ثقافة وفنون

جان بول سارتر بين الإبداع الركحي و الوجود الإنساني 4/1

إهداء إلى المخرج حسن العلوي لمراني في محرابه ديونيزوسي

تقديم

إن التميز الذي أقامه سارتر بين التراث الذي ينتمي إلى الرمز،والأسطورة، و الخيال،والصور، والذاكرة، حيث يحمل وعي يتحرك من منطلق إقامة نظرية المعرفة، لذا فمن اللازم على عدم الفصل بين الإثنين، رغم اختلاف المرجعية، لأن البحث في هذا التراث لا ينبغي أن يتخلى عن هذه اللازمة، ويندفع الى لوازم أخرى، كالبحث في صور هذا التراث بصرف النظر عن صحتها، لأن القراءة القائمة على تنوير المسرح كنشاط مقروء يؤسس عادة على ما تنتجه المعارف من ذكريات وما يؤطرها من رموز, وأساطير.

فقراءة التراث يتجه دوما حسب حسن حنفي بمسار ظاهراتي .لأنه يستند إلى أصول هو هوسرلية, والتي لا تأخذ بالقول ولا بمبدأ المطابقة, بل تحمل رؤية خاصة, و نظرية معرفية مميزة, من هنا أجد نفسي محصورا بين الفيلسوف والأديب, لذا سأعمل على الحفر البنيوي لمعرفة المرجعية التي جعلت الفيلسوف يندمج في ألأديب و الاديب كيف يندمج في معطف الفيلسوف, لأن سارتر إنسان و فيلسوف وأديب ومناضل, وثوري, استمد شرعيته من خلال قراءاته المتعددة, ومن خلال أيضا مجادلاته للمناهج، والتصورات السابقة عنه, لذا اعتمد المسرح كبوابة مفتوحة للمقاومة والإبداع, والمواقف, وجاعلا منه أرضية إنباتيه قادرة على استيعاب الموجود, بلغة درامية لا تركن إلى المألوف, بل تغوص في الممكن المضمر. إذن، كيف قرأ التراث دراميا؟ وماهي المرجعية المعتمدة في هذا الشأن؟

 

إذا كان كل فرد وليد واقعه مساهم في تأطيره، فإن سارتر كأنه رجل المواقف الفلسفية بجانب ألبير كامو، وقد عمل سارتر بمهاجمة المسرح البورجوازي،والملحمي، والعبثي. حيث يتفق مع بريخت في رفض الفكر البورجوازي ومسرح الدعاية لخلق مسافة مع العواطف ومصالح المرحلة الراهنة، لأن المسرح السياسي الذي يعبرعنه هدف سياسي لا يحمل المتفرجين على الفعل كما يقول كمال فهمي ص 92 في كتابه الفلسفة والمسرح.

فالمسرح الفرجوي في بعده التاريخي يأخذ مسافة من الموضوع المطروح من خلال تحوله في الزمان والمكان ويقول في هذا الصدد: إن المتفرج عليه أن يكون في مكانه الاثنوجرافي الذي يعقد بين فلاحي مجتمع متأخر جدا، والذي يظهر في الأخير على أن مايدرسه هو نفسه.

فالمسرح حسب سارتر هو توحد بين الذات والموضوع، وبين مغامرة فردية، لأن بريشت حسب سارتر لم يعالج الموضوع من الداخل بل اعتمد التناقضات الخارجية وليس الصراع الداخلي الذي بناه الفكر البرجوازي لأن مهمة المسرحي هي تحليل التناقضات وتفسير مالا يفسر دون طرح تقريبي. ويقول في هذا المقام إنهيحل مشكلة الذاتية والموضوعية التي طرحتها الماركسية ومن ثم لم يعرف أيضا بفسح غطاء للذاتية في مسرحية كما ينبغي.

الفيلسوف الوجود جان بول سارتر

فالمسرح الدرامي حسب سارتر هو الذي يجعل المتلقي يفهم وجهة نظرالعالم، والإنسان دون استحضار التطهير الأرسطي.

إن مسرح سارتر هو مسرح المواقف وليس مسرح التشاؤم الذي تتغنى البرجوازية في نظره. تشاؤم اللافعل الذي يحاكم كل المحاولات والإمكانيات وأمال الفرد.

وسارتر في هذه الأطروحة يحاول أن يحاكم السائد والمنتشر بين الجماهير لأنهم يلومونه برؤية سطحية دون استعمال العقل ولا النقد الداخلي، بل هدفهم هو استهلاك السائد والانغماس في الغربة والعزلة.

لذا عملت البرجوازية على صناعة مثقفين مسرحيين يوزعون وينشرون الخارج دون معرفة ماهية الشيء. فهذا الموقف هو الذي جعل الانسان يخرج من جلباب البورجوازية ليعرض مواقفه لتكون فيها لحظة الاختيارهي الأكثر تأثيرا، وينبغي ان تكون هذه المواقف معروفة لدى المتفرج أي متعلقة بمواقف قصوى تختبر فيها حرية الأنسان كمشكل للغاية وللوسائل المشروعة العنف. ولنتائج الفعل، علاقة الشخص بالجماعة فسارت تقربنا باندماج جديد لايقاس بالذات، ولا بالحركة بل بالمواقف المتصارعةبين بني البشر، وأن هذه الحياة هي المسرحالذي يمدنا بالاختبارات في اتخاذالمواقف، فهذه المواقف هي المقيدة، تدفع الأبطال إلى اكتشاف أنفسهم كل مرة، حتى يصبح فعل الموقف موضوعا للتفكير كما يقول في كتابه “ما الأدب”، فالمسرح حسب سارتر هو الذي يقوم فيه الإنسان بعرض مشاكله وما على المشاهد إلا المشاركة في هذا الاختبارالتمسرحي، وهذه هي “الحرية الإنسانية” التي تؤخذ دائما في ظرف وموقف.

