الرئسيةسياسة

بيكودين/تارودانت.. قرية تُعالج بالصبر بدل الدواء

تحرير: جيهان مشكور

في أعالي إقليم تارودانت، حيث الزمن يمر ببطء والأمل يتبخر بسرعة، تعيش ساكنة جماعة بيكودين فصلاً جديداً من مسلسل الإهمال الصحي.. فالمركز الصحي المحلي، الذي يفترض أن يكون ملاذاً للمرضى، تحوّل إلى بناية صامتة، أبوابه تُفتح وتُغلق كما تشاء الإدارة، بينما الطبيب، الذي يفترض أن يكون قلب هذا المرفق، صار شبحاً نادراً ما يظهر.

النتيجة واضحة: سكان يعيشون على أعصابهم، وأجساد تتألم بصمت، ومرضى يضطرون لقطع عشرات الكيلومترات لمجرد قياس ضغط دم أو تلقي حقنة.

المجتمع المدني يصرخ.. والآذان الرسمية صماء

ليست المرة الأولى التي يطرق فيها المجتمع المدني أبواب المسؤولين.. فالجمعيات المحلية رفعت مراسلات متعددة إلى مندوبية الصحة بتارودانت، تطالب بما يبدو بديهياً: فتح المركز الصحي بشكل منتظم وتوفير طبيب دائم، غير أن هذه المراسلات، مثل كثير من مثيلاتها في مناطق المغرب العميق، غالباً ما تضاف إلى أرشيف البيروقراطية، لتصبح مجرد وثائق منسية بدل أن تكون ناقوس خطر.

اقرأ أيضا…

في مواجهة حراك المستشفيات وزارة الداخلية تشهر ورقة المنع والتوقيف

رحلة علاج أقسى من المرض

إغلاق المركز الصحي في بيكودين لا يعني فقط غياب خدمة، بل يفرض على المرضى، خصوصاً الفئات الهشة، رحلة عذاب يومية. فالمريض البسيط يجد نفسه مضطراً للتنقل إلى مستشفى القرب بأولاد تايمة أو إلى المستشفى الإقليمي المختار السوسي في تارودانت، وربما أبعد إلى أكادير حيث المستشفى الجهوي الحسن الثاني.. و هذه التنقلات ليست مجرد مسافات، بل هي مصاريف نقل وعلاج، تثقل كاهل الأسر التي تعيش أصلاً على الهامش الاقتصادي، في بلد تشير فيه أرقام المندوبية السامية للتخطيط إلى أن أكثر من 30% من سكان الوسط القروي يعيشون تحت وطأة الهشاشة والفقر.

الأرقام تفضح الواقع الصحي

المغرب، الذي ينفق حوالي 6% من ناتجه الداخلي الخام على الصحة، ما يزال بعيداً عن المعايير العالمية التي توصي بها منظمة الصحة العالمية (10%)، عدد الأطباء لا يتجاوز 2.3 طبيب لكل 10 آلاف نسمة، أي أقل من نصف المعدل المطلوب، وفي القرى، مثل بيكودين، يتحول هذا الخصاص إلى كارثة يومية، حيث يغيب الطبيب وتبقى قاعة الانتظار خاوية، فيما ينتظر المرضى قدرهم.

الدستور يضمن.. والواقع ينكر

الدستور المغربي واضح في فصله 31، إذ يضمن للمواطنين الحق في العلاج والحماية الصحية، لكن بين النص والواقع فجوة بحجم وادٍ عميق.. ساكنة بيكودين تعرف هذا جيداً: ما قيمة نص دستوري جميل إذا كان الوصول إلى دواء بسيط يتطلب رحلة مرهقة قد تكلف حياة مريض في حالة مستعجلة؟ هنا يصبح الحق في الصحة مجرد شعار معلّق على الجدران، بينما الممارسة تفضح التناقض.

السياسة الصحية بين الوعود والخيبات

في هذا السياق، تتحدث الحكومة عن برامج إصلاح المنظومة الصحية، وتعد بزيادة الاستثمارات في البنيات التحتية وتعزيز الموارد البشرية، لكن سكان بيكودين لا يرون سوى مركز مغلق، ووعود لا تُسعف مريضاً في لحظة أزمة.. فما جدوى “الجيل الجديد من المراكز الصحية” الذي تتحدث عنه الوزارة إذا كان المركز الحالي بلا طبيب، وبلا روح؟

سخرية الواقع.. حين يصبح الصبر هو العلاج

قد يبدو الأمر أشبه بمفارقة سوداء: في بيكودين، العلاج الأساسي ليس دواءً ولا فحصاً، بل الصبر.. الصبر على الألم، على البعد، على الإهمال. الصبر الذي صار هو الوصفة الطبية الوحيدة المتاحة بالمجان، في بلد يفاخر بتجربة التغطية الصحية الشاملة.

سؤال مفتوح بلا جواب

قصة بيكودين ليست حالة معزولة، بل صورة مصغّرة عن أزمة وطنية أعمق.. أزمة تكشف أن الحديث عن “عدالة مالية” في الخدمات الصحية لا يتجاوز الورق، في انتظار أن تتحرك الجهات المسؤولة، تبقى ساكنة بيكودين شاهداً صامتاً على مفارقة صارخة: دولة تعد بتقريب الصحة من المواطن، لكنها في الواقع تبعدها عنه أكثر فأكثر.

فمن يعيد الاعتبار لصحة الناس؟ ومن يضمن أن لا يموت المواطن المغربي في الطريق إلى مستشفى، فقط لأنه وُلد في قرية نائية؟ أسئلة معلقة، والإجابات مؤجلة، تماماً كما الطبيب الغائب.

اقرأ أيضا…

خريطة الاحتجاج تفضح واقعا بئيسا و تصفع الأرقام المخدومة المعلنة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى