بينما لا تزال الحكومة المغربية تلوّح في خطاباتها الرسمية بإصلاحات هيكلية “جذرية”، وكأنها نقلت المغرب لوضع “البحبوحة”، جاءت صفعة تقرير “تشاندلر للحكومة الجيدة” لعام 2025 لتعيد المغرب إلى حجمه الحقيقي، لا كما تراه أبواق الترويج، بل كما تعكسه مؤشرات دولية صارمة لا تؤمن بالمجاملات ولا بالكلمات الرنانة.
تراجع المغرب بخمس درجات
المغرب، وفق التقرير الصادر عن معهد “تشاندلر” الذي يتخذ من سنغافورة مقراً له، حل في المرتبة 75 من أصل 120 دولة، متراجعاً بخمس درجات عن تصنيف سنة 2024، وبمعدل هزيل لا يتجاوز 0.466 من أصل 1، و باللغة الصريحة التي لا تحتاج إلى تأويل: نحن نقف عند عتبة “الأداء المتوسط”، ولكن أقرب ما نكون إلى القاع، نراقب الدول الصاعدة من بعيد، وننقّب عن بصيص “مؤشرات إيجابية” كي نُقنع أنفسنا بأننا لسنا الأسوأ.
ففيما تتفاخر الأروقة الحكومية بإنجازات في عدة مجالات وقطاعات، يفضح التقرير تناقضًا صارخًا بين هذه الصورة المزيفة وبين الواقع المؤلم الذي يعيشه المواطن المغربي العادي ” الفقر“، فقد حقق المغرب نقطة مضيئة وحيدة في “القيادة والرؤية الاستراتيجية” التي جاءت في المركز الـ50 عالميًا، مدعومة برؤية طويلة الأمد تحتل المرتبة الـ28، ولكن هذه الرؤية يبدو أنها تنتهي عند حدود الورق الرسمي، لأن المؤشرات الفعلية مثل جودة التعليم، التوظيف، والمساواة بين الجنسين ترسم صورة قاتمة بشكل لا يحتمل.
المؤسسات القوية تراجعت
الحكومة قد تفخر بترتيبها في ركيزة “القيادة الأخلاقية” رغم أنها جاءت في المركز الـ71، وهو ترتيب بعيد عن الحياد لا يوحي سوى بوجود أخلاقيات من نوع آخر، قد تكون مرتبطة بالمحسوبية والزبونية أكثر من أي شيء آخر، أما الركائز الأخرى، فهي بمثابة كارثة مهيكلة: “المؤسسات القوية” تراجعت إلى المرتبة 87، ما يعني هشاشة مؤسسات الدولة، في حين جاءت “مساعدة الناس على النهوض” في المرتبة 85، مع معدلات تعيسة للتوظيف (109) وجودة التعليم (97) بل وحتى الخدمات العامة (103).
التفاوت بين الجنسين عند المرتبة 112 يشي بأن النساء في المغرب ما زلن يدفعن ثمن النظام البالي والمتخلف.
وإذا كانت الحكومة تدّعي تحسين بيئة الأعمال، فإن “الأسواق الجذابة” تحتل المركز 71، مع ضعف فادح في حماية حقوق الملكية (83) وجذب الاستثمارات (73)، رغم تقدم “استقرار القوانين التجارية” إلى المركز 26.، يبقى هذا التقدم شكلي فقط، إذ إن السوق المغربية لا تزال تعاني من قيود وعقبات بنيوية تمنع أي نقلة نوعية.
أما الشفافية فهي مصيبة أخرى، فقد حل المغرب في المرتبة 92 عالميًا، ما يضع علامات استفهام قاتمة حول مدى نزاهة المسؤولين وشفافية إدارة المال العام، خصوصًا في ظل الفضائح المتكررة للصفقات العمومية التي تتصدر عناوين الأخبار، وهو ما يؤكد أن “الالتزام بتوفير معلومات دقيقة وموثوقة” ليس سوى شعار بلا مضمون.
في ذات السياق يضهر الجانب المالي تحسنًا نسبيًا (المرتبة 70) “النظام المالي“، لكن الفجوة لا تزال عميقة، خاصة في “فائض الميزانية” التي جاءت في المرتبة 85، مؤشراً على استمرار عجز مزمن وضعف في الإصلاحات الجبائية التي يفترض أن تكون العمود الفقري لأي حكومة جادة.
النفوذ الدولي للمغرب
أما الوجه الآخر الذي تفتخر به الحكومة، وهو النفوذ الدولي، فقد احتل المغرب المرتبة 73، مدعومًا بدبلوماسية نشطة (المركز 32) على المستوى الدولي، تبرز بشكل خاص في الملفات المتعلقة بالهجرة والأمن الإقليمي، لكنها دبلوماسية تفتقر إلى العمق والفاعلية، فلا تأثير حقيقي لها في خلق فرص تنموية داخلية، ولا قدرة على رفع المغرب فوق مأزقه الداخلي.
ويظل المفارقة الكبرى في تقدّم المغرب كأكبر محسن في إفريقيا في “قدرات البيانات الحكومية”، وهو ما يفسر بالجهود الرقمية الضخمة التي تبذلها الدولة ضمن استراتيجية “المغرب الرقمي 2030”، حيث يمكن تسجيل دخول المغرب إلى العصر الرقمي، لكن هذه القفزة التقنية لا تعني شيئًا للمواطن العادي الذي مازال يرزح تحت وطأة الفقر والبطالة وعدم المساواة، مما يجعل هذه الإنجازات الرقمية تبدو كديكور براق على مسرح واقع مظلم.
الفجوات الاجتماعية في توزيع الدخل (83) والتفاوتات الجندرية (112) في أسوء أحوالها
لا يتوقف الانحطاط عند هذا الحد، فالفجوات الاجتماعية في توزيع الدخل (83) والتفاوتات الجندرية (112) تعد من أسوأ نتائج التقرير، تعكس دولة عاجزة عن توفير الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية والمساواة، متهمة بتجاهل الحقوق الأساسية للمواطنين، ومنهكة بنظام سياسي واقتصادي فاسد يكرّس التهميش والتمييز.
توزيع غير عادل للثروة
في ظل هذه الحقائق، لا عجب أن تتسارع الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية التي يغطيها التقرير، والتي تعكس تآكل الثقة في المؤسسات المغربية، وتجسد الفشل الذريع الذي يواجهه المغرب في إدارة حاكميته، خصوصًا في زمن يشهد العالم فيه تنافسًا عالميًا حادًا على جودة الحكامة، وبدلاً من أن تكون المغرب في صف “الفائزين” الذين يعرضهم تقرير تشاندلر، تبقى أسيرة متاهات الأداء المتوسط والهش، محاطة بدول تعاني أزمات مزمنة، وكأنها تنتظر نكسة جديدة أو انزلاقًا أعمق في دوامة الفشل.
في النهاية، لم يعد بإمكان الحكومة الاستمرار في تصوير واقع مزيف، فالبيانات والمعطيات الرسمية الآن تسير في عكس الاتجاه، وكأننا نعيش مسرحية حكومية تراجيدية بأداء متواضع وأرقام مخزية، تثير السخرية السوداء من عظمة المخططات التي لا تغطي سوى عيوب الواقع “كنغطيو شمس بغربال” .
المغرب اليوم يحتاج إلى أكثر من دبلوماسية مزدهرة؛ يحتاج إلى إرادة حقيقية وجذرية لإصلاح منظوماته، وإلا فمصيره سيكون الانحدار بلا توقف في التصنيفات الدولية، والابتعاد أكثر فأكثر عن آمال شعب يئنّ من الفشل المتكرر.