الرئسيةثقافة وفنوندابا tv

الباباوان”: تمثيل السلطة الدينية وتحولات اللاهوت في سينما ما بعد الحداثة

بقلم الكاتب والإعلامي عبدالعزيز كوكاس

فيلم “البوابوان”The Two Popes للكاتب أنطوني مكارتن والمخرج البرازيلي فرناندو ميريليس صاحب الفيلم الرائع “مدينة الله”(City of God) الشهير، مستوحى من أحداث حقيقية عرفتها الكنيسة الرومانية الكاثوليكية حيث واجهت القيادة الكهنوتية في العقود الأخيرة من القرن الماضي، أسئلة عميقة فرضت عليها ضرورة التكيف مع التوقعات الجديدة، “لا يمكن الاستخفاف بالتغيير أبدا، إنه مكلف كلما كان عميقا، لكنه ضروري لاستمرار الحياة”.

هذه هي الخلاصة المركزية للفيلم/التحفة الذي تدور قصته حول الكاردينال خورخي بيرغوليو (الذي أدى دوره ببراعة لا تضاهى الممثل جوناثان برايس)، والبابا بنديكتوس السادس عشر (الذي تماهى معه الممثل المقتدر أنطوني هوبكنز). يتخلله حوار عميق حول الحياة والحب والفن والرياضة والحياة، وحول مطاردة الماضي للحاضر، نظرتان كانتا في بداية الفيلم متباعدتين، بحكم اختلافات الكاردينال والبابا الأيديولوجية والمزاجية، قدم أحدهما من الأرجنتين حيث كان لاهوت التحرير زمن الديكتاتوريات العسكرية، و قادم البابا من ألمانيا، من قلب الكنيسة الأوربية بتقاليدها المحافظة وطقوسها الإمبراطورية الباذخة.

يقدّم فيلم الباباوان أكثر من مجرد سرد لسيرة بابوية، إنه عمل سينمائي تأملي، يغوص في أعمق تناقضات الكنيسة الكاثوليكية، ويفتح أبواب الأسئلة حول: السلطة، الإيمان والندم. لا يتوقف الفيلم عند السطح السياسي أو اللاهوتي، بل يذهب إلى تخوم الفلسفة الوجودية، متسائلًا: ماذا يعني أن تتحدث باسم الله بينما تتصارع داخلك الشكوك والذنب والحنين إلى الإنسان البسيط الذي كنت عليه؟

ومن حيث تحليل التمثلات السينمائية للسلطة الدينية في سياق التحولات الكونية المعاصرة. يشكّل فيلم الباباوان (2019) لحظة فنية دالة، تستدعي قراءة متعددة المستويات، نظرًا لكونه لا يكتفي بتجسيد لقاء تاريخي بين باباوين، بل يغوص في أعماق الإشكالات اللاهوتية والوجودية للكنيسة الكاثوليكية في زمن الأزمات، ويعيد مساءلة مفهوم القداسة ذاته من داخل المنظومة العقائدية. كيف يعيد فيلم الباباوان تمثيل العلاقة بين السلطة الروحية والاعتراف البشري داخل المؤسسة الدينية الكاثوليكية؟ وما موقع هذا العمل في تجديد السينما الدينية وتفكيكها لمفاهيم اللاهوت، الذنب، والتوبة، في ضوء تحولات ما بعد الحداثة؟

نسعى هنا عبر مقاربة بنية الخطاب البصري/الحواري في الفيلم، إلى رصد اشتغال الرموز والأيقونات الدينية والأنماط السردية لتوليد الدلالة، مع ربطها بالتحولات الثقافية والاجتماعية التي تعرفها المؤسسة البابوية في القرن الحادي والعشرين.

الثنائيات البصرية والتكوينية: المحافظ والتقدمي

تقوم البنية السردية للفيلم على جدلية ثنائية بين شخصيتين هما البابا بنديكتوس السادس عشر (أنطوني هوبكنز) والكاردينال خورخي ماريو برغوليو، الذي سيصبح البابا فرنسيس (جوناثان برايس). بنديكتوس يمثل التيار المحافظ، اللاهوتي المنغلق على التقليد، شديد التمسك بالنص والتراتبية، بينما برغوليو هو صوت الشعب، الكاهن اليسوعي الذي عرف الحارات الفقيرة والألم الاجتماعي، ينبثق من قلب التجربة اللاتينية ويستند إلى اللاهوت التحريري، ويحمل قلبًا نابضًا بالرغبة في التجديد.

هذا التقابل في البناء الدرامي يتجاوز الطابع الشخصي ليصير تمثيلًا سيميائيًا لصراع تيارين داخل الكنيسة، يظهر هذا الصراع في عدة مستويات: الأزياء، طقوس الصلاة، اللغة الجسدية، وحتى في الموسيقى التي تستحضر الباخ الأوروبي في مقابل أنغام لاتينية شعبية. وقد استعان المخرج بذكاء بصري في اختيار مواقع التصوير

https://www.youtube.com/watch?v=qXUkNXdJle4

(الكنائس، الحدائق، غرفة الكرسي الرسولي) لتُجسّد جدلية توتر داخلي يحكم الذات البابوية ذاتها. لكن المخرج لا يسقط في فخ الاختزال الأخلاقي. لا يجعل من بنديكتوس عدوًا جامدًا، ولا من فرنسيس منقذًا نبيلاً. بل يكشف، بنعومة سينمائية وعمق إنساني، كيف أن كل شخصية تحمل جراحها، مخاوفها، وعقدها الأخلاقية. وبين الأسوار الرخامية للفاتيكان، وفي ساحة سيستينا المهيبة، يدور حوار أشبه بالاعتراف الكبير، حيث يتبادل الرجلان ليس فقط الآراء بل الضعف البشري.

لقد شكلت النقاشات اللاهوتية التي تنبع من سيناريو محبوك ببراعة، حركة دفع لأحداث الفيلم التي تدور في قلب الكنيسة ويقوم الفيدباك باطلاعنا على سيرة الكاردينال حيث يحتد الجدل بين القادة اللاهوتيين حول مستقبل الدين المسيحي في القرن الحادي والعشرين. تلك النقاشات الواقعية لها عواقب تتجاوز بكثير منطقة الفاتيكان المنعزلة، حيث أن قرارات الكنيسة بشأن قضايا مثل العزوبة بين الكهنة ودور المرأة في الكنيسة لها تداعيات على حياة أكثر من مليار كاثوليكي.

ثنائية الحاضر والماضي: صراع الأجيال أم لقاء القيم؟

يصور البابا فرانسيس رئيس أساقفة بوينس آيرس سابقًا، خورخي ماريو بيرغوليو، في الفيلم على أنه رجل تقدمي قوي الإرادة، ورجل أكثر طلاقة في إلقاء الخطب في الهواء الطلق والعمل على دعم مشاريع للفقراء.. أكثر رفضا لطقوس الفاتيكان الرسمية الثقيلة. إنه كاهن يسوعي من الأرجنتين، أحرز تقدما سريعا في صفوف الرهبنة الكاثوليكية. في عام 1973، أصبح رئيسا لليسوعيين في الأرجنتين وأوروغواي المجاورة وهو في سن 36 فقط. ولكن خلال فترة ولايته، فقد القس الشاب حظوته داخل المجموعة. بصفته زعيما دينيا بارزًا، حيث واجه اتهامات بالتواطؤ في “الحرب القذرة” في الأرجنتين التي وقعت بين عامي 1976 و1983، ونفذتها الدكتاتورية العسكرية في البلاد، حيث فشل في الدفاع عن اثنين من الكهنة الذين اختطفهم النظام.

في عام 1990، جُرد بيرغوليو من مسؤولياته القيادية وأُرسل إلى قرطبة في وسط الأرجنتين، حيث أمضى عامين فيما وصفه لاحقا بأنه “مرحلة أزمة داخلية كبيرة”. عندما عاد، كان كقائد جديد بمنظور مستمد من تفاعلاته مع فقراء تلك المدينة. ومع صعود بيرغوليو مرة أخرى داخل القيادة الكاثوليكية الأرجنتينية، تبنى العديد من المواقف الليبرالية بشأن دور الكنيسة في مكافحة الفقر وعدم المساواة..

لعب الساحر أنطوني هوبكنز دور البابا بنديكتوس السادس عشر، وأبان عن عبقرية استثنائية في تجسيد رئيس الكنيسة الكاثوليكية من 2005 إلى 2013، حيث يبرز كزعيم روحي صارم رأى أن العودة إلى المبادئ هي أفضل مسار لكنيسة تكافح في قلب متغيرات عولمة القرن الحادي والعشرين. وعلى الرغم من أنه كان معروفا بنهجه التقدمي المنفتح لسنوات، إلا أنه أصبح أكثر تحفظا مع تقدمه في العمر. منذ أصبح مراقبا لاهوتيا للفاتيكان تحت حكم البابا يوحنا بولس الثاني.

التقى بيرغوليو وبنديكتوس السادس عشر في ظل ظروف غير مسبوقة، حيث سافر بيرغوليو إلى روما من أجل طلب الإذن بالتقاعد، لكن البابا رفضه وأخبره لاحقا بخططه الخاصة للتنحي.

مع تأزم عقدة الدراما، ينفتح الفيلم على نافذة رائعة من المناقشات بين زعيمين دينيين متعارضين أيديولوجيا. تستند محادثات الفيلم بين بنديكتوس السادس عشر وفرانسيس إلى مواقفهما المعلنة من الخطب والكتابات.

إنها نوع من التخمين وإذكاء الخيال من جانب صانعي الفيلم، نقاش حاول الكاتب والمخرج ملء فجوة تاريخية غير معروفة. وقد صرح مكارتن لصحيفة Wrap : “ما نفعله دائما إزاء فراغ الحقائق التاريخية هو أن نتكهن، آمل أن تكون التكهنات مبنية على الحقائق، ونأمل أن تكون ملهمة”.

سردية الاعتراف والإنسانوية المسيحية

تُمثل مشاهد الاعتراف المتبادل قلب العمل الدرامي. وتعيد هذه المشاهد تمثيل مفهوم “التوبة البابوية” الذي يُعدّ خرقًا ضمنيًا للمفهوم الكلاسيكي للعصمة، حيث يتجرد القائد الروحي من سلطته مؤقتًا، ليصير فردًا يعترف بأخطائه (برغوليو في زمن الديكتاتورية الأرجنتينية، بنديكتوس في صمته على فضائح الاعتداء الجنسي).
الاعتراف هنا ليس فقط تقنية درامية، بل هو تجلي لمفهوم ما بعد حداثي للقداسة، حيث يُعاد إنتاج الإيمان من خلال الشك، والتطهر من خلال الاعتراف بالضعف. يشتغل الفيلم على تقويض صورة “الرجل الإلهي” لصالح صورة “الرجل المتأله” الذي لا يزال يخوض تجربة الصراع الداخلي.

جمالية الحوارات: اللاهوت بلسان درامي

أبرز ما في فيلم “الباباوان” هو اعتماده شبه الكلي على الحوار. لكنه ليس حوارًا خطابيًا بل نسيج حيّ من الأصوات الداخلية والمواقف الأخلاقية. تتصاعد التوترات عبر الحديث لا عبر الحدث، يتم توظيف الحوار كوسيلة سردية محورية، إذ يتأسس على دراما المحادثة اللاهوتية – الفكرية لا على الحركية التقليدية. ورغم ذلك، ينجح في شد المتلقي من خلال ما يسميه بعض النقاد بـ”السينما التأملية”.

وتُبنى الذروة من خلال التدرج في الاعتراف والانفتاح. لا تتكلف الكاميرا بل تخدم هذه البساطة المتعالية عبر لقطات حميمية، إضاءة دافئة وزوايا تصوير تضغط على الوجوه في لحظات التأمل أو الانكسار. يلجأ الإخراج إلى كادرات قريبة، زوايا منخفضة أو مائلة، مما يضفي عمقًا نفسيًا على النقاشات التي تنقلب إلى اعترافات ثم إلى لحظات تصالح تتجاوز السرد وتلامس البُعد الفلسفي.

تشتغل اللغة السينمائية هنا كخادم صامت للفكرة، وتتحول الموسيقى إلى جسر بين المتخالفين. من الباخ الكلاسيكي إلى أغاني “آبا”، يستخدم المخرج الموسيقى كلغة ثانية للتعبير عن المسافة بين الروح المحافظة والروح الشعبية.

الذنب والتوبة: سردية بشرية داخل القداسة

يصل الفيلم إلى ذروته الأخلاقية عندما يعترف برغوليو بندمه عن صمته إبان ديكتاتورية الأرجنتين. المشهد ليس مجرد بوح، بل لحظة تجريد من السلطة، توازي اللحظة التي يعلن فيها بنديكتوس نيته التخلي عن العرش البابوي. في كلا الموقفين، ثمة انحناء للذات، واعتراف بعجز الإنسان حتى وهو في قمة الهرم الديني. هذه السردية تفكك الصورة الكاريكاتورية لرجل الدين، وتعيد له ملامح الإنسان القلق، الباحث عن الخلاص الشخصي لا الهيمنة. يطرح فيلم “الباباوان” ضمنيًا سؤالًا كبيرًا: هل يمكن لرجل الدين أن يكون قديسًا وهو يحمل أوزار التاريخ؟ وهل تعني القداسة النقاء المطلق أم الشجاعة في الاعتراف بالخطأ؟

سينما اللايقين: تجاوز الوثائقي نحو الدراما الفلسفية

رغم أن الفيلم يستند إلى وقائع حقيقية، إلا أن ميريليس يتجاوز الإطار الوثائقي نحو عمل درامي تأملي. لا يهم إن كانت بعض الحوارات خيالية، ما يهم هو الحقيقة الداخلية التي يُضيئها العمل: ذلك القلق الوجودي في قلب المؤسسة، وتلك الحاجة المستمرة للمصالحة مع الذات ومع الآخر.

ليست الكنيسة في “الباباوان” مجرد سلطة دينية بل فضاء للجدل الفكري وساحة للصراع بين الجمود والتجدد، بين المتحف الحي والمصلّى المفتوح. ومع كل لحظة حوار، يقترب المشاهد من سؤال شخصي: من البابا في داخلي؟ أيّ جانب يغلب: الملتزم بالتقاليد أم المنفتح على الشك؟

رغم طابع الفيلم الروحي، فإنه لا يُقصي البُعد السياسي. من خلال استعادة خلفية الديكتاتورية العسكرية في الأرجنتين وفضائح الاعتداءات داخل الكنيسة، يفتح الفيلم بابًا لتساؤلات حول العلاقة بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية، وحدود صمت الكنيسة أمام الجريمة.

يتقاطع الفيلم بذلك مع دراسات ما بعد الاستعمار، ويعيد مساءلة تواطؤ المؤسسة مع الأنظمة، بل ويفضح التوتر القائم بين رسالة الإنجيل كدعوة للتحرر، وممارسات الكنيسة التي تورطت تاريخيًا في أشكال من الهيمنة.

قداسة بلا عصمة

لا ينتهي الفيلم بانتصار أحد بل بلقاء رجلين لا يشبه أحدهما الآخر، لكنهما يشتركان في الرغبة في الفهم، وفي حمل عبء الكرسي الرسولي بتواضع نادر. إنها قداسة بلا عصمة، تلك التي يقدمها “الباباوان”، وقد تكون هذه هي أجمل ما في الفيلم: إيمانه بأن اللاهوت لا يسكن النصوص فقط بل القلوب المكسورة التي تجرؤ على القول: لقد أخطأت، فاغفر لي.

ينتهي “الباباوان” بملاحظة كوميدية هي بداية إعلان التغيير داخل الكنيسة، حيث يأكل فرانسيس وبنديكتوس السادس عشر البيتزا أثناء مشاهدتهما مباراة لكأس العالم، حيث حاول الأول إقناع الأخير بمتعة مشاهدة الرياضة. كان الحادث أكثر ملاءمة من السرد الفيلمي وليس مع التاريخ الحقيقي. لأن البابا بنديكتوس لم يكن يحب كرة القدم، بل كان يحب الفورمولا 1″. وسيختتم اللقاء بين الباباوين بلقطة ميلودرامية هي رقصة التانغو الأخيرة في لحظة الوداع، والتي تشكل زمردة تاج الفيلم، إن التغيير دوما يجب أن يكون سلسا، ثقافيا وفنيا حتى فيما يرتبط بكنيسة تسهر على الأمن الروحي لأكثر من مليار مسيحي.

يشكّل “الباباوان” علامة فارقة في تاريخ السينما الروحية المعاصرة، حيث يجمع بين جمالية بصرية متقشفة وحمولة فكرية ثقيلة، ليعيد صياغة مفهوم البابوية في زمن تتطلب فيه السلطة الروحية أن تعترف بإنسانيتها. إنه فيلم لا يسعى إلى تقديم إجابات عقائدية، بل إلى تحفيز تساؤل وجودي: هل يمكن للإنسان أن يكون متدينًا وقلقًا في آن؟ وهل يستطيع البابا أن يغدو رسولًا للشك دون أن يفقد رسالته؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى