وجهة نظر: هذه هي القصة الكاملة لنشأة التنظيم الإرهابي داعش (فيديوهات)
ما يزال من المبكّر القول إنّ الستّار أُسدل على مسرحية الرعب المخيفة، المسماة ” داعش”، لطالما ظلّ التنظيم الإرهابي، من أكثر التنظيمات الغامضة في العالم، كان “داعش” أكثر التنظيمات الإرهابية قوة وتدريباً وتمويلاً في التاريخ، ضمّ بين صفوفه آلاف المقاتلين الأوروبيين والعرب والشيشانيين والأفغانيين والباكستانيين، وغيرهم، وسيطر على مساحات شاسعة من الأراضي تفوق في مساحتها دولاً كبرى، وحصل على موارد ضخمة تفوق موارد العديد من الدول في المنطقة والعالم.
نشأة الوحش
بدأت القصة المرعبة مع دخول القوات الأمريكية والغربية إلى العراق، عام 2003، وسقوط العاصمة بغداد الذي هزّ وجدان العالم العربي، سقط الجيش العراقي بطريقة دراماتيكية، لكنّ عملية التحول نحو إستراتيجية المقاومة لم تتأخر كثيراً بعد السقوط، وفي غضون أقل من أسبوع واحد، نشأت في المناطق السنّية العراقية مجموعات تسعى لمقاومة الأمريكيين وإخراجهم من بلاد الرافدين، وكانت هذه المجموعات في معظمها من بقايا “حزب البعث” وقوى الجيش والأمن العراقيين، ومدنيين تطوعوا للدفاع عن بلادهم، لكن مع مرور الوقت بدأت المقاومة تأخذ طابعاً دينياً متطرفاً، عززه السلوك الأمريكي المتغطرس، والمذابح التي تعرض لها العراقيون، وكان للنظام السوري دورٌ كبير في إمداد المقاومة العراقية بالمقاتلين الإسلاميين؛ حيث أخرج كثيرين منهم من السجون، وسمح للخطباء السوريين أن يحضّوا الناس على الذهاب إلى العراق، وفتح الحدود أمام المقاتلين.
تحوّلت المقاومة بسرعة إلى عمل جهادي، عام 2004؛ تأسّست جماعة “التوحيد والجهاد”، بزعامة الإرهابي أبو مصعب الزرقاوي، وأعلن الزرقاوي مبايعته لقائد تنظيم “القاعدة” الإرهابي، أسامة بن لادن، لافتاً إلى أنّ جماعة “التوحيد والجهاد” أضحت الممثل لتنظيم “القاعدة” في بلاد الرافدين، لكنّ جملة العمليات الأمنية التي قادتها الولايات المتحدة نجحت، عام 2006، في قتل أبو مصعب الزرقاوي، حلّ الإرهابي أبو حمزة المهاجر مكان الزرقاوي، وبدأ نجم “القاعدة” يخبو بفعل الضربات القاسية التي تلقتها من ميليشيا “الصحوات”، التي تشكّلت في معظمها من العشائر السنّية، تحت إشراف أمريكي، ثم في 5 تشرين الأول (أكتوبر) من العام نفسه؛ أسّس الإرهابي، أبو عمر البغدادي، “دولة العراق الإسلامية”، وأعلن نفسه أميراً عليها، وفي 19 نيسان (أبريل) 2010، أعلنت القوات الأمريكية مقتل أبو عمر البغدادي، وأبو حمزة المهاجر في غارة جوية، بعد أيام؛ برز نجم إرهابي جديد، قيل إنّ قيادات “دولة العراق الإسلامية” بايعته ليكون قائداً لها، بدأ العالم يردّد اسم “أبو بكر البغدادي”.
بدأت القصة المرعبة مع دخول القوات الأمريكية والغربية العراق عام 2003 وسقوط بغداد الذي هزّ وجدان العالم العربي
في العام التالي؛ اندلعت الثورة في سوريا، ودخلت البلاد بسرعة في فوضى ” الربيع العربي”، بعد أشهر؛ بدأ عناصر من تنظيم “دولة العراق الإسلامية ” يقصدون سوريا للجهاد، كما قصدها أيضاً مئات المقاتلين الأجانب، خشيت “الدولة الإسلامية” أن تنفلت الأمور منها، ويزداد عدد المنشقين عنها من المهاجرين إلى بلاد الشام، فيتصدع التنظيم؛ لذلك، عقد “مجلس الشورى” التابع للتنظيم اجتماعاً، وقرّر إيفاد مجموعة من عناصره، على رأسهم الإرهابي “أبو محمد الجولاني” (والي الدولة في الموصل)، كانت مهمة المجموعة تنظيم صفوف “المجاهدين” القادمين إلى سوريا في مجموعات، وأطر تنظيمية وتأمين الدعم لهم، وهكذا بدأ عناصر تنظيم “القاعدة” يظهرون بشكل منظم نسبياً في سوريا، منذ أواخر عام 2011، تحت اسم “جبهة النصرة لأهل الشام”، كان الجولاني حينها تحت إمرة أبو بكر البغدادي، وجندياً في “دولة العراق الإسلامية”، تحديداً في ٢٤ كانون الثاني (ديسمبر) عام ٢٠١٢، أعلن الجولاني رسمياً تشكيل “جبهة النصرة لأهل الشام”، بعد أيام دعا أيمن الظواهري المجاهدين من كلّ أصقاع الأرض لينفروا إلى سوريا، بدأ في الشمال والشمال الشرقي، وبالتحديد في حلب ودير الزور وإدلب، ثم تمدّد جنوباً إلى درعا وريف دمشق وحمص، استطاع تنظيم “جبهة النصرة” أن يخطف الأنظار بعد العمليات النوعية التي نفّذها ضدّ مقار وثكنات وحواجز الجيش السوري، وشكّل حالة استقطاب مهمّة لدى المقاتلين السوريين، وبدأ البغدادي، الذي يعشق السلطة كما يقول من عرفوه، يشعر بأنّ الجولاني سحب البساط من تحت أقدامه، ولا سيما أنّ المئات من عناصر الدولة في العراق التحقوا بجبهة النصرة سراً، فضلاً عن مئات المقاتلين الذين قصدوا سوريا من كلّ أصقاع الدنيا للقتال إلى جانب “النصرة”.
رأى البغدادي أنّ فرع تنظيم القاعدة في بلاد الشام سيكون الأكثر جذباً وقوة ونفوذاً؛ ففي بلاد الشام يوجد كثير من آبار النفط، كما أنّ قربها من فلسطين المحتلة، يجعل لها رمزية كبيرة، ناهيك عن مئات الأحاديث التي تتحدث عن فضل القتال في بلاد الشام، فقرّر البغدادي، بناءً على مشورة ذراعه الأيمن، حجي بكر، الضابط السابق في الجيش العراقي، أن يلتهم “جبهة النصرة”، ويخضعها لسلطة الدولة، لا سيما أنّها أصبحت قبلةً لكلّ المقاتلين الأجانب، فأمر البغدادي الجولاني بتنفيذ عدة هجمات تستهدف الجيش الحرّ، من بينها، الهجوم على مخازن سلاح تابعة للجيش الحر، واستهداف أحد الفنادق في تركيا، أثناء اجتماع لقيادات من المعارضة السورية، رفض الجولاني تنفيذ هذه العمليات، باعتبارها “مخالفة للشرع، ومفسدتُها أكبرُ من منفعتها، ومن شأنها تشتيت جهود المعارضة، ولا يستفيد منها سوى النظام السوري”، لكنّ الخلافات ظلت طيّ الكتمان، حتى شهر نيسان (أبريل) 2013، عندما سعى البغدادي إلى عزل الجولاني، وتهميشه من خلال إعلانه توحيد “دولة العراق الإسلامية” و”جبهة النصرة لأهل الشام” في تنظيم واحد، تحت اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”.
كان للنظام السوري دورٌ في إمداد المقاومة العراقية بالمقاتلين الإسلاميين حيث أخرج كثيرين منهم من السجون وفتح الحدود أمامهم
رفض الجولاني دمج التنظيمَين، وأعلن ولاءَه للشيخ الظواهري، وطلب الاحتكام إليه، وطلب الظواهري من الدولة أن تبقى في العراق، وألا تدمج تنظيمها بالنصرة، فرفض البغدادي أوامر الظواهري، وبدأ الخلاف يأخذ منحى مختلفاً، ذا طابع دموي، وعدّ البغدادي الجولاني خائناً للعهد، والجولاني عدّ البغدادي ناقضاً لبيعة أميره الظواهري.
قرّر البغدادي تركيز جلّ اهتمامه على المناطق الواقعة بين سوريا والعراق، ووسط الفوضى العارمة في البلدين، أتيحت لتنظيم “الدولة” فرصة انتهاك الحدود، بل إلغاؤها تماماً، والسيطرة على إقليم واسع من أراضي الدولتين، وللمرة الأولى في التاريخ صار للإرهاب دولة وعنوان وموارد ضخمة.
صار داعش من أكثر التنظيمات ثراءً في العالم، وركّز التنظيم على السيطرة على آبار النفط ومحطات توليد الكهرباء، والمصانع، وعلى المنشآت الحيوية، وبلغ هذا الثراء أوجّه بعد “غزوة الموصل”؛ إذ سطا التنظيم على البنوك، وسلب نحو 425 مليون دولار نقداً من مدينة الموصل وحدها، وغنم معسكرات كاملة للجيش العراقي، فيها آلاف الآليات العسكرية.
لم تتوافر تقديرات دقيقة لحجم ثروة داعش، لكنّ التنظيم اعتمد على الإتاوات، والزكاة، وأموال النفط، والخطف، والغنائم، والدعم من بعض الجهات غير الواضحة، وتحدّث أهالي المناطق التي سيطر عليها داعش عن البذخ والترف وكثرة المال، وما تزال المشاهد المدهشة لمواكب سيارات الدفع الرباعي الضخمة التي كانت ترافق مسؤولي التنظيم، تثير كثيراً من التساؤلات.
المال الوفير، والأسلحة المتقدمة، و”الكاراكتر” المثير، والزيّ الغريب لعناصر التنظيم جميعها شكّلت مصدر جذب لآلاف الشبان والشابات من القارات السبع، وكان من ينتسب إلى التنظيم يغري من وراءه بالقدوم، بدعوى وفرة المال والجنس، والحياة المليئة بالمتعة والإثارة، و”الجهاد”، وامتلك التنظيم أسلحة متطورة جداً، بينها صواريخ باليستية وطائرات، ومضادات للطيران، والدروع، وآليات، وقانصات حديثة، ومناظير ليلية، واللافت؛ أنّ عناصر التنظيم لم يواجهوا مشكلات في تشغيل واستخدام هذه الأسلحة كلّها، باستثناء سلاح الطيران، كان تدريب عناصر التنظيم يبدو متقدماً جداً، وبمستويات عسكرية احترافية، وظلّ هذا الجزء غامضاً في تنظيم داعش، وظلّ يثير تساؤلات مهمّة، حول جهاتٍ ما قدّمت الدعم والتدريب.
الدور الإسرائيلي
منذ مطلع العقد التاسع من القرن الماضي، وفي خضم تداعيات الغزو العراقي للكويت، تفتَّق العقل الإستراتيجي الإسرائيلي عن رؤية مفادها؛ أنّ تحوُّل المنطقة إلى خريطة فسيفسائية مُتعدِّدة الكيانات السياسية والمذهبية والعرقية، من شأنه أن يؤمّن لإسرائيل مُحيطاً أكثرَ ملاءمةً لاستيعابها، وأكثر قابليةً للتعامل معها؛ وذلك باعتبار أنّ إسرائيل تنظر إلى نفسها على أنّها كيان مُغاير، وربما مُعادٍ للنسق الإقليمي ذي الأغلبية العربية المسلمة السُّنية؛ لذلك عملت إسرائيل على ترويج “إستراتيجية التوازن المذهبي” في الولايات المتحدة، ودعمت صعود الشيعة السياسي في العراق ولبنان، كما أيّدت حقّ تقرير المصير للأكراد، ثم جاء الربيع العربي بعد عقدَين ليتيح الفرصة الذهبية بالنسبة إلى إسرائيل، من أجل تفتيت الكيانات السياسية العربية الكبرى المجاورة، وتزامن ذلك مع وجود رغبة أمريكية في خفض تكاليف التدخل الخارجي، وإعادة الانتشار الإستراتيجي نحو آسيا والباسيفيك، وبالفعل، تشكَّلت لدى الإدارة الأمريكية رؤية تقوم على خلق توازن إستراتيجي في المنطقة؛ حيث يعتمد أساساً على التباينات المذهبية السنية-الشيعية، والقوى السياسية الراعية لها، وهي عملية شديدة الخطورة بطبيعتها، وأنتجت فيما أنتجت، حالةَ تصعيد للخطاب الطائفي، وفّرت البيئة الخصبة لظهور التنظيمات المتطرفة على ضفتَي الصدع الطائفي، وفي ظلّ اتخاذ معظم الدول العربية تموضعاً دفاعياً في ملف الإرهاب، استمرّ منذ هجمات 11 سبتمبر وحتى الآن، تحولت المنظمات المتطرفة، مثل القاعدة وداعش، إلى أدوات بيد عدد كبير من اللاعبين الدوليين، وأجهزة الاستخبارات المختلفة.
الدور الأمريكي
خلافاً لتوقعات اليمين المتطرف في واشنطن، عَلِقت الولايات المتحدة في المستنقع العراقي طويلاً، بعد سقوط نظام صدام حسين، وظهر جلياً أنّه لا توجد انتصارات خاطفة، أو حروب سهلة في المنطقة، التكاليف كانت باهظة والاقتصاد الأمريكي بدا منهكاً، والنفط العراقي يتنازعه شركاء كثيرون، ومدخوله لا يرقى إلى تغطية النفقات العسكرية الضخمة، والصراع الطائفي والإثني مزّق البلاد، ودخل العراق في الفوضى.
حاولت إدارة الرئيس أوباما الضغط على المالكي، لتخفيف الاحتقان الطائفي، ودمج السُّنة، لكنّها وصلت إلى قناعة بأنّ المالكي لا يملك الإرادة، ولا القدرة، على ذلك، لوقوعه تحت السيطرة المباشرة للإيرانيين؛ ما جعل الإدارة الأمريكية تعود لمناقشة مقترحاتها القديمة، حول الفدرالية العراقية، وإقامة منطقة حكم ذاتي للسُّنة، وأخرى للشيعة، علاوة على الحكم الذاتي الكردي، وهناك من يعتقد أنّ أمريكا استثمرت انتشار داعش، للضغط على حكومة المالكي، من أجل التخفيف من حدّة الاصطفاف الطائفي، ومنح صلاحيات أكبر للأكراد، لكنّ المالكي ظلّ وفيّاً للتوجيهات الإيرانية؛ ما دفع الإدارة الأمريكية للتفكير في إزاحته من المشهد السياسي، لكنّ إزاحة المالكي أيضاً كانت تتطلب تعاوناً إيرانياً، بدا أنّ العراق سقط بالكامل في حضن الولي الفقيه.
أدركت إسرائيل أنّ تحوُّل المنطقة لخريطة فسيفسائية مُتعدِّدة الكيانات السياسية والمذهبية والعرقية سيؤمن لها مُحيطاً أكثر ملاءمة لاستيعابها
بعد سقوط الموصل؛ لم تكن واشنطن تملك إلا أن تتحرك عسكرياً ضدّ داعش في العراق، حتى وإن كانت لها يد أمنياً فيما حصل، حتى لا تفقد زمام المبادرة، أو تتحمّل تبعات الاتهامات التي ستوجه لها في حال عدم التحرك؛ ولأنّ التحرك الميداني للقوات الأمريكية كان مكلفاً، ومستبعداً بكلّ المقاييس والحسابات آنذاك، بدا أنّ الحرب على داعش كانت أيضاً تتطلب تعاوناً إيرانياً، وبالفعل، جرى التوافق على أن تقدّم الولايات المتحدة الدعم الجوي للحملة على داعش، فيما تتكفل إيران بتعبئة الميليشيات الشيعية وإدارتها على الأرض، وبالطبع؛ استدعت أمريكا عدداً كبيراً من قواتها إلى المنطقة، لمراقبة سلوك الحرس الثوري الإيراني، وضمان عدم تجاوزه حدود الاشتباك، حتى لا يتحول إلى حرب إقليمية، لكنّها لم تشارك ميدانياً مع الميليشيات والقوات الإيرانية والعراقية في الاشتباكات؛ لأنّ الإستراتيجية الأمريكية كانت تقوم على أساس عدم إعادة إنتاج النفوذ الإيراني الذي تكرّس بعد 2003، وهذا ما أكّدته تصريحات جنرالات أمريكيين، مثل: جي غارنر، وديفيد بترايوس، ممن حذروا من تحوّل القوات الأمريكية لمساندة الشيعة ضدّ السُّنة، أو تكريس النفوذ الإيراني في العراق.
الدور الإيراني
لفتت “غزوة الموصل” الأنظار إلى الدور الإيراني في صعود داعش، كان الهدف الإستراتيجي للمشروع الإيراني يقوم على فكرة إقامة منطقة نفوذ تمتد من آسيا الوسطى إلى البحر الأبيض المتوسط، بتكريس مركزية إيرانية للشيعة في العالم والمنطقة، وهذا المشروع وجد في الحرب الأمريكية على الإرهاب، في أفغانستان والعراق، فرصة تاريخية عزَّزها الانسحاب الأمريكي من البلدين، الذي جرى دون تكريس دولة وطنية قادرة على الحفاظ على سيادة البلاد، كما أدّت الثورة السورية وحالة الضعف التي أصابت النظام الحاكم إلى تحوّل سوريا إلى دولة “تحت الانتداب الإيراني”، وهو ما أدّى إلى تعميق الشرخ الطائفي في المنطقة.
كان لتركيا وداعش أعداء مشتركون كثر في سوريا؛ التنظيمات الكردية، وداعموها الدوليون، وقوات النظام، وداعموه الإقليميون والدوليون، و
كانت إيران تواجه مشكلات حقيقية في تثبيت النظام السوري، فكّرت في نقل المعركة مع جماعات السلفية الجهادية من سوريا إلى العراق؛ حيث يمكنها هناك حسم الصراع لصالحها، في سوريا والعراق معاً، وذلك لاعتبارات كثيرة؛ ففي العراق يمكن الحصول على دعم وغطاء دوليَّين لمحاربة هذه التنظيمات، وهو أمرٌ غير متوافر آنذاك في سوريا، وفي حال تمّ سحب جزء كبير من المقاتلين في سوريا إلى العراق، سيخفف ذلك من الضغط على جبهة النظام السوري، ويوفّر فرصة للقضاء عليها بإجماع وتأييد دولي، وكان العراق أكثر قدرة على تحمّل فاتورة هذه الحرب؛ فهو يتمتع بميزانية ضخمة، ولا قيود على صادراته النفطية، بينما الاقتصاد الإيراني يعاني الاستنزاف، والاقتصاد السوري مُنهار، وكانت في العراق ميليشيات شيعية كثيرة، على درجة عالية من الكفاءة القتالية والتدريب والانضباط، ومتحفزة للدخول في هذه الحرب، بينما كانت القوات السورية مرهقة، وبدت معنوياتها في تراجع كبير، لعدم وجود أفق لحسم عسكري أو حلّ سياسي، ومن ناحية أخرى؛ تكفّلت المرجعية الدينية في العراق بتأمين الغطاء الشرعي اللازم لتجنيد المتطوعين، ورفع المعنوية والروح القتالية للمحاربين، وأن تؤمّن لهم حاضنة اجتماعية قوية.
ورغم الفجوة المذهبية العميقة بين إيران والقاعدة وداعش، إلا أنّ إيران كانت قد استغلت الغزو الأمريكي لكلّ من العراق وأفغانستان جيداً لبناء خطوط اتصال، وعقد تفاهمات بينها وبين هذَين التنظيمَين، بهدف إبعاد خطرها عن إيران من جهة، وتوظيفها بشكل مباشر أو غير مباشر في تحقيق أهداف الثورة الإيرانية أمنياً وسياسياً، وبالفعل حصل هناك اختراق إيراني لهذه التنظيمات، ظهرت مؤشراته بالدعم اللوجستي الذي تلقاه عناصرها أثناء انتقالهم من أفغانستان إلى العراق، واستضافة وتأمين أسر قيادات القاعدة في إيران، وعقد التفاهمات السياسية المتقدمة مع حركة طالبان، وقد ظهرت تقارير دولية عدة تثبت وصول الأسلحة الإيرانية بشكل مضطرد إلى التنظيمات الجهادية العراقية أثناء مقاومة الغزو الأمريكي، وفي هذه الأثناء؛ سعت الدبلوماسية الإيرانية إلى توظيف تحرُّك داعش بالعراق في توجيه ضربة للسعودية ودول الخليج العربية، وإيجاد توتر في العلاقات بينها وبين الولايات المتحدة، من خلال توجيه الاتهامات برعاية التطرف للسعودية ودول الخليج، وذلك تمهيداً لعرض خدماتها كشريك في محاربة الإرهاب، وراعية لمصالح القوى الدولية في المنطقة.
الدور التركي
كان لتركيا وداعش أعداء مشتركون كثر في سوريا؛ التنظيمات الكردية، وداعموها الدوليون، وقوات النظام، وداعموه الإقليميون والدوليون، وكانت هناك مصالح اقتصادية كبيرة مشتركة بين دولة التنظيم المزعومة، وتركيا أردوغان، قوافل نقل النفط الرخيص، من أراضي التنظيم إلى تركيا، وشحنات البضائع والصادرات التركية إلى أراضي التنظيم، كانت تنبّئ بتعاون تجاري وثيق، رغم مساعي تركيا إلى تجنب التصريح بذلك علناً، إلا أنّ المصالح بين الطرفين كانت متطابقة تقريباً في شمال سوريا.
كانت هناك مصالح اقتصادية كبيرة مشتركة بين داعش وتركيا أردوغان رغم مساعي أنقرة إلى عدم التصريح بذلك علناً
راقب العالم، بكثير من الدهشة، معركة “عين العرب/ كوباني” المشهورة، بين داعش والتنظيمات الكردية، وكانت كاميرات التلفزة تظهر بوضوح أنّ مقاتلي التنظيم جعلوا الجيش التركي خلف ظهورهم مباشرة، وباطمئنان كامل، أثناء المواجهة الطويلة مع التنظيمات الكردية، تلك كانت خلاصة العلاقة بين تركيا والتنظيم الإرهابي، لكنّ تفاصليها كانت أوسع، وأكثر تعقيداً، ووفق تفاصيل تسجيلات تمّ الحصول عليها، تمّت بإذن قضائي، كجزء من تحقيق قانوني عن داعش، تمّ إطلاقه في ٢٠١٤، من قبل مكتب المدعي العام في أنقرة، أثناء محاكمة تركية تم إغلاقها سريعاً في آب (أغسطس) ٢٠١٨، ظهر اتفاق ضمني بين داعش والمسؤولين الأمنيين الأتراك، سمح لمهربي البشر بالعمل بحرية على الحدود مع سوريا، التي تمتدّ لـ ٨٢٢ كيلومتراً، وبنقل الإرهابيين الجرحى إلى تركيا للعلاج، مئات التقارير انتشرت عن عبور الأفراد والأسلحة برعاية الاستخبارات التركية إلى معارضين إسلاميين سوريين يواجهون نظام الأسد، وعلى رأسهم تنظيم “النصرة”، وأنّ كميات كبيرة منها انتهت بأيدي إرهابيي داعش.
الأسباب الموضوعية؛ الدور العراقي والسوري
كان هناك رابط عضوي بين التنظيمات الإرهابية في كلّ من العراق وسوريا، وقد أشرنا في هذا التقرير إلى الدور السوري في دعم التنظيمات الجهادية العراقية، أثناء الغزو الأمريكي، ثمّ رغبة النظام السوري القوية في تحويل منطق الصراع في سوريا من منطق الثورة الشعبية إلى منطق الحرب على الإرهاب، وكان هناك أيضاً رابط عضوي بين الأنظمة السياسية الحاكمة في البلدين، تمثل في النزعة الطائفية في فهم، وتعريف الإرهاب والتنظيمات الإرهابية؛ لذلك ظلت قوائم الإرهاب في كلا البلدين، حتى الآن، محصورة في التنظيمات التابعة للمذهب السنّي فقط، رغم وجود عشرات الميليشيات الشيعية الإرهابية المنتشرة في البلدين.
بعد سقوط الموصل لم تكن واشنطن تملك إلا أن تتحرك عسكرياً ضدّ داعش في العراق حتى وإن كانت لها يد أمنياً فيما حصل
وقد يكون للدولة السورية يد فيما جرى من احتلال الموصل، وقد وردت تسريبات قبل شهر من هجوم داعش على المدينة، حول رسالة نقلها أحد مستشاري الرئيس السوري إلى الرئيس العراقي المالكي، والتي يبلغه فيها أنّه عازمٌ على فتح الحدود العراقية-السورية أمام التنظيمات الإرهابية، لتتمكن من مغادرة الأراضي السورية بعد التقدّم الذي أحرزه الجيش السوري على الأرض.
ولا شكّ في أنّ جزءاً كبيراً مما جرى في احتلال “داعش” لأجزاء واسعة من العراق، كان بسبب الاحتقانات الطائفية التي أفرزتها سياسات حكومة المالكي، وأنّ للعشائر العراقية السُّنية، ورجال الدين السُّنة، وبقايا حزب البعث، والجيش العراقي السابق، في المناطق ذات الأغلبية السُّنية دورٌ بارزٌ في دعم انتشار التنظيم، وفور انسحاب القوات العراقية، تشكلت لجان شعبية، وإدارات محلية لتنظيم شؤون الحياة؛ ما يؤشر على وجود عقلية دولة في إدارة الصراع في هذه المناطق، وقد عملت القوى العراقية السُّنية (العشائر، وبقايا البعث، والجيش)، على التنسيق مع دول إقليمية، وحاولت التواصل مع الجانب الأمريكي، بهدف استثمار سيطرة داعش، من أجل إسقاط حكومة المالكي، والضغط على إيران سياسياً، واستنزافها عسكرياً واقتصادياً، لإيقاف توسُّعها في المنطقة. لكنّ واشنطن كان لها رأي آخر.
نقلا عن حفريات