عبدالرحمن العمراني: النقاش العمومي بالمغرب راهنا يعرف انحسارا…
متابعة وتغطية: الكاتب علي بنساعود
اعتبر الأستاذ عبد الرحمان العمراني أن الفعل السياسي لا يمكن أن يستقيم إلا إذا تم إغناؤه باستمرار من طرف المثقفين والمفكرين، لأن السياسة، حسبه، بدون معرفة عرجاء والمعرفة بدون سياسة عمياء، غير أن العلاقة بين السياسي والثقافي، بالمغرب، الآن، علاقة ملتبسة ومضطربة، وهو وضع ينبغي على المجتمع ونخبه العمل من أجل تصحيحه، والتصحيح، حسبه، لا يمكن أن يأتي فقط بالخوض في التقنيات أو الجدل والبوليميك بين مختلف المكونات، بل ينبغي تأسيسه بمعطيات منضبطة، وأن يكون الهاجس هو الالتزام والمعرفة اللذين لابد أن يسيرا جنبا إلى جنب.
واستطرد الأستاذ العمراني موضحا أن “النقاش العمومي في الفضاءات السياسية، كما كان موجودا في مغرب السبعينات والثمانينات والتسعينات… يعرف انحسارا راهنا” واستشهد على ذلك بالقول “يبدو لي، مثلا، أن النقاش في مجال الفكر الاقتصادي موجود في المغرب لكن يطغى عليه الطابع التقني، وهذا ليس عيبا أو مشكلا، بل المشكل هو أن الإنتاجات الفكرية والمعرفية والإعلامية التي يمكن أن تقدم النقاش محدودة للغاية، عكس ما هو موجود في الغرب مثلا، حيث نجد كبار المفكرين الاقتصاديين لهم زوايا صحفية ثابتة يكتبونها بانتظام، في أ‘رق المنابر الدولية، مرة أو أكثر كل الأسبوع… وحينما نقرأ لهم، تشعر بأن الذي يتكلم ليس هو الاقتصادي، بل المثقف العالم بالقضايا العامة، المنصت لصوت الشارع… والمؤسف هو أن هذا النوع من الكتابات، بصفة عامة، تقلص بشكل كبير في بلادنا.
جاء هذا خلال استضافة الأستاذ العمراني، وهو الرئيس الحالي للجنة الجهوية لحقوق الإنسان فاس_مكناس، وبرلماني سابق عن الاتحاد الاشتراكي، وأستاذ جامعي سابق، مساء السبت 04 يوليوز الحالي، مباشرة، عبر منصة الفيسبوك، في إطار حلقات أكورا للثقافة والفكر، التي دأبت جمعية أكورا للثقافة والفنون على تنظيمها منذ بداية الحجر الصحي، وكان محور الحلقة: “إرهاصات اشتراكية تشاركية للقرن 21، قراءة في أعمال توماس بيكيتي” أدارتها بتميز الأستاذة سعاد الشنتوف.
وفي نقاشه لأعمال توماس بيكيتي، اعتبر الحقوقي أن المغرب يمكنه أن يستفيد من النموذج الذي يقترحه المفكر الاقتصادي الفرنسي توماس بيكيتي على صعيد القيم، وهو نموذج يدعو إلى وضع الفوارق الاجتماعية في بؤرة اهتمام التحليل الاقتصادي والملابسات الاقتصادