اقتصادالرئسية

مديونية المغرب تحلق عاليا وتخنق الاقتصاد

بين  الأرقام الرسمية وواقع الاقتصاد المغربي، يكشف التقرير السنوي حول المديونية العامة للمغرب المرفق بمشروع قانون المالية لسنة 2026، أن الدين الخارجي للمغرب قفز إلى 468.2 مليار درهم مع نهاية سنة 2024، بعدما كان في حدود 439 مليار درهم سنة 2023.. أي بزيادة تناهز 29.2 مليار درهم خلال عام واحد فقط، أي ما يعادل 6.7%، رقمٌ لا يمكن تجاهله في زمن يتحدث فيه الجميع عن “الإصلاح المالي” و“التحكم في العجز”، لكنه يكشف واقعاً مختلفاً تماماً: اقتصاد يموّل توازنه بالقروض، لا بالإنتاج.

ورغم هذا الارتفاع اللافت، حاول التقرير أن يخفف من حدة القلق بالإشارة إلى انخفاض طفيف في مؤشر الدين الخارجي إلى الناتج المحلي الإجمالي، الذي تراجع بـ0.4% ليستقر عند 29.3% بنهاية 2024، لكن هذا الانخفاض ليس نتيجة نمو إنتاجي أو طفرة تصديرية، بل هو أشبه بحيلة محاسباتية تخفي هشاشة البنية الاقتصادية أمام زحف المديونية.

الخزينة العامة في قلب الإعصار

يثقل الجزء الأكبر من الدين الخارجي كاهل الخزينة العامة التي استدانت وحدها 269.8 مليار درهم سنة 2024، بزيادة 16.2 مليار درهم مقارنة مع السنة التي سبقتها.. وهو ما يمثل 57.6% من مجموع الدين الخارجي، أما باقي المقترضين العموميين، فبدورهم لم يتأخروا عن الركب، إذ ارتفعت ديونهم إلى 198.5 مليار درهم، ما يعادل 42.4% من إجمالي المديونية الخارجية.. هكذا تتقاسم المؤسسات العمومية والخزينة عبء دينٍ أصبح جزءاً من بنية الدولة المالية، لا مجرد ظرفٍ طارئ.

هيمنة اليورو… وعُقدة التبعية القديمة

فيما ما تزال العملة الأوروبية الموحدة سيدة المشهد، إذ تمثل 57.3% من إجمالي الدين الخارجي، متبوعة بالدولار الأميركي بـ33.8%، بينما يحتل الدينار الكويتي نسبة 3.3%.. هذه الهيمنة لا تُقرأ فقط بالأرقام، بل بالواقع السياسي والاقتصادي الذي تعكسه: كالارتباط الستراتيجي و التاريخي بالاتحاد الأوروبي، وتحديداً بفرنسا، التي ما زالت تتصدر قائمة الدائنين وكأن التاريخ الاستعماري وجد طريقه إلى دفاتر الحسابات.

فرنسا أولاً… ثم البقية

كشف التقرير ذاته أن 72.7% من الدين الخارجي يأتي من المقرضين الرسميين، سواء كانوا ثنائيين أو متعددي الأطراف، مقابل 27.3% من المقرضين الخواص، و في طليعة هؤلاء نجد البنك الدولي بـ105.4 مليار درهم (42.7%)، والبنك الإفريقي للتنمية بـ51.3 مليار درهم، والبنك الأوروبي للاستثمار بـ29.4 مليار درهم، كما بلغت ديون المغرب تجاه الصناديق الإسلامية والعربية 27.5 مليار درهم، تجدر الإشارة أن هذه المؤسسات لا تمنح أموالها مجاناً، فكل قرض يأتي مشفوعاً بشروط “إصلاحية” تمس القطاعات الاجتماعية الحساسة: رفع الدعم، تحرير الأسعار، إصلاح صناديق التقاعد… وهي إصلاحات تُسهم عملياً في تقليص القدرة الشرائية للمواطن، مقابل تحسين مؤشرات مالية لا تنعكس على جودة الحياة.

أما على مستوى المقرضين الثنائيين، فتتصدر فرنسا القائمة بفارق مريح عن الجميع، إذ تدين لها المملكة بـ36 مليار درهم، تليها ألمانيا بـ27.9 مليار، ثم اليابان بـ11.6 مليار، فإسبانيا بـ4.2 مليارات.. بعبارة أخرى، ما زالت باريس تمسك بخيوط مالية دقيقة داخل الجسد الاقتصادي المغربي، لتنتقل العلاقة بين البلدين من “الوصاية الثقافية” إلى “الوصاية المالية”.

قروض تُموّل العجز… لا التنمية

تكمن المفارقة الكبرى في طبيعة هذه القروض: فهي ليست موجّهة بالضرورة للاستثمار المنتج أو البنية التحتية ذات العائد الاقتصادي المباشر، بل لتغطية نفقات اجتماعية متزايدة أو عجزٍ مزمن في الميزانية، فالديون اليوم لم تعد وسيلة للنهوض، بل أداة لتأجيل الأزمة فقط.. وفق بيانات وزارة المالية، فإن أكثر من 40% من المداخيل العمومية تُستهلك في خدمة الدين والفوائد، ما يعني أن الأجيال القادمة ستؤدي ثمن القرارات المالية الحالية دون أن تستفيد من نتائجها.

اقتصاد يختنق تحت ثقل الديون

تظهر المعطيات أن المغرب يقف اليوم أمام مفترق طرق حقيقي: إما أن يواصل سياسة الاقتراض لتغطية العجز المتفاقم، وهو ما يعني مزيداً من الارتهان، أو أن يختار طريق الإصلاح العميق، الذي يبدأ من محاربة الفساد والتهرب الضريبي وتوجيه الاستثمار نحو الإنتاج الحقيقي لا نحو المشاريع الاستعراضية.

فالمسألة لم تعد فقط أرقاماً في تقرير سنوي، بل قضية سيادة وطنية واقتصاد يعيش على أنفاس المؤسسات المقرضة، ومواطن يدفع من جيبه ثمن كل قرار مالي يُتخذ باسمه دون أن يكون له فيه رأي.. ليصبح الاستقلال المالي مجرد شعار آخر يُردد في الخطب الرسمية، بينما تكتب الأرقام الحقيقية روايتها الخاصة في دفاتر الخزينة.

اقرأ أيضا…

تحليل الإنجازات الاقتصادية وفاتورة الكرة بالمغرب.. قراءة في أرقام المديونية وسياسات الأولويات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى