محمد سعد برادة، وزيرً التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة
يبدو أن وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، المعروفة اختصارًا بـ”وزارة برادة” “التعليم الأساسي في المملكة المغربية“، قد قررت أن تُعيد ترتيب أولوياتها وفق نغمة جديدة: نغمة الهيب هوب والبريكينغ، ففي الوقت الذي تتهاوى فيه المدارس العمومية كمبانٍ مهجورة، وتتصدع جودة التعليم كما تتصدع كراسي القسم المهترئة، وحين أصبحت اللغة العربية ضحية في ساحة قتال بين فرنسية هزيلة وإنجليزية هجينة، اختارت الوزارة أن تنفض الغبار عن قضايا التعليم الجوهرية… عبر الرقص.
تحرير: جيهان مشكور
بتنظيم دورة تكوينية خاصة بتدريس الهيب هوب
في مشهد عبثي لا يليق إلا بمسرحية من تأليف صموئيل بيكيت، بعثت الوزارة مراسلة رسمية إلى مدراء الأكاديميات الجهوية، تُخبرهم فيها بتنظيم دورة تكوينية خاصة بتدريس الهيب هوب والبريكينغ، بشراكة مع الجامعة الملكية المغربية للرياضات الوثيرية والرشاقة البدنية الهيب هوب والأساليب المماثلة.
لا تسألوني عن “الأساليب المماثلة”، فحتى دانتي في الجحيم لم يصادف هذه التراكيب!
دورة التكوين هاته.. و التي لم تُحدد بعد مكانها ولا زمانها، ربما لأنهم يبحثون عن قاعة برائحة “الستريت آرت” سيؤطرها الخبير الدولي طوماس رميرس (Thomas Ramires)، الذي قضى سنوات في دراسة فلسفة الرأس وهو يرتطم بالأرض في رقصة البريكينغ.
في هذا السياق، طلبت وزارة برادة، في مراسلتها المنسجمة مع “توجهها الاستراتيجي”، من المدراء الجهويين اقتراح إطارين (مفتش أو أستاذ/ة) نشيطين في “الرياضة المدرسية” ومهتمين بالهيب هوب، و الأهم أن يكونا مستعديْن لتقاسم التكوين مع باقي الأساتذة، وكأننا بصدد إعداد بعثة دعوية موسيقية لا تقل أهمية عن بعثات الصواريخ نحو المريخ.
فحسب الوزارة،تأتي هذه الخطوة في إطار “التوجه الاستراتيجي لدعم قدرات أساتذة التربية البدنية”، وكأن هؤلاء الأساتذة كانوا طيلة العقود الماضية يحلمون فقط بأن يتعلموا كيف يؤدون حركة “الهيدسبين” على سجادة متآكلة في قاعة رياضة متهالكة، وليس كيف يُدرّبون تلاميذ بدون كرات، وبدون ملاعب، وبدون حتى مياه في المراحيض.
هل نلوم الوزارة؟طبعا لا.
لعلها استسلمت لحقيقة مفادها أن التعليم التقليدي مات إكلينيكيا، فلم يبقَ إلا الرقص فوق جثته الباردة، فالمدارس، التي تُفتَرض أن تكون فضاءات للعلم والمعرفة، صارت تُخرّج أجيالًا تعاني من الأمية الوظيفية، ولا تفرق بين الفعل والفاعل، لكن على الأقل سيكون بمقدورها التفريق بين رقصات “pop & lock” و“windmill”.
الانفصام التربوي
وفي خضم هذا الإبداع المؤسسي، جاءت المراسلة لتعكس ما يشبه “انفصاماً تربوياً”، أو بالأحرى “بريك دانس إداري”، بين ما يحتاجه التعليم المغربي وما يتم إنفاق الجهد والمال عليه، فبينما ينهار نظامنا التعليمي تحت وطأة الاكتظاظ، وهجرة الأطر، وغياب التجهيزات، تنشغل الوزارة باكتساب مهارات “b-boy stance” بدل التفكير في إصلاح مناهج مهترئة، وتكوين معلمين يعيشون على حافة السلم الاجتماعي.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: من هو المستفيد من هذا التكوين؟ هل هو التلميذ الذي بالكاد يجد كراسة، أم الأستاذ الذي بالكاد يحصل على أجرة محترمة؟ أم أننا بصدد تسويق “ماركوتينغ هيب هوب” لستر العجز المزمن في السياسات العمومية؟
لنتخيل مشهدًا قريبًا من الواقع: أستاذ تربية بدنية فوق منصة، يمسك مكبر صوت، وهو يلقن التلاميذ تقنيات الهيب هوب بينما سقف القسم يرشح، والطاولات مهشمة، والمراحيض مغلقة منذ 2007… مشهد لا يُرى إلا في المغرب، حيث تتقاطع الكوميديا السوداء مع ميزانيات العبث.
ليس له أولوية تربوية ولا هو مطلباً مجتمعياً ملحّاً
وإذا افترضنا حُسن النية، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا يتم تنظيم دورة تكوينية في تخصص فني لا يشكل لا أولوية تربوية ولا مطلباً مجتمعياً ملحّاً؟ من يقرر الأولويات في هذا القطاع؟ وهل فعلاً يُنتظر من أستاذ في قرية نائية بجبال الأطلس أن يدرّب تلامذته على “البريكينغ” فيما هم يقطعون 6 كيلومترات على الأقدام للوصول إلى المدرسة؟
الأدهى أن الوزارة دعت المدراء الجهويين إلى اقتراح أطر “مهتمة” بهذا النشاط، وكأن الاهتمام بالهيب هوب أصبح مؤهلاً تربوياً، وقد نرى في المستقبل شواهد الكفاءة التربوية تتطلب أداء حركة “المون ووك” أو اجتياز اختبار في الـ”فري ستايل”.
لنكن واضحين: لا أحد ينكر أن الفنون الحضرية لها مكانة ثقافية، وقد تكون وسيلة للتواصل مع الشباب وتفريغ الطاقات.
ولكن أن تُدرّج كأولوية تكوينية في ظل منظومة تعليمية تحتضر، فهو ما يدخل في خانة العبث الوزاري بامتياز، فنحن لسنا ضد الفن، لسنا ضد الإبداع، بل إن المدرسة يجب أن تكون فضاءً للتعبير الفني، للموسيقى، للرقص، للكتابة، وللرسم.
لكن حين يتحول هذا التكوين إلى أولوية في نظام يحتضر، يصبح الأمر شبيها بوضع أحمر شفاه على جثة هامدة، جميلٌ من بعيد، لكنه لا يخفي الرائحة.
الدرس الحقيقي الذي تقدمه وزارة برادة اليوم هو أن الحلول الترقيعية لا زالت تحكم المنطق الوزاري، وأن الثقافة في هذا البلد إما تُستغل كواجهة تلميع، أو يتم تدميرها من داخلها عبر ممارسات كارثية مغلفة بالكلمات الكبيرة.
في النهاية، كل ما نأمله هو أن لا تُحوَّل مباراة ولوج مهن التعليم مستقبلاً إلى “باتل دانس” حاسمة، يترشح فيها الأستاذ عبر فيديو تيك توك يُظهر فيه مهاراته في البريكينغ، بدل السيرة الذاتية. على الأقل، حينها سنضحك… ونحن نبكي.
قد لا تكون المشكلة في رقصة الهيب هوب ذاتها، بل في من يرقص بنا على حبال الإفلاس التعليمي، وكلما تعالت الصرخات من الأقسام المتهالكة، جاء الرد الوزاري بحركة استعراضية جديدة… وربما قريبا نسمع عن دورات تكوينية في الراب السياسي أو الـDJ التربوي.
فليحيا الإبداع الوزاري، وليرقص التعليم المغربي — حتى سقوطه الأخير.