
شهدت أسعار الغازوال تقلبات درامية على المستوى العالمي، تأثرت بشكل مباشر بالصراع الإيراني‑الإسرائيلي‑الأمريكي الذي اندلع منتصف يونيو 2025، فقد وصل سعر طن الغازوال إلى مستوى قياسي تجاوز 784 دولارًا في 19 يونيو، قبل أن ينخفض فجأة إلى أقل من 663 دولارًا مع نهاية الشهر، ومع هذا التذبذب الواضح، يُفترض أن تنعكس التغيرات على ثمن البيع للعموم، إلا أن الحقيقة المؤلمة تكشفها تصريحات الحسين اليماني، الكاتب العام للنقابة الوطنية للبترول والغاز ورئيس الجبهة الوطنية لإنقاذ المصفاة المغربية للبترول.
بين التحرير والنهب المنظم
فوفقًا لليماني، فإن العودة إلى القواعد الحسابية السابقة للتحكم في أسعار المحروقات تشير إلى أن السعر العادل للتر الغازوال يجب ألا يتجاوز 9.77 درهم، بينما يصل الحد الأقصى لسعر لتر البنزين إلى 10.90 درهم خلال النصف الأول من يوليوز 2025.. غير أن الأسعار الحالية تجاوزت هذا الحد بكثير، حيث سجل سعر الغازوال حوالي 11.26 درهم للتر، وسعر البنزين 13.22 درهم للتر، و هذا يعكس وجود أرباح إضافية غير مبررة تُضاف فوق السعر الحقيقي للمنتج، ما يعدو كونه “أرباحًا فاحشة” تُضاف إلى ما يقرب من 80 مليار درهم من الأرباح التي تراكمت منذ قرار تحرير الأسعار نهاية 2015 حتى نهاية 2024.
مَن يحرر مَن؟ ومن يدفع الثمن؟
هذه الأرباح الطائلة التي يوردها اليماني ليست مجرد أرقام عشوائية، بل تعكس حالة من التراكم المريب للثروة على حساب المواطن المغربي، حيث تُقدّر خسائر المستهلك من هذه الفوارق السعرية بحوالي 1.49 درهم في كل لتر من الغازوال وحده، ومع استهلاك يومي يقدر بـ 19.6 مليون لتر، فإن هذه الفجوة تتحول إلى 29 مليون درهم من الأرباح الإضافية التي تجنيها شركات المحروقات يومياً، أي ما يقارب 877 مليون درهم شهرياً، في فترة لم تشهد فيها القدرة الشرائية للمواطنين أي تحسن يُذكر.
من زبونٍ أبديّ إلى “سمسار” وقود روسي
المثير أن المغرب، الذي فقد قدراته التكريرية بعد إغلاق مصفاة “سامير”، أصبح في المقابل مصدراً للغازوال إلى إسبانيا وأوروبا، حيث بلغت صادراته 123 ألف طن خلال مارس وأبريل 2025، متجاوزة بكثير ما تم تصديره خلال السنوات الأربع السابقة مجتمعة، ويُعتقد، بحسب اليماني، أن جزءاً من هذه الكميات يحمل “بصمة” نفط روسي مخفض السعر، ما يتيح للموزعين تحقيق أرباح مزدوجة: شراء الوقود بأسعار منخفضة ثم بيعه داخليًا بأسعار مرتفعة وإعادة تصدير الفائض بهوامش ربح إضافية.
نموذج مألوف: التحرير يزحف نحو الكهرباء والسكر والخبز
في سياق متصل، يخشى اليماني أن تكون هذه السياسة جزءاً من مخطط أكبر لتحرير أسعار المواد الأساسية الأخرى، كالكهرباء والسكر والدقيق وغاز البوتان، وهي قطاعات تُعتبر شريان الحياة للمواطن المغربي البسيط، ويتساءل بمرارة: هل نحن أمام “تحرير الأسعار” أم أمام “تحرير الأرباح” لصالح لوبيات لا رقيب عليها ولا حسيب؟
ففي الوقت الذي تُسجّل فيه هذه الأرباح الفلكية، نجد أن الدولة تتخلى تدريجياً عن أدوارها الأساسية في قطاعات التعليم والصحة والإدارة، وتُحمل المواطن فاتورة سياسات لا تخدم إلا القلة المحظوظة، فأي نموذج تنموي هذا الذي يُطارد المواطن في رغيفه ودوائه ومحفظة أبنائه ومحطة بنزينه؟
دعوة إلى مراجعة شاملة واستعادة السيطرة على السوق
و في معرض تصريحه دعا اليماني إلى ضرورة إعادة النظر في سياسة تحرير الأسعار، من خلال خطوات عملية تتضمن إعادة تشغيل مصفاة التكرير الوطنية “سامير” لضمان استقلالية السوق وتقليل الاعتماد على واردات الوقود المكرر، وهو ما من شأنه خفض التكاليف بشكل كبير.
كما طالب بتحديد هوامش ربح واضحة ومقيدة للفاعلين في القطاع، مع تعزيز دور الجهات الرقابية لضمان شفافية التسعير ومنع استغلال الفرص لتحقيق أرباح غير مبررة على حساب المستهلك.
التحول الطاقي ضرورة استراتيجية
وفي ظل تزايد تقلبات الأسواق العالمية وعدم الاستقرار السياسي الدولي، يبرز اليماني أهمية تنويع مصادر الطاقة، وتسريع الاستثمارات في الطاقات المتجددة وتقنيات النقل البديل، لتقليل الاعتماد على النفط وتقلباته التي تلقي بثقلها على الاقتصاد الوطني والأسرة المغربية.
أرقام لا تقبل التأويل: دروس من السنوات العشر
منذ تحرير الأسعار في نهاية 2015، وقطاع المحروقات يشهد أرباحًا متصاعدة غير مسبوقة، في وقت تزداد فيه الفوارق الاجتماعية وتتعقد أوضاع المواطن العادي، وقد لا تُعزى هذه الأرباح فقط إلى التغيرات العالمية، بل إلى غياب استراتيجية وطنية واضحة لإدارة هذه الموارد، وفشل في فرض شروط عادلة على الشركات والموزعين.
إن الفهم النقدي لوضع المحروقات في المغرب اليوم يجب أن يدمج بين الأرقام، السياسة، والواقع المعيشي، فلا يمكن الحديث عن تحرير الأسعار بمعزل عن استغلال هذا التحرير في زيادة الفوارق الاجتماعية وتعميق أزمة العدالة الاقتصادية.
في الخلاصة تشكل تصريحات الحسين اليماني إنذارًا جادًا للدولة المغربية ومؤسساتها، من أجل التراجع عن سياسات التحرير العشوائية، وتفعيل دورها الرقابي والاجتماعي للحفاظ على حقوق المواطن وضمان عدالة الأسعار في القطاعات الحيوية، فالخروج من هذا المأزق يتطلب رؤية واضحة لا تخدم فقط أرباح القطاع، بل تحمي الاقتصاد الوطني وتوفر الاستقرار الاجتماعي المطلوب.