الرئسيةتكنولوجياحول العالم

السنما..كيف تحوّلت التكنولوجيا إلى مرآة مظلمة للمستقبل؟

قبل أكثر من عقد أطل مسلسل “بلاك ميرور” (Black Mirror) على جمهور منصة نتفليكس و تحديدا في عام 2011، كعمل درامي يصنف ضمن الخيال العلمي السداوي “ديستوبيا”، حيث استعرض السيناريوهات الأكثر تطرفاً لتطور التكنولوجيا وتأثيرها على حياة الإنسان. حينها، بدت أغلب الحلقات أقرب إلى الكوابيس الرقمية التي لا تمت للواقع بصلة ” زوجها تشارلي بروك“.

لكن ومع مرور الزمن، وبوتيرة تسارع غير مسبوقة في تطوير الذكاء الاصطناعي والروبوتات وتقنيات المراقبة، أصبحت حلقات المسلسل أشبه بمذكرات تشاؤمية تتنبأ بما نعيشه اليوم.

من تساؤله الأول “هل يمكن أن توجد هذه التكنولوجيا؟” انتقل المسلسل إلى سؤال أكثر إثارة للقلق: “ماذا لو تحولت هذه التكنولوجيا إلى أداة للسيطرة؟”، والواقع أن كثيراً من الأفكار التي طرحتها الحلقات أصبحت اليوم مطروحة على طاولة الشركات العملاقة والمختبرات البحثية حول العالم.

استنساخ الذكريات والحضور الرقمي بعد الموت

 

عندما قُدّمت الحلقة الشهيرة “Be Right Back” سنة 2013، لم يكن لأحد أن يتخيل واقعية السيناريو المطروح: امرأة فقدت زوجها في حادث، واستعانت بخدمة رقمية لإعادة خلق نسخة افتراضية منه، انطلاقاً من أرشيفه الرقمي ورسائله ومنشوراته. تطور الأمر لاحقاً إلى جسد روبوتي يحاكيه شكلاً وسلوكاً، في تجربة تخدش جدار الحزن الحقيقي، وتطرح سؤالاً فلسفياً عميقاً: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يملأ الفراغ العاطفي؟

اليوم، لم يعد هذا السيناريو محض خيال. تطبيقات مثل “Replika” و”Character.ai” أصبحت تمكّن المستخدمين من بناء شخصيات ذكاء اصطناعي ” هو سلوك وخصائصُ معينة تتسم بها البرامج الحاسوبية فتُحاكي“، ذات طابع عاطفي، تتحدث، تتفاعل، وتبني علاقة قائمة على المحاكاة النفسية، حتى بات “رفيق الذكاء الاصطناعي” سوقاً تجارياً بملايين الدولارات، يلقى رواجاً واسعاً لدى من يعانون من العزلة أو اضطرابات العلاقات، لم يعد تخليد الراحلين رقمياً فكرة غريبة، بل مشروعاً تجارياً يجد رواجاً في سوق الذكاء الاصطناعي العاطفي.

الروبوتات: من التوصيل إلى القتل

في حلقة “Metalhead” من الموسم الرابع، تتحول روبوتات تشبه الكلاب إلى آلات قتل لا ترحم، مبرمجة لتعقب البشر والقضاء عليهم، هذه الرؤية المخيفة لم تعد بعيدة عن الواقع مع التقدم المذهل لشركة “Boston Dynamics”، التي تطور روبوتات حيوانية ذات قدرة فائقة على الحركة والاستشعار.

وعلى الرغم من تصريحات الشركة بأنها لا تطور روبوتات للاستخدامات القتالية ” التكنولوجيا“، فإن الاهتمام المتزايد من المؤسسات العسكرية، والتعاون بين شركات التقنية وجيوش العالم، يعزز المخاوف من انزلاق هذه الابتكارات إلى الاستخدامات القتالية.

الأطفال تحت المجهر: تكنولوجيا الرقابة الأبوية

 

حلقة “Arkangel” تسلط الضوء على رقابة أبوية حيث تُقرّر أم زرع شريحة في دماغ ابنتها لمراقبة كل ما تراه وتسمعه وتفعله، بل وحتى حجب الصور والمشاهد “غير المناسبة” من إدراكهم البصري.. فكرة بدت مروّعة وقتها، لكنها أصبحت قريبة من الواقع، ورغم أن هذه التقنية لم تصل إلى زر يُزرع في الدماغ بعد، فإن الواقع يشهد سباقاً نحو أدوات الرقابة الرقمية، من تطبيقات تتبع الموقع إلى أجهزة مثل AirTag، وحتى أنظمة مراقبة المحتوى التي يستخدمها بعض الآباء، السؤال الأخلاقي هنا لم يعد “هل يمكن فعل ذلك؟” بل “هل يجب أن نفعل ذلك؟”.

اقتصاد المشاهدة والإعلانات القسرية

في واحدة من أكثر الحلقات إثارة للجدل، “Fifteen Million Merits”، يعيش الأفراد في عالم مغلق، ويُجبرون على كسب نقاط عبر التمارين البدنية لاستهلاك المحتوى الترفيهي، بينما يُفرض عليهم مشاهدة الإعلانات ما لم يدفعوا مقابل تجاوزها.

هذه الرؤية الساخرة أصبحت أقرب إلى واقع منصات البث، بما فيها نتفليكس نفسها التي أطلقت مؤخراً باقة اشتراك منخفضة التكلفة مدعومة بالإعلانات، مما يعكس ما يشبه الانقلاب على نموذج المشاهدة الخالية من الإعلانات.

ولم تتوقف الحلقة عند فرض الإعلانات فقط، بل توقعت كذلك مستقبلًا فيه مشاهير يصنعون جمهوراً كاملاً من الذكاء الاصطناعي، واليوم، تقدم منصة “Famify” خدمة تتيح صناعة شهرة رقمية من خلال جمهور افتراضي، حيث يتفاعل الذكاء الاصطناعي مع المستخدم كما لو كان ملايين المتابعين من البشر.

الرؤية النقدية: من يملك التكنولوجيا؟ ومن يحاسبها؟

بعيدًا عن الحلقات، فإن الأسئلة الجوهرية التي يطرحها “بلاك ميرور” لا تتعلق فقط بالتكنولوجيا بحد ذاتها، بل بالمنظومة الأخلاقية التي تفتقر لها هذه الثورة الرقمية.

فهل تبقى التكنولوجيا أداة لتحسين حياة البشر، أم تتحول إلى قيد محكم على الوعي والحريات؟

في هذا الصدد، يحذر الدكتور نواف الزبيدي، الباحث في أخلاقيات الذكاء الاصطناعي بجامعة أمستردام: “الخطر الحقيقي لا يكمن في الذكاء الاصطناعي، بل في غياب الضوابط الأخلاقية التي تضمن عدم تحوّله إلى أداة للهيمنة والتلاعب.”
أما منظمة “هيومن رايتس ووتش” فقد نشرت تقريرًا حديثًا (2024) تؤكد فيه أن عددًا من شركات التكنولوجيا تعمل في فراغ تشريعي يسمح لها بتطوير أدوات مراقبة لا تخضع لأي شكل من المساءلة، بينما دعت منظمة اليونسكو في تقريرها “الذكاء الاصطناعي وأخلاقيات المستقبل” (2023) إلى ضرورة فرض رقابة دولية على استخدامات الذكاء الاصطناعي، خاصة في مجالات الإعلام والتعليم.

التكنولوجيا كأداة هيمنة ناعمة

التحول التكنولوجي لم يعد مجرد تطور، بل أصبح جزءاً من هندسة اجتماعية كبرى. ففي الوقت الذي نستمتع فيه بتطبيقات الذكاء الاصطناعي، والخدمات الرقمية، ونظام التوصيات الذكي، يتم جمع وتحليل كميات ضخمة من البيانات، تُستخدم لاحقاً في توجيه قراراتنا الاستهلاكية والسياسية، وأحياناً الشخصية.
هذا التراكم المعرفي الآلي يمنح قوة غير مسبوقة للشركات، ويقوّض فكرة السيادة الرقمية الفردية.

دعوة لليقظة والنقاش العمومي

لم يعد مسلسل “بلاك ميرور” مجرد دراما تشويق سوداوي، بل تحوّل إلى مرآة نقدية ترصد الانزلاقات المحتملة للتكنولوجيا، فالسؤال اليوم لم يعد: “هل سيتحقق ما ورد في هذه الحلقات؟”، بل: “هل نحن مستعدون لمواجهة ما تحقق فعلاً؟”.

وسط هذا التسارع الجنوني، تبرز الحاجة الملحة إلى إطلاق نقاشات عمومية واسعة تشمل خبراء التكنولوجيا، المشرعين، والمجتمع المدني من أجل وضع أطر قانونية وأخلاقية تواكب هذه الطفرة، وتضمن ألا يُختزل الإنسان إلى مجرد خوارزمية.

في النهاية، قد لا نملك رفاهية العودة إلى الوراء، لكننا نملك فرصة تعديل المسار قبل أن نصبح مجرد شخصيات في حلقة جديدة من “بلاك ميرور” الواقعي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى