سبق أن بدأ تطبيقها، بحسبها لن يسمح ترامب لإسرائيل بتخريب “صفقة القرن” الاقتصادية الخاصة به مع المملكة، التي تشمل، ضمن أمور أخرى، شراء عسكرياً بمبلغ 100 مليار دولار واستثمارات سعودية بمبلغ تريليون دولار تقريبا في الولايات المتحدة.
ترامب، الذي استوعب بالفعل استحالة مشروع ريفييرا غزة ونقل مليون غزي، عاد إلى لوحة الرسم، ويبدو أنه لن يكتفي بعملية أميركية فقط بتعاون عربي لتوزيع المساعدات الإنسانية في غزة. ورغم غضب ائتلاف نتنياهو إلا أن من شأنه أيضا أن يرسم هيكلية اليوم التالي، التي ستعتمد على اقتراح مصر. هكذا، مثلما فعل مع الحوثيين وإيران وسورية، فإن ترامب قد يحول غزة إلى حربه الخاصة، التي فيها سيملي شروطه ويتوقع الطاعة. ولا يستطيع أن يترك شق طريقه إلى جائزة نوبل لمقاول ، حتى لو كان اسمه إسرائيل.