إن سارتر يقربنا من دائرة الموقف والحدث،والتناقض، دون الانغماس في الطابع السيكولوجي، بل ينبغي الانخراط في الكون الذي يعيش فيه الإنسان، ويكون الفعل ألأخلاقي والإلزامي هوالقاسم المشترك بين الناس. فهذه القراءة على اختلاف مشاربها وعلى اختلاف النظريات التي استعرضها سارتر تتمحور حول قضيتين أساسيتين هما:

قضية الموقف وقضية الحرية وعبرهما تتواجد الذاتية والموضوعية سواء في تحقيق التكامل المسرحي أم في تحقيق دلالته أو موضوعه الجمالي، فهل يمتلك مسرح المواقف وجوده المتحقق دون تدخل الذات المبدعة أو المخرجة؟ وهل يمتلك هذا المسرح هوية أو ماهية أنطولوجية؟ إن الذات المسرحية تدرك كنهها (كماهي) دون أن تكون انعكاسا أو نتيجة لفعل الممثل الممارس. فالمعنى ليس معطى بل موجود ومشكل في الوجود ويجب اكتشافه واستخراجه وتوصيله إلى الآخرين.

فالذات المدركة هي التي تبنيه من خلال المعطيات والمواقف، لأنه ليس معطى وليس محددا سلفابأي حال من الأحوال داخل الماهية، فهذه الحركات لا تغير أبداالواقع الموضوعي للعالم، فهي ليست أفعالا ما دام الفعل يعرف بالتأثير على تغيير العالم، إن الممثل بكل مأ أوتي من مهارة جسدية. لابد له أن يمسرحها على الخشبة بواسطة حركات وإيحاءات. فهذه الحركات كما ذكرت لا تغيرالواقع الموضوعي. وهذا ما نراه في مسرحية كين أو الفوضى والعبقرية،وسجناءالتونا، فالممثل بما أوتي من خيال وصناعة فنية فلابد أن يتمرد على ذاتيته وعلى المؤلف. وأن يعكس وعي الممثل لذاته وواقعه وتمزقه، ورغبته الأكيدة في أن نعترف به كإنسان حر. فهذا ألأخير هو الموجود لذاته لكنه موجود للغير،لأن علاقته بالغير هي علاقة أساسية وجوهرية.

مادام وجوده الفعلي مقترن بوجود الغير.فظهور الآخر هو موجود لذاته وهو يكشف لنا مباشرة من خلال التجربة الذاتية التي تنظر إلى العالم، برؤية مفتوحة وغير متناهية. فسارتردوما يضعنا أمام رؤى فلسفية متنوعة ومختلفة.فحضور هذه الأنا / أمام الأخر هو سقوط الأصلي، وهذا الوجود للغير من حيث هو انهيار وتلاشي وسقوط وجحيم. فلا يعني الانهزام لهذا الإنسان، بل هو اختيار وخلق لفعله وحريته. وقادر على خلق قيمة دون الحاجة إلى الأخر. وهذا ماتراه في مسرحية الذباب  فالعدالة هي من شؤون البشر وليس في حاجة إلى إلاه يقتلني. ذلك، ونظرا للأهمية القصوى لتخصيص حيزا كبيرايقربنا منه صناعة الوعي بذواتنا وتاريخنا. وبناء ما يميزذواتنا وتاريخنا، وبناء ما يميز ذواتنا عن الأخرين أيضا.

لذا وجدت مختلف الثورات المعرفية و العلمية مقترحات في الفن لتشكل لنفسها رؤية جمالية لا تعتمد أسطورة التمثل, بل لتتمدد الى المحسوس والملموس. لذا انتقد أصحاب فلسفة الاختلاف والطابع الاختزالي للمعرفة الفلسفية وأنساقها. عارضين براعتهم الفكرية و العقلية و التي تنم عن قوة إبداعية. لذا كانت الصورة مرتبطة بالمعنى الشمولي.

فداخل أنساقها تم اختزال المتعدد والمخفي، والمضمر في شكل معنى واحد بدون فهم هذا الالتباس الجمالي. فرغم هذه النظرة السفسطائية فإنها وضعت الخيال والحقيقة في ميزان الأخلاق والعواطف، ولم تعر أي اهتمام يذكر لهذيان الصورة وتموجاتهاالاختبارية. فالصورة تتكون تبعا لسنة التمثل وقانون الفكر، والعقل ثم، قانون الفهم أيضا والتفسير، والتأويل. فالعقل هو المقياس الذي به نقيس الوجود وبه نسعى ونشقى بإلغاء الأحلام والمحظورات وكل أنواع الجنون حسب تعبير أفلاطون.

فالصورة حسب أفلاطون تبقى مثالية ومغرية، لأنها تمثل برهنة عقلانية لا ترتبط بالمادي ولكن هي تمرد على الأقوال وعلى التأويلات. فأساسها ينبني على العملية التخطيطية المتنوعة والخاضعة للعب.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى