
صالح الباشا: حين يغيب الجسد ويبقى الأثر+ فيديو
"رحل صالح الباشا، لكن صوته باق… لأن الجبال لا تموت، بل تنام في القصائد".
أسدل الموت ستاره زوال الأربعاء 16 يوليوز الجاري على حياة أحد أبرز أعمدة الأغنية الأمازيغية التقليدية، الفنان صالح الباشا، الذي وُجد ميتا داخل شقته بجماعة الدراركة ضواحي مدينة أكادير، بعد صراع مع المرض وابتعاده عن الأضواء في أيامه الأخيرة، كما أكّد مقربون منه.
الموت اختاره في عز الانتظار، بينما كان الجمهور يترقّب حضوره في مهرجان العسل بجماعة أقصري، حيث كان من المرتقب أن يحيي سهرة فنية من سهرات المهرجان، لكن المرض كان أسرع، والموت كان أبلغ، فغاب صالح الباشا قبل أن ينشد للمرة الأخيرة، وترك في الحناجر حسرة وفي الذاكرة نغمة لا تنطفئ.
لم يكن صالح الباشا مجرد فنان، بل صوتا من أصوات الأرض، يُشبه الجبل في صمته، ويُشبه الجدات في دفء قصصه، ويُشبه الحقول في خصب كلماته.
من عمق الجنوب المغربي، خرج صوته حاملا نبرة “الروايس”، ومشبعا بروح سوس العتيقة، فصار واحدا من الأسماء التي طبعت الذاكرة الفنية الأمازيغية بطابع الأصالة والتجذّر.
غنى للحب والفقر والأرض، وللحنين الذي لا يخبو في صدور المغاربة، لم تكن أهازيجه مجرد كلمات موزونة، بل كانت حكايات تُروى على إيقاع “الرّباب” و”لوطار”،وتشهد على زمن بسيط وصادق، وعلى مجتمع ما يزال يحتفظ في ذاكرته بصدى الأعراس القديمة ودفء اللقاءات تحت ظلال الزيتون.
كان وفيا لحب لم يكتمل…
من الجوانب الأكثر إنسانية في حياة صالح الباشا، تلك الحكاية التي لم يتحدّث عنها كثيرا، لكنها تسكن خلف معظم أغانيه وحنينه الهادئ.
فقد بقي وفيا لعشقه الأول، وحب شبابه الذي لم يُكتب له أن يكتمل، لكنه ظلّ حاضرا في ذاكرته وصوته وأشعاره.
في زمن صار فيه الوفاء عملة نادرة، اختار الباشا أن يظلّ مخلصا لصورة لم تغب عن قلبه، حتى بعد أن تقادمت السنوات وتبدّلت الأحوال.
رفض الزواج، لا لأنه لا يقدّر مؤسسة الأسرة، بل لأنه لم يستطع أن يبدّل صورة الحبيبة الأولى بأخرى، كما عبّر عن ذلك لبعض مقربيه.
هذا القرار، الذي ربما كلفه وحدة طويلة، لم يكن ضعفا، بل موقفًا صلبا من رجل صدق قلبه كما صدق كلماته، لم يغنّ للحب كموضوع أدبي، بل كتجربة عاشها بكل جوارحه، بكل ما فيها من ألم وحنين، ولهفة لا تنطفئ.
في قصائده المغنّاة، كانت المرأة حاضرة دائما، ليست كرمز أو استعارة، بل كجسد من الذكرى، وظلّ يرافقه من أول نغمة حتى آخر تنهيدة.
وهكذا، لم يكتفي صالح الباشا بكونه فنان، بل كان عاشقا، وظلّ أمينا لحبه حتى النهاية، يردّد بصوته الموجوع ما لم تستطع الحياة أن تحققه له.
شكلت وفاته صدمة قوية في الأوساط الفنية الأمازيغية
في السنوات الأخيرة، ابتعد صالح الباشا عن الأضواء، كما لو أنه اختار أن يموت بصمت، مثلما عاش ببساطة،لكن غيابه لم يكن عاديا، لقد شكلت وفاته صدمة قوية في الأوساط الفنية الأمازيغية، حيث سارع كثيرون من زملائه إلى نعيه بكلمات دامعة، وعلى رأسهم الشاعر الطيب أمكرود، الذي خصه برثاء مؤثر، قال فيه إن “الأرض خسرت واحدًا من أبنائها الذين كانوا يغنون لها، لا عليها”.
كان الباشا يمثل جيلا فنيا متجذرا، لم يتنازل عن لغته ولا عن روحه، ولم تُغرِه أضواء التلفزيون ولا سرعة الشهرة، فاختار أن يظل وفيا لصوته، ولقريته، ولجمهوره البسيط، وللغة التي تعلمها من أمه وجدته. وبذلك، أصبح من أولئك القلائل الذين يشبهون ما يغنونه، لا ما يُراد منهم أن يكونوا عليه.
برحيله، لا تفقد الأغنية الأمازيغية فنان افقط، بل تفقد أسلوب حياة، وشكلا من أشكال الحضور الفني الذي لا يُعوّض.
صالح الباشا لم يكن نجم مهرجانات، بل نجم الذاكرة، والمجالس، وصوت القرى حين تحتفل، وحين تبكي.
اليوم، وهو يرقد في صمت دوار اداوكرض، يبقى صوته يتردّد في الإذاعات والقلوب، حتى وإن حاول البعض طمسها بمحو أغانيه من الأرشيف،فحين عودة أرشيف أغانيه، لن يسمعوا فقط نغمة جميلة، بل سيجدون تاريخا صغيرا مكتوبا بصوت رجل أحب فنه حتى الموت.
أرشيف يُمحى… وصوت يُمنع من الخلود
للاشارة لم يكد يهدأ وقع الخبر الحزين برحيل صالح الباشا، حتى فوجئ محبّوه باختفاء أرشيفه الفني من قناته الرسمية على يوتيوب، أغانيه، وحفلاته، وشهاداته المصورة… كلها توارت عن الأنظار فجأة، كما لو أن هناك من أراد لموته أن يكون صمتًا مزدوجا، صمت الجسد، وصمت الذاكرة.
تحوّلت القناة إلى وضع خاص، وقيل إن من يقف وراء هذا القرار هو مدير أعماله، دون الرجوع إلى عائلته أو إلى جمهوره الذي طالما رافقه في مسيرته الفنية، خطوة وُصفت من قبل فعاليات فنية وثقافية بـ”الطعنة الثانية”إذ أن محو الأرشيف هو محو لحق الوجود الرمزي لفنانٍ كرّس حياته للفن الشعبي والوفاء.
في مجتمع ما زال يتعلّق بالأصوات التي تشبهه، بدا الأمر أشبه بمحاولة لطمس ما لا يُطمس إرث صوتي كان يجب أن يُصان لا أن يُوارى، ووسط مطالبات بإعادة نشر أرشيفه، تحوّل الحذف إلى قضية رأي عام، تسائل من يحمي ذاكرة الفنان بعد رحيله؟ ومن يملك الحق في إسكات صوت لم ينكسر حتى في لحظات المرض والموت؟