عبدالصمد بن شريف وسؤال هل الصحافي مؤرخ اللحظة؟
هل يمكن أن يتحول الصحافي مؤرخا للزمن الراهن أو الساخن أو اللحظي؟ وهل يمكن اعتبار ما يقدمه الصحافي من أخبار وشهادات، وما يوفره من وثائق مكتوبة وسمعية وبصرية ومصورة، مادة يمكن أن تدخل في نطاق تاريخ الزمن الراهن، ويمكن أن يستفيد منها المؤرخ؟ وما هي المسافة والعلاقة القائمة بين الصحافي والمؤرخ؟ وهل ثمّة تكامل أو تداخل بين الطرفين؟
ويعتبر المفكر المغربي، عبد الله العروي،الذي اشتهر بمؤلفه «الايديولجيا العربية المعاصرة» وكتب أخرى كرسها لمفاهيم ممختلفة كالتاريخ والحرية والدولة والعقل وغيرها من المفاهيم ،يعد من القلائل الذين استوقفهم تاريخ الزمن الراهن، فآثر عبارة التاريخ الفوري حينا والتاريخ اللحظي حينا آخر، وكان له موقف واضح في رفض هذا النوع من التأليف التاريخي الذي نعته بتاريخ الصحافيين. وهو ممن أطلقوا صفة الصحافي «مؤرخ اللحظة»، ما يفيد بأن وظيفة الصحافي نقل الأحداث والوقائع، وجمع أكبر قدر من المعلومات والأخبار عن الحدث الذي يغطيه، والتأكد من مصداقية المصادر وصحة المعلومة، حتى لا يسقط في فخ التضليل، وينشر الأخبار الزائفة. من هنا، تنبع شرعية إطلاق صفة مؤرخ اللحظة على الصحافي.
يرى العروي أن الفكر التاريخي لا يعني الفكر في مجال التاريخ فقط، وإنما هو إدخال البعد التاريخي في أي دراسة كانت، وكيفما كان الموضوع، بل وحتى خارج مجال الفكر، وهو ما يبين أن «الفكر التاريخي يقوم على نوعٍ من النظرة إلى الأشياء، وإلى الحياة». كما أن «الفكر التاريخي لا يتنبأ بالمستقبل، إضافة إلى أنه لا يدّعي أنه أحسن أنواع التفكير وأرقاها، لأن هذا حكم فلسفي، ولا يدّعي الحقيقة الدائمة. ويمكن اعتبار «خواطر الصباح» للعروي، بأجزائها الأربعة، والتي تغطي 40 سنة في شكل يومياتٍ التقطت أحداثا لعبت فيها الذاكرة دورا مركزيا، وقرأها الكاتب بخلفية المفكر المؤرخ، أقول يمكن اعتبار هذه المذكرات من أشكال تاريخ الزمن الراهن، لأن العروي كتبها بمنطق الصحافي، قبل أن يضفي عليها البعدين، التاريخي والتأويلي..
منذ أن أصبح التاريخ علما مستقلا يستند إلى منهجية وقواعد بحث وتمحيص وتدقيق واضحة، ومنذ أن أخذ العمل الصحافي شكله مهنة قائمة الذات نهاية القرن التاسع عشر، أصبح المؤرخون والصحافيون متخصصين، كل طرف يشتغل في مجاله. وعلى الرغم من ذلك، ظل المؤرخون يستخفّون بالإنتاج الصحافي ذي الصبغة التاريخية، حيث الاعتقاد أن التاريخ رصين وعميق ومتأن، والصحافة ساخنة ومتسرّعة وغير مستقرة. ومع ذلك، تذهب أغلبية الآراء إلى أن هناك تقاطعا بين الصحافة والتاريخ، وليس اختلاطا، وأن مساحات التكامل والتقاطع بين الصحافي والمؤرخ موجودة، من منطلق أن الصحافة توفر المادة الخام الأولية للتاريخ. غير أن حالة التماهي تبقى مستبعدةً، إذ يظل المؤرخ مؤرخا والصحافي صحافيا، ووحده المؤرخ يستطيع أن يضفي على وقائع الراهن وحوادثه قيمةً ودلالة تاريخية، بفضل المناهج التي يعتمدها، والمرجعيات التي ينهل منها والمعرفة التاريخية العميقةالتي يتسلح بها .
الصحافي الجيد هو مؤرخ الزمن الراهن وإن كانت تقلل من مصداقيته وقوة حجتة نتائج استطلاعات الرأي التي تُنجز خصوصا في الغرب حيث يظهر استطلاع للرأي أجري عام 2015 في فرنسا أن حوالي 53% يرون أن الصحافيين غير مستقلين في مواجهة إغراءات المال وضغوطه ويعتبر 58% أن الصحافيين غير مستقلين أمام ضغوط السلطة والأحزاب السياسية ومن هنا السؤال المقلق: كيف يمكن أن نمنح ثقة ولو نسبية إلى وسطاء نشك في استقلاليتهم ونزاهتهم المهنية.
عموما لا يبحث الجمهور عن علماء السيميولوجيا، وإنما عن مؤرخي الزمن الراهن، وهنا يصبح مفهوم الصحافي هو الشخص الذي يكشف النقاب عن معنىً لحدثٍ ما، معنىً لم نفكر فيه، ويضعه في السياق مع مقارنته بوقائع تاريخية. ويقدّم الوقائع المنتهية، بوضوح تام، مقارنة مع الأحداث الجارية، فالوقائع البشرية لا تأخذ معناها إلا فيما بعد..
وتعتبر المؤرخة جيريمي تامياتو (دكتوراه من جامعة باريس 1) ،الإنتاجات الصحافية مصادر أساسية.فالصحافيون، حسب رأيها، شهود على زمنهم، مثل إدغار سناو، الصحافي الأميركي الذي كتب أعمالا عن تطور انتشار «القواعد الحمراء» في الصين في ثلاثينيات القرن الماضي، فكانت ريبورتاجاته ألغاما صحافية. وتضيف تامياتو» إن الصحافيين ليسوا حتى مؤرخي الزمن الراهن، لأن الدقة تنقصهم، ويتسمون بالعمومية، ويتحدثون من دون تمثل جيد لأي موضوع، فيما يمتنع المؤرخون عن الحديث عن القضايا الشاملة أو العامة .تحليلات الصحافيين دائما محدودة وقصيرة النفس، ويتصف ما يقولونه بالتبسيط»
وتؤاخذ تامياتو الصحافيين على التسرّع في إطلاق بعض المصطلحات، مثلما وقع مع الثورات العربية، فهي ترى أن الثورات لا تقع في سنة أو سنتين، وتؤكد أن الحراك الذي حصل هو بالفعل ينخرط في مسارٍ ثوري، لكنه لم يكتمل.وهذا ما يدفعها إلى القول: إن الصحافيين يعوزهم الصبر، ومتسرّعون، وعليهم أن يلتزموا الحيطة والحذر.
وتعتبر الصحافية المستقلة، والمراسلة الحربية، «صوفي نفيل كاردينال» التي غطت بشكل خاص أطوارا من الحرب الجارية حاليا في سورية، أن الصحافيين هم شهود، بمعنى أنهم مصادر محتملة وغنية بالنسبة للمؤرخين.
وتضيف «رأيت في إدلب القصف، وأستطيع أن أشهد على ما رأيته، وما عشته، وما شعرت به لإعادة بناء الخيط الناظم للتاريخ، صوري يمكن أن تصلح أرشيفا، علما أن ما أقدمه هو رؤية ذاتية للواقع، وعلى المؤرخين أن يقوموا بالعمل الأساسي». وفي ردّها على المؤرخة تامياتو، تقول: «لست مؤرخة. لا أمتهن التاريخ. وفي المقابل، أحكي قصصا.
لدى الصحافيين آفاق أضيق من المؤرخين. نحن نتعامل مع الآني، بينما يأخذ المؤرخون الوقت الكافي لإعادة بناء كرونولوجيا أحداث لفهمها، وهذا دورهم وليس دورنا. فأنا أحكي قصصا للفت انتباه المشاهدين، وإثارة اهتمامهم. لأنقل لهم ما يجري وما يحدث. شروط عمل الصحافي تختلف جذريا عن شروط المؤرخ، فالصحافي يفكر في إطار الصورة وزاوية التقاطها في الحين وفي شروط صعبة. وفي مرحلة التوضيب، يأخذ بعض المسافة، ولكن ليس بالقدر نفسه عند المؤرخين. لأن دورهم مهم لتدقيق الأمور، وهنا تكامل بين المهنتين». وتستنتج صوفي كاردينا، في تعقيبها على تامياتو، أن سقوط حسني مبارك في مصر وبن علي في تونس لحظتان ثوريتان، وأنه يمكن اعتبار ما جرى في ليبيا وسورية بمثابة ثورات وانتفاضات شعبية. وتضيف «أكيد هناك خلط والتباسات، فالأحداث الجارية ليست كلها متماثلة ومتشابهة، ولكن لم يتسرع الصحافيون في تسمية ما جرى ثورة، وتوضح أن المصطلح استعمل لأنه يتطابق مع متخيل جماعي».
وكما يقول العروي في محاضرة ألقاها في أكتوبر 2012 في الدار البيضاء «الحديث عن الشهادة البشرية والشهادة المادية عند المؤرخ، كما عند القاضي، يتأرجح ما بين التفاضل والتجاوز والتدارك، وأحيانا التزامن والتماثل». وأورد أنه لا يرى عيبا في أن يأخذ القاضي بإقرار المتهم لكي يحكم أو يعفو، كما لا يرى عيبا في أن يأخذ المؤرخ بالرواية، فيصحح أو يؤكد واقعة ما. وخاطب جمهور محاضرته: ليأخذ كل واحد منكم بالتجاوز أو بالتماثل.
وتأسيسا على ماسبق نتساءل عن المسافة القائمة بين الصحافي والمؤرخ وعن مدى أحقية اعتماد المادة الصحافية المكتوبة والمصورة وسيلة يعتدّ بها للتأريخ، مؤكدين في الوقت نفسه أن الممارس للصحافة يلعب دورا أساسيا في توفير المادة الخام ووصفوا الصحافي بـ”المغامر والمجازف الذي يستلّ الخبر والمعلومة من قلب المعركة ليقدمها إلى المؤرخ الذي يمنحها معنى”
وقالوا إن المؤرخ، على عكس الصحافي، يدقق ويمحص ويتعمق أكثر، بحكم صرامته العلمية والمنهجية، فيما اشتغال الصحافي تحكمه الأخلاق أولا، والقيم والمبادئ، وكذا الخط التحريري للمؤسسة المشغلة.
مسلّم به أن مؤرخ اليوم يجد نفسه أمام إكراهات جديدة، حيث تفرض عليه الثورة التكنولوجية تفاعلا وتجاوبا حتميا، ولا يمكن أن يبقى على هامشها، وهي تكتسح العالم، فقد فرضت التحولات التكنولوجية المتسارعة، وهيمنة منصات التواصل الاجتماعي نفسها، أداة عمل لا محيد عنها للمؤرخين، ولكن يتطلب التعامل معها قدرا عاليا من اليقظة والحيطة.
وفي فك الاشتباك الحاصل بين الصحافي مؤرخ اللحظة والمؤرخ المحترف والرصين، عُرف الراحل محمد حسنين هيكل بأنه مؤرّخ مصر الحديثة وكاتب السلطة وصديق الحكام وصانعهم، والمقرّب من مراكز صناعة القرار، لكن كل تلك الألقاب لم تكن تغريه، فقد كان فخورا بلقب الصحافي. وينسحب الشيء نفسه على الصحافي والنقيب والكاتب والمؤرخ والوزير والدبلوماسي الراحل المغربي، محمد العربي المساري، فعلى الرغم من تقلده كل هذه المناصب، ظل دائما يعتز بلقب الصحافي، وكان شغوفا بمهنته وعاشقا لها..
المصدر: المغرب صحيفة تونسية