رأي/ كرونيك

أحمد حبشي يكتب: عبد الله زعزاع صلابة وإصرار

أحمد حبشي

راكمت تجربة اليسار الكفاحية فعلا نضاليا متواترا ومتوترا، كان له الوقع الكبير في مسار الحياة السياسية المغربية، كما كان له التأثير البالغ في تطور تصورات وأداء الفاعلين السياسيين والاجتماعيين خلال مرحلة عصيبة من التاريخ السياسي للبلاد، تعددت فيها أشكال المواجهة وعرفت الكثير من التضحيات والضحايا، وتأكدت بعدها حقائق وسقطت معها أوهام.

أنجبت هذه التجربة النضالية الصاخبة، مناضلات ومناضلين استرخصوا حياتهم وقدموا أقصى التضحيات في سياق صراع غير متكافئ بين سلطة مطلقة وشموخ نضالي واثق من قدرته على الحد من جبروت الاستبداد وكسب النزال، لفائدة قوى التحرر والانعتاق للخروج بالمجتمع من مستنقع التبعية والحكم المطلق، وتمكينه من آليات الدفاع والمواجهة في سعي لدمقرطة علاقاته والرفع من إيقاع آليات تطوره. يسجل تاريخ هذه الحركة بكثير من الاعتزاز والتقدير، الشموخ النضالي للعديد ممن انخرطوا في عنفوان شبابهم، في زخم كفاحي متميز اتسم بالحدة والإصرار والقدرة على التحدي ونكران الذات.

ومن خصوصيات البعض في مكابدة محن هذه التجربة، صمودهم اللافت في مواجهة مباشرة مع الآلة القمعية وأساليبها الرهيبة في الحط من الكرامة والإسراف في التحقير والإذلال.

عبد الله زعزاع واحد من بين عشرات المناضلات والمناضلين الذين لقنوا جلاديهم درسا في الثبات على المبادئ والالتزام بالتعهدات في التضحية بالذات لحماية الآخرين والحث على الاستمرار لتحقيق كل الأهداف والخيارات السياسية والمجتمعية

ونحن في مخفر الشرطة تناسلت حوله حكايات وسرت أخبار متضاربة عن لحظة اعتقاله، وقوة تحديه لجلاديه في سعيهم لإجباره على الكشف عن الأمكنة التي كان يحمل مفاتيحها في جيب سترته . القليلون منا من كان يعرف هيئته أو يستطيع تحديد ملامح وجه، حالته المتدهورة جدا كانت تشد الانتباه إليه وهو يساق إلى دورة المياه لقضاء حاجته، لا يقوى على حمل نفسه كما لا يستطيع تثبيت خطواته وحفظ توازنه، وهو يمشي مترنحا وشامخا كما كان يبدو لنا، ونحن نتلصص النظر إليه من تحت العصابة التي أحكمت على أبصارنا حتى لا نرى ما يجري حولنا.

في البداية كان الحديث عن الرفيق عنتر، أحد القادة الأساسيين في تنظيم “إلى الأمام” وكيف سقط في كمين نصبه له البوليس بعد أن تمكنوا من تحديد مجال تحركه وكيفية تنقله وسط مدينة شاسعة الأطراف كالدارالبيضاء ، كان مسؤولا عن المقرات السرية للتنظيم، التي كان يختبئ بها الرفاق المتابعين أو المكلفين بمهام تقتضي منهم القطع مع وسطهم العائلي و الابتعاد عن المجال العام. بحكم مسؤولياته كان يعرف أغلب المقرات التنظيمية، بل كانت توجد في حوزته أغلب مفاتيح هذه المقرات ويعرف الكثير عن ساكنتها.

لحظة اعتقاله كان على موعد مع رفيق تقرر إخفاءه بعد أن اكتشف البوليس ارتباطاته التنظيمية وطبيعة مهامه النضالية وأصبح لزاما عليه تجميد حركيته، للحد من أضرار حملة الاعتقالات التي كانت قد شملت العديد من المناضلين. تمكن البوليس من اعتقال هذا الرفيق قبل الموعد بقليل، واستعمل كطعم لوضع حد لتحركات الرفيق عنتر، الذي حضر إلى الموعد حسب الاتفاق بدراجته النارية كما هي عادته، ومع كل الاحتياطات التي اتخذها حاصره البوليس وساقوه إلى المخفر السري، وفي تصورهم أنهم عثروا على الوجهة المفضية لوضع حد لحركية تنظيم أقلق راحتهم. حاولوا بكل الوسائل معرفة المكان الذي كان سيأخذ الرفيق المتابع إليه. التزم الصمت واحتمى بصلابة عناده وتقديره لجسامة المسؤولية التي أصبحت على عاتقه. ولم يتمكنوا منه إلا بعد يومين من تجريب كل أساليب التعذيب وأنواعه، ومن حدة ما تعرض له فقد قدرته على الوقوف واستعمال يديه، وغطت الجراح كل أجزاء جسمه ولمدة طويلة لفت أطرافه ووجهه بضمادات تخفي كدمات وجراح غائرة، قبل أن يحمل إلى المستشفى تحت حراسة أمنية مشددة، حيث سعوا لإخفاء آثار قساوة عنفهم في تدمير جسده لتحطيم معنوياته.

رأيته لأول مرة أثناء جلسات المحاكمة التي عرفت في تاريخ المحاكمات السياسية بالمغرب “بقضية السرفاتي ومن معه” سنة 1977 ذلك لأن إدارة السجن اتخذت قرار فصل معتقلي نفس الملف عن بعضهم البعض بوضع من اعتبرتهم الأخطر في حي منفصل وتحت حراسة يقظة وكان الرفيق واحدا منهم.

أصبحت إذاك أعرف أن الرفيق عنتر هو عبد الله زعزاع، نظرة صارمة وهدوء يعكس الكثير من الاتزان. كانت آثار التعذيب بادية على كل تفاصيل جسمه، لا يقوى على المشي بالشكل المعتاد يخطو كالمترنح بهامة مرفوعة وحضور فيه عناد. كان نصيبه من الأحكام أقصاها، إذ أنعم عليه قضاة المحكمة بالسجن مدى الحياة. تقبل الحكم بسخرية وازدراء وردد بصوته الجوهري مع الرفيقات والرفاق في فضاء المحكمة، الأنشودة الرائعة ” لنا يا رفاق لقاء غدا سنأتي ولن نخلف الموعدا”

صزرة جماعية للمعتقلين السياسين بالسجن المركزي القنيطرة وضمنهم زعزع

في السجن حيث أصبحنا نعيش في فضاء واحد توطدت أواصر علاقتنا، وتبين أن والدتي ارتبطت بوالدته خلال انخراطهما في حركة عائلات المعتقلين السياسيين، وأخذت تسأل عني كلما جاء لزيارته ونفس الشيء بالنسبة لوالدتي. لم يظهر عليه يوما أنه مكثرة لما صدر في حقه من أحكام، بل صدر في حقه حكم آخر على إثر تعليقات دونها على هامش صفحات كتاب “التحدي”، الذي أصدره الملك الحسن الثاني لتقديم توضيحات وبيانات حول مساره وطبيعة علاقته بمحيطه وعموم الشعب، على إثر حملة تفتيش استفزازية اعتادت إدارة السجن القيام بها من حين لآخر، أثار انتباه حراس التفتيش وجود الكتاب بزنزانة الرفيق، وعند تصفحه سلموه للإدارة التي وضعته بيد النيابة العامة، فتمت متابعته بتهمة المس بالمقدسات وإدانته بسنتين نافذة، وهو قابع في زنزانته يرتب أيامه غير عابئ بما يحاك حوله وما يعد للحد من صلابة عناده، وقد كتب ما رآه بمثابة رد على لغو وتنميق في الكلام، في محاولة لتلميع صورة أقتنع صاحبها بأنها ليست على ما يرام وأن عزلة سلطته تزداد يوما بعد يوم.

ملابسات الاعتقال وظروفه وسعت مجال التباين بين الرفاق، وخلقت جدلا داخل المجموعات حول كل ما كان من تقديرات سياسية ورهانات مستفيضة على القدرات الذاتية في تجاوز كل إكراهات النضال وعوائقه. اتسعت رقعة الاختلاف وتباعدت الرؤى إلى حد التباين الواضح في التعبير عن ذات المواقف، مع اجتناب كل ما يفكك الوحدة ويضيق مجال المشترك. في هكذا أجواء كان عبد الله صاحب رأي، شكل قناعاته على ضوء استقراء عميق لتجربة تنظيمية خاصة، في حوار مفتوح مع ثلة من الرفاق حول واقع ومآل تجربة نضالية كلفت تضحيات وخلفت ضحايا. سيتضح أكثر المدى الذي انتهت إليه عملية الاستقراء بعد مغادرة السجن، وانخراطه القوي في بلورة تجربة شبابية اعتمدت العمل المباشر في الأحياء الشعبية، إلى جانب فئات عمرية مختلفة، ساهمت في تأطير الشباب وتطوير قدراتهم بما يسهل عملهم المشترك في الدفاع عن قيم المواطنة والارتباط بالجماعة والدفاع عن المشترك من مصالحها.

عبدالله زعزع مع شباب حركة 20 فبراير

وهي تجربة أعد لها بعمل صحفي متميز ضمنه الكثير من أفكاره واختياراته، ما لبث إن استقطب إليها مجموعة من المناضلين، الذين اشتغلوا إلى جانبه في تجربة إعلامية نوعية، كان لها السبق في التعبير بشكل مختلف وتناول ممنهج لقضايا سياسية واجتماعية ترتبط بالسياسة العامة للدولة وإجراءاتها التدبيرية. عمل كان يهدف تفكيك الاختيارات الرسمية للدولة وإبراز محدودية مردوديتها على مستوى ما تدعيه من خدمة الصالح العام وخدمة للمواطن البسيط المهمش، وقد تعرض هذا العمل إلى مراقبة ومضايقات شديدة، إنتهت إلى المنع وسد كل منافذ الانتشار والاستمرار، وإن واجه كل ذلك بعناده وصلابته المعهودة، إذ قابل كل منع بإصدار جديد مع تعديل في العنوان والحفاظ على الشكل، فقد أصدر أسبوعية “المواطن” وبعد منعها أصدر “المواطن اليوم”، وعناوين أخرى تكفل رفاق آخرون بإيداع طلب إصدارها وظل حاضرا وأساسيا في هيئة تحريرها.

قاده هذا العمل إلى تشكيل حركة سياسية بمقومات تنظيمية خاصة تقطع مع المركزية، وتجعل المنتسبين إليها أكثر حرية في تدبير التصور السياسي العام الذي يشكل القناعة المشتركة وما تم الاتفاق عليه كتوجهات واخنيارات محددة. وعلى أساس ما تبلور لدى الحركة من فهم للواقع السياسي واستعداد للإنخراط في تدبير الشأن العام، سيتقدم عبد الله إلى الانتخابات الجماعية وأصبح مستشارا جماعيا باسم “منظمة العمل الديمقراطي الشعبي” ثم ترشح للاستحقاقات البرلمانية في نهاية التسعينات من القرن الماضي، وحصل على أصوات جعلته يتأكد من أهمية اختياره للعمل المباشر مع الساكنة وضرورة توسيع علاقاته وتطوير العمل الجمعوي بإحداث شبكات الأحياء، وتشجيع الشباب على الاهتمام بالشأن العام، وهو ما ظل يشكل هاجسه الأول ونضالا يوميا يجسد من خلاله قناعته، بأن بناء قاعدة تقوم على قيم المواطنة والسعي نحو التغيير من باب الاهتمام بالشأن العام والاشتغال على بعض تفاصيله.

قناعة راسخة جعلته حاضرا في كل لحظات التعبير الجماعي عن رفض المواطنين لأساليب الدولة في تدبير الشأن العام أو التنديد بإجراءاتها الماسة بحقوق الإنسان فحضوره كان لافتا في احتجاجات 20 فبراير 2011، كما لا يخفي دعمه لكل القوى الديمقراطية المناضلة بصرف النظر عن مواقفه من كيفية اشتغالها، أو طريقة تدبيرها لقضاياها التنظيمية أو تصريف مواقفها، وهذا ما عكسه من خلال مساهماته قي الحملة الانتخابية الجماعية والبرلمانية لفيدرالية اليسار، وتقديمه لخدمات بالغة الأهمية على مستوى التأطير والتوجيه، بالجدية اللازمة والفعالية الكبيرة.

عبدالله زعزع متظاهرا

لا يمكنك وأنت تستعيد مسار مناضل من هامة عبد الله زعزاع ، وفي لمبادئه خلوق في علاقاته منسجم مع قناعاته واختياراته، إلا أن تنحني تحية تقدير واحترام كبير لوضوحه وصلابته وإخلاصه وصراحته وصدقه. فهو لا يخادع ولا يجامل، يسمي الأشياء بمسمياتها كما تبدو له وكما يفهمها، لا يخفي حقيقة ولا يتجاهل واقعا عنيدا يعاقره، لا يبخل في تقاسم المعرفة أو المساهمة في أغناء تجربة ، لا يخلف وعدا ولا يتأخر عن موعد أو يتنكر لرفقة. بالمقابل يحرص على أن يعامل بالمثل ان تكون العلاقات متكافئة ، مبنية على الاحترام والتقدير المتبادل. يؤمن بقدرة الشباب على بلورة فعل نضالي وازن ، يرافقهم ويستمع بانتباه لمختلف أرائهم ، ويرد على اليقين بالسؤال حيث يظهر أهمية الجدل وتوضيح التفاصيل اللازمة الوقوف عندها لإغناء الفكرة. فتحية تكبير لرفيق أعتز بكل اللحظات التي قضيتها رفقته وبعلاقة المودة التي تظل تجمعنا حتى ونحن في عز الاختلاف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى