
بقلم بثينة المكودي
في قلب سوس، تمتد غابات الأركان مثل درع أخضر يروي حكاية قرون من التعايش بين الإنسان والطبيعة، لكن هذه الحكاية لم تعد كما كانت؛ إذ أن أشجار الأركان، التي صمدت في وجه الجفاف وحرارة الصحراء لآلاف السنين، تواجه اليوم تهديدا غير مسبوق؛ الطلب العالمي المتزايد على “الذهب السائل” والجفاف الذي يشتد عام بعد عام.
زيت الأركان… من تقليد محلي إلى سلعة عالمية
قبل عقود، كان زيت الأركان منتج منزلي بسيط، تستعمله النساء الأمازيغيات في مطابخهن وطقوس التجميل التقليدية، ليتحوّل اليوم هذا الزيت إلى مكون رئيسي في مستحضرات التجميل العالمية، وصار الطلب عليه يتضاعف مع كل حملة إعلانية لشركات كبرى، من باريس إلى نيويورك.
لكن هذا النجاح التجاري له ثمن بيئي باهظ؛ فمساحات الغابات الطبيعية تنكمش، وأشجار هرِمة تُستنزف بوتيرة أسرع من قدرتها على التجدد، فيما يُضاف الرعي الجائر واقتلاع الأشجار لأغراض التوسع الزراعي إلى لائحة الأسباب.
جفاف ينهك “الشجرة العجيبة”
إذا كان الأركان معروف بقدرته على مقاومة الظروف القاسية، فإن الواقع الجديد يتجاوز حدود صموده، حيث سنوات الجفاف المتكررة وانخفاض معدلات التساقطات أدت إلى ضعف نمو الأشجار، وتراجع قدرتها على إنتاج الثمار.
وجدير بالذكر انه في بعض المناطق، تحولت الغابات إلى مساحات شبه قاحلة، وفقدت التربة غطاءها الطبيعي، ما يهدد بانجرافها وفقدان التنوع البيولوجي.
سكان المنطقة… بين إرث مهدد وحلم الدخل
نساء القرى اللواتي كنّ حارسات لهذه الثروة يجدن أنفسهن في مفارقة مؤلمة؛ ارتفاع الطلب رفع من قيمة الزيت، لكنه لم يترجم بالضرورة إلى تحسن ملموس في مستوى عيشهن. التعاونيات التي أنشئت لتأمين دخل كريم تواجه عراقيل التسويق وهيمنة الوسطاء، فيما تظل الأرباح الكبرى في يد شركات التصدير.
“إذا فقدنا هذه الشجرة، سنفقد جزءًا من هويتنا”، تقول فاطمة، إحدى العاملات في تعاونية بسوس، وهي تواصل طحن حبات الأركان في مطحنتها الحجرية، متسائلة إن كان الجيل المقبل سيعرف هذه الحرفة كما عرفها أجدادها.
سياسات إنقاذ… هل تكفي؟
المغرب أطلق خلال السنوات الأخيرة برامج لإعادة تشجير الأركان وتوسيع مساحاته، بل وتبنّى يومًا عالميًا للأركان للتذكير بأهميته البيئية والثقافية. لكن الجهود تصطدم بعقبات: الجفاف مستمر، وضغط السوق لا يتراجع، وأنظمة التدبير التقليدية تآكلت تحت وطأة التحولات الاقتصادية.
خبراء البيئة يدقون ناقوس الخطر: حماية الأركان لا تعني فقط زراعة الأشجار، بل إعادة الاعتبار للمنظومة المتكاملة التي حافظت عليه لقرون، من تنظيم الرعي إلى إشراك السكان في القرار.
بين عطش الأرض وجشع السوق، يقف الأركان على حافة الخطر، وإنقاذه اليوم ليس ترفا بيئي، بل ضرورة لحماية تراث إنساني ومصدر رزق لآلاف الأسر، والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو