ميديا و أونلاين

وداعا أيها الزميل النبيل… محمود معروف

بقلم محمد عبدالحكيم دياب كاتب مصري

في الخميس الثالث من هذا الشهر (سبتمبر 2020) تركنا الزميل محمود معروف فجأة ومضى على غير عادته، ولم يُتح لنا فرصة وداعه، وكان رحمه الله لا يتوانى عن أداء واجب وتقديم معروف، وحقا كان له من اسمه نصيب، فهو السَّبَّاق دوما. وأراد ألاَّ يثقل علينا، مع أنه يعلم أن كلمة أخيرة أو نظرة وداع تخفف من وقع الصدمة وآلم الفراق الذي حل بمحبيه وزملائه ومعارفه وأصدقائه، وعزاؤنا أنه لم يكن يقصد، ولا كانت تلك رغبته، والعزيز محمود معروف كان أكثر من زميل، ولا أغالي إذا قلت كان أكثر من شقيق منذ عرفته في ربيع 1997، ولقاؤنا الأول كان في الدار البيضاء، واصطحبني إلى الرباط؛ حيث مقر صحيفة «القدس العربي».

وأصول محمود معروف تعود لقرية «دير القاسي» عكا، ونشأ وترعرع خارجها فقد ولد سنة 1953 بعد عام النكبة 1948، وأتم دراسته في العراق، وبدأ مشواره الإعلامي مع المركز العربيّ للمعلومات في صحيفة «السفير» اللبنانية، ثم حط رحاله في وكالة «القدس برس» وكان يملكها الراحل حنّا مقبل؛ أحدُ مؤسسي «الاتحاد العام للكتاب والصحافيين الفلسطينيين» وعمل مراسلالها في المغرب، وبعد استشهاد مقبل في قبرص عام 1984 أُغلِقت وكالة «القدس برس» واستمر محمود معروف في المغرب، مراسلالمجلة «الأفق» الأسبوعّية، وكانت تصدر من قبرص، ومراسلا لمجلة «الحوادث» اللبنانية التي انتقلت إلى لندن بسبب الحرب الأهلية اللبنانية. وفي عام 1989 ساهم في تأسيس صحيفة «القدس العربي» واستمر مديرا لمكتبها في الرباط لأكثر من ثلاثين عاما حتّى واتته المنية.

ويعد محمود معروف من الشخصيات الصحافية والإعلامية المتميزة والنشطة دفاعا عن القضية الفلسطينية، ونال تكريما مستحقا تقديرا لدوره ونشاطه المستمر لأربعة عقود؛ حاز خلالها على العديد من الجوائز؛ آخرها تكريم وزارة الثقافة الفلسطينية على المساهمة البارزة، والمشاركة المستمرة في المجهود الإعلامي المغربي والعربي، ورَفْع اسم فلسطين وتعزيز مكانتها في الأوساط السياسية والثقافية والإعلامية المغربية وغير المغربية، وإضافة إلى ذلك احتل الراحل الكبير مكانة بارزة بين الحقوقيين والإعلاميين المغاربة.

وقد جسد الهم الفلسطيني، ووقع على كاهله وصبغ تجربته الشخصية، كابن أسرة تشردت على أيدي المغتصبين الصهاينة، واستقرت أسرته بعض الوقت في ليبيا، خلال فترة صراع وتمزق، مع نكسة 67، وأيلول الأسود، ثم الحرب الأهلية اللبنانية، وكامب ديفيد، والمقاومة الفلسطينية للقوات الطائفية والانعزالية والصهيونية في بيروت، وفي صبرا وشاتيلا، وكان يحمل كل هذا على كاهله، من دون أن يسفر عنه فقد كان مقترنا به وجزءا منه.

عاش في المغرب كأحد أبنائه واندمج فيه، وقد أحسن المغاربة وفادته ولم يُشعروه بالغربة، وأكرموه وهم يشيعون جثمانه إلى مثواه الأخير، وقد حضر التشييع، الذي جرى وسط إجراءات احترازية شديدة؛ حضره شخصيات سياسية وثقافية مغربية وفلسطينية؛ بينهم سفير فلسطين في المغرب، الذي أشاد في كلمته بدور ومناقب الراحل ومسيرته التي كرسها للدفاع عن القضية الفلسطينية، ونوه السفير إلى العلاقات الطيبة والقوية التي أقامها مع مختلف القوى والشخصيات المغربية؛ عاش في المغرب وانتمى إليه بمثل ما انتمى لوطنه وأرضه في فلسطين.. وانطبق عليه وصف مودعيه المغاربة «كان محمود معروف فلسطيني الأصل مغربي الهوى».

ولم يقتصر تأثيره وحضوره على فلسطين وقضيتها، وكان له تأثير عربي كبير، وكان الهم العربي من أكبر همومه، وتجلى ذلك في مشاركاته ومحاضراته وأحاديثه ومقابلاته في كل دور انعقاد سنوي لـ«المؤتمر القومي العربي» الذي انعقدت دورته الأولى بتونس عام 1990، وينعقد سنويا بشكل دوري، ويتجدد انتخاب أمينه العام كل ثلاث سنوات، وهو إطار أهلي ذو طابع فكري سياسي جامع؛ لشخصيات؛ ذات توجه قومي، ويعتبر المؤتمر امتدادا لـ«المؤتمر العربي الأول»؛ المنعقد في باريس عام 1913.

كان محمود معروف كالنحلة، تنطلق وتتحرك في كل اتجاه، يمتص رحيق الزهور والنباتات ويحولها لعسل فيه شفاء، وكان شخصية محبوبة لها جاذبية؛ تشد الناس إليها، وهم بدورهم ينشَدُّون إليها

وكان محمود معروف كالنحلة، تنطلق وتتحرك في كل اتجاه، يمتص رحيق الزهور والنباتات ويحولها لعسل فيه شفاء، وكان شخصية محبوبة لها جاذبية؛ تشد الناس إليها، وهم بدورهم ينشَدُّون إليها، وكم من مساجلات وحوارات ثارت أثناء دورات «المؤتمر القومي العربي» السنوية، وكانت أكبر إنجازاته إتمام «المشروع النهضوي العربي» واستغرق إعداده عشر سنوات، وارتكز على 6 مبادئ هي: «الوحدة العربية، الديمقراطية، الاستقلال الوطني والقومي، التنمية المستقلة، العدالة الاجتماعية، والتجدد الحضاري».

وشهدت الدورة الرابعة عشرة للمؤتمر؛ عقدت في صنعاء عام 2003؛ شهدت حراكا ديمقراطيا، وكان مقررا فيها انتخاب أمانة عامة جديدة، وأمين عام جديد، وأثناءها بزغت فكرة تطوير أداء المؤتمر، وذلك بتعميق الديمقراطية والانفتاح وتداول موقع الأمين العام من خلال منافسة حرة، وكانت التزكية نهجا متبعا في اختيار الأمين العام، ونشط الراحلان محمود معروف ومحمد عبد المجيد منجونة؛ الوزير السوري الأسبق مع عدد من الأعضاء، وتم الاتصال بشخصيات للترشح، ومع حفظ الألقاب، كان من بينهم المفكر الراحل أحمد صدقي الدجاني، والوزير المصري الأسبق محمد فايق، ورئيس وزراء اليمن الأسبق محسن العيني، وعدد آخر من الشخصيات، واعتذروا جميعا، ولم يبق إلا الاجتماع بالأعضاء المصريين في المؤتمر وكانوا الأكبر عددا، وتم الاجتماع بهم في وقت متأخر من ليلة الانتخاب، وباستطلاع رأيهم في إعمال مبدأ المنافسة في انتخاب الأمين العام أقروه، وتأكدوا بأن الأمر ليس أمر نجاح أو فشل، إنما أمر وضع آلية المنافسة موضع التنفيذ، وتركها لتنضج مع نضج المؤتمر وتطوره، فتتحول إلى تقليد ثابت، وطُلِب من حمدين صباحي الترشح كأمين عام، فاعتذر وأبدى أسبابا وجيهة؛ هي استعداده الترشح لانتخابات مجلس الشعب المصري، ومن الصعب عليه خوض معركتين في وقت متقارب، ووافقه الجميع فيما طرح.

وطرأت على الذهن فكرة بنت لحظتها، وطلبنا رأيهم فيها، قلنا ماذا لو تقدمت أنا للترشح، فصمتوا، وأحسسنا بقلق بدا وكأنه قلق الخوف بعدم الحصول على أصوات ذات قيمة قد تهتز الصورة، وأمام ذلك القلق قلت: أنا أعرف طبيعة علاقتي بالأعضاء، ومن الممكن بسهولة أحصل على ثلث الأصوات، وترشحي ليس للنجاح أو الفشل، انما لإرساء قاعدة وحق غائب بشأن انتخاب الأمين العام، فقالوا إذا حصلت على نصف العدد المتوقع فلا مانع، وتقدم على بركة الله، ولم يبق على موعد الانتخاب سوى ساعات، وتركتهم إلى ساحة الفندق، وأعلنت ترشحي لمنصب الأمين العام، وهو شيء لم يكن في الحسبان على الإطلاق.

وعلى عجل ارتجلت وأنا أقدم نفسي للجمعية العمومية؛ ارتجلت برنامج عمل تعهدت بتنفيذه، وأهم ما فيه نقل مقر المؤتمر القومي العربي للقاهرة، فتعود لها مكانتها العربية، وتبقى بيروت مقرا ثانيا، ومع انتهاء التصويت بدأ فرز الأصوات، وحصلت على الأصوات المتوقعة، وكانت نقلة ومنافسة نظيفة، وتقدمت بالتهنئة للأمين العام الجديد؛ قائلا: أنا من جنودك، فما بيننا كان منافسة حرة وليست صراعا، وجاءني المهندس والأديب والنقابي القومي الراحل وهدان عويس أمين سر نقابة المهندسين الأردنيين الأسبق، وقدم لي التهنئة قائلا: «تمنيت أن أكون خاسرا مثلك» وهذا أضفى مرحا على الجو العام، وتحولت النتيجة لمصدر للمرح والضحك.

وأذكر أن المجاهد الجزائري الكبير عبد الحميد مهري كان كلما نتقابل يقول لي: كاد أن ينجح؛ وهي عبارة عن والد تلميذ أعيته الحيل كي ينجح ابنه في دراسته، وأتى بمدرس يساعده، وظهرت النتيجة ولم يوفق الابن كالعادة، فذهب الوالد إلى المدرس، وبمجرد أن رآه المدرس بادره قائلا: «كاد أن ينجح»!!

وكانت هذه صحبة تجمعنا بالفقيد العزيز والراحل الكبير محمود معروف، وتستهدف دائما الخير والمصلحة والتعاون على ما ينفع الناس، وتجارب مفيدة وجادة؛ أضفي عليها فقيدنا روح البهجة والمرح، وتركت ظلالها وبصماتها وروائحها الذكية على كل من اقترب منه.

رحمك الله يا محمود رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وألهم زوجتك الأستاذة بحرية وبناتك وذويك الصبر والسلوان.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المصدر: القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى