الرئسيةرأي/ كرونيك

المؤرخ المغربي بوعزيز: إلى شباب جيل Z بكل محبة وخارج أية وصاية..تحية سبعينية

لما بدأت أَهتمُّ بالشأن العام سنة 1971، لم يكن عمري قد بلغ بعدُ عشرين سنة.

المؤرخ مصطفى بوعزيز

كنتُ مثلكم مفعمًا بحيوية متجددة، ومثلكم كنتُ حاملًا حلمًا يتسع لكل آمال الشعب المغربي، ومثلكم أيضًا كنت أندِّد بالاستبداد والقمع واللامساواة، وبالامتيازات الممنوحة بسخاءٍ لمجموعة من عملاء الاستعمار سابقًا، ولِمَجموعةٍ من خُدّام الاستبداد بعد «المغربة» وتوزيع الأراضي الفلاحية إثر رحيل المعمّرين الفرنسيين والإسبان.

إن قضايا التعليم والصحة والشغل والحريات ليست وليدة اليوم، بل لها جذور في الماضي القريب المغربي. صحيحٌ أنها استفحلت وتعفّنت، ورائحتها لا تزكم أنوف المغاربة فقط، بل أنوف الإنسانية جمعاء…

أحيّيكم اليوم لأنكم ترفعون المشعل الذي رفعه من قبلكم بالتوالي شبابُ الستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، وشبابُ العقدين الأولين من الألفية الثالثة، خصوصًا شباب 20 فبراير وشباب الريف.

أحيّيكم لأنكم تثبتون من جديد أن الشعب المغربي ليس عاقرًا، وأن الأمل في الانتقال إلى مجتمعٍ منتِجٍ ديمقراطيٍّ حداثيٍّ عادلٍ ومتَكافئٍ لا يزال متّقدًا بالرغم من تفشّي الزبونية والفساد.

تساؤلات مؤرّخ ومناضل

أودّ، أيها الشباب العشريني، أن أتقاسم معكم بعض الأسئلة التي تراكمت لديّ خلال حياتي المدنية كمناضل يساري، وحياتي المهنية كمؤرخٍ للحركات الاجتماعية في المغرب منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى اليوم:

1. لماذا استمرّت، خلال ما يفوق سبعين سنة، الإشكالية المقابلة بين «مغرب الامتيازات والتحكّم السلطوي» و«مغرب المحرومين والمستغَلّين والمهمّشين والمقموعين»؟ ولماذا ظلّت قضايا التعليم والصحة والحريات مطالب جوهرية للشعب المغربي؟

2. لماذا تباينت مواقف وممارسات القوى التي تمثّل الشعب بهذا القدر أو ذاك تجاه القضايا الجوهرية، ولم تعمل بشكلٍ وحدويّ إلا نادرًا خلال ظرفيات استثنائية، كأقواسٍ تُفتح وتُغلق تاركةً مرارةً توحي بأن بلورة المشترك غريبة عن الذهنيات المغربية؟

3. ولماذا ينحو كل جيلٍ شبابيٍّ عند انطلاق فورته وديناميّته الاحتجاجية إلى التنكيل بالأجيال السابقة وتجاهل تضحياتها وعطاءاتها؟

حول طبيعة النظام واختيارات الدولة

يبدو لي أولًا أن الإنتلجنسيا المغربية، بتنوّع مشاربها الأيديولوجية، لا تُعطي الأهمية القصوى لمسألة الاختيارات الكبرى للدولة المغربية، ولا تسائل بعمق من المسؤول عنها. فهي غالبًا ما تكتفي بمناقشة السياسات العمومية والمكلّفين بتطبيقها.

منذ أن خرج المغرب من الحماية الفرنسية والإسبانية، انطلق صراع حول طبيعة الدولة الوطنية التي يجب بناؤها. وانتصر التوجه المحافظ للملكية المغربية، المؤسس على سموّ الشرعية الملكية فوق كل الشرعيات الأخرى، وعلى الحكم المطلق للملك، وعلى الزبونية كأسلوبٍ لخلق قاعدةٍ اجتماعيةٍ للسلطة، وعلى الارتباط العضوي بالليبرالية الغربية والتبعية لها.

هذه الاختيارات الكبرى لم تتغيّر خلال سبعين سنة إلا جزئيًا، ويمكن تلخيص صيغتها الحالية فيما يسمى بـ«المخطط التنموي الجديد» الذي يقوم على أربعة محاور أساسية:

1. الدولة القوية: أي الارتكاز على القوة الأمنية والإدارية وإعطاء الأولوية للمراقبة والإخضاع عبر جهازي الأمن والقضاء، المسبوقين بالتعليمات، وخارج القانون المعلن.

2. العمودية كحكامة: أي تقليص دائرة المبلورين للتوجهات الكبرى، ورفض أي حوار حولها، مع تنفيذها دون نقاش أو تشاور.

3. مركزية القطاع الخاص: رغم محدودية فعله الاقتصادي واعتماده الدائم على الدولة، يهدف النموذج التنموي الجديد إلى تفويت تدريجي للقطاع العام عبر ما يسمى بـ«الشراكة بين العام والخاص».

4. القول بالدولة الاجتماعية: مع سنّ بعض القوانين حول التغطية الاجتماعية والتنمية البشرية وتقليص الفوارق، دون رصد الموارد المالية الكافية أو الآليات الناجعة لتنفيذها، مما يجعلها مجرّد آلية للتمكين اللفظي.

هذا النموذج التنموي يندرج ضمن ثقافةٍ محافظةٍ مؤسسةٍ على الطاعة والخضوع لأولي الأمر، مهما كانت الأوامر مجحفة أو غير عادلة، وهو المنبع الرئيس للاستبداد والزبونية والشطط والفساد.

أزمة المجتمع والمعارضة

رغم أن النظام استطاع إعادة إنتاج نفسه لعقود، فإن قوى المجتمع — رغم مشاريعها البديلة — لم تستطع بلورة مشروعٍ مجتمعيٍّ حداثيٍّ بديلٍ، ولا ثقافة قادرة على الصمود أمام الثقافة المحافظة، ولا مؤسسات مجتمعية تساند الحركات الاجتماعية التي تنفجر في بعض الظرفيات الاستثنائية.

وبالرغم من المحاولات الجادة للحركة النقابية ولأحزاب الحركة الوطنية الديمقراطية، فإن ما سُجّل هو ترسّخ التشرذم واستمرار سياسات الإضعاف والتهميش.

حول الذهنية الجماعية

ثانيًا، أعتقد أن الشعب المغربي بذهنيته الجماعية المستبطنة لا يستوعب التعدّد إيجابيًا، بل يميل إلى شيطنته. فكل فاعلٍ اجتماعي أو سياسي يتمثّل نفسه باعتباره الوحيد القادر على الفعل الاستراتيجي الهادف، وعلى الآخرين الالتحاق به والذوبان في بنياته التنظيمية.

وهكذا تُنتج الذهنية الأحادية — أو المونولوجية — التشتت والانقسامات والانشقاقات المتتالية وسط الهيئات، خصوصًا تلك التي تعتبر نفسها التعبير الأصيل عن المجتمع.

وبدل الدخول في معادلة ذكية بين الوحدة والتعدّد، تناسلت الممارسات الإقصائية والاستئصالية التي أثّثت التاريخ الاجتماعي والسياسي للمغرب منذ أكثر من قرن، فنتج عنها ضعف التنظيم المجتمعي، وتحوّل الغضب الشعبي إلى احتجاجات ظرفية لا تؤدي إلى تغييرٍ بنيويٍّ حقيقي.

جذور الأزمة

أعتقد أن جذور هذا العجز البنيوي لا تكمن في السياسة فقط، بل في الثقافة والذهنيات. فالإنتلجنسيا المغربية، بما فيها المتحكّمة في الدولة ومؤسساتها، تطمح إلى انبثاق حداثةٍ مغربيةٍ أصيلةٍ، لكنها تبقى مكبّلة بقيود ثقافية ووجودية تُعيد إنتاج نفس البُنى ونفس الذهنية الجماعية المحافظة.

صراع الأجيال

ثالثًا، ما ننعته بـ«صراع الأجيال» في المغرب ليس ظاهرة بيولوجية أو نفسية، بل مظهر بنيوي لذهنية جماعية محافظة تقوم على منطقٍ ثنائيٍّ لا يفسح مجالًا للحوار الحقيقي.
فبرغم اختلاف الخطابات الأيديولوجية (الإسلامية، المخزنية، الماركسية، السلفية، الاشتراكية الشعبوية، الأمازيغية، الليبرالية التقنية…)، فإن الممارسة الاجتماعية والسياسية تبقى واحدة: ضعف في الإصغاء، سطحية في الحوار، وغلوّ في الاعتقاد بسمو الموقف الشخصي وإقصاء الآخر.

هكذا تبقى معادلة الوحدة والتعدّد مؤجلة، والمواطنة المغربية والمغاربية مشروعًا في طور الإنجاز، ولحظات الانفجار الشعبي لحظات أملٍ مؤقتة تُغلق دائمًا على غصّة مرارةٍ متوارثة بين الأجيال.

خاتمة

سبق لي خلال انتفاضة شباب 20 فبراير سنة 2011 أن كتبت:

«قودونا أيها الشباب المحتجّ في الشارع العمومي إلى آفاقٍ مشرقةٍ للشعب المغربي، فجيلي، جيل المفاهيم والإيديولوجيات، كان ينظر إليكم بنوعٍ من التعالي كجيل الإعلاميات والرقميات. فباسم جيلي أقدّم لكم نقدي الذاتي، وأنا رهن إشارتكم لمرافقتكم… إن شئتم.»

وهكذا، شاركت كمواطنٍ عادي في مظاهراتٍ عدّة، ورافقت الحراك سنة كاملة بكتاباتٍ متسلسلة في مجلة زمان، مساندةٍ دائمًا، ومجادلةٍ أحيانًا.

ومنذ أن فجّرتم هذا الأمل الجديد في نهاية شتنبر الماضي، ظللت أساندكم بطريقتي الطبيعية، ولم أكتب سوى بعض الخواطر والارتسامات التي عبّرت عنها عبر مواقع التواصل وبعض اللقاءات التداولية.

وقد كنتُ من بين المواطنين والمواطنات الذين أطلقوا مبادرة «رسالة مفتوحة إلى ملك البلاد»، التي عبّرنا فيها عن مساندتكم وطالبنا بإصلاحاتٍ عميقةٍ وجدية.

أكاتِبكم اليوم من موقعي كمواطنٍ مغربي يساري، ومؤرخٍ اهتم ودرّس، وفق مناهج العلوم الاجتماعية، الحركات الاجتماعية في مغرب القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، لأشارككم بعض تساؤلاتي المحورية.

لقد قلت وكتبت عن محاولات التغييب في مغربنا المعاصر (من 1873 إلى 2022)، وعلى رأسها حركة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، بأنها «حركات ليس لها غد… لكنها تملك مستقبلًا».

أتمنّى صادقًا أن تكونوا أنتم — كمواطناتٍ ومواطنين — هذا المستقبل المنتظر، حين لا يُغلَق القوس ولا تُعاد إنتاجات الاستبداد والزبونية والريع والفساد.

تحيات شيخٍ يهرم بهدوء.
المصطفى بوعزيز 17 أكتوبر 2025

اقرأ أيضا…

دعما لجيل زد..رسالة مفتوحة للملك،”حان وقت التحرك في العمق”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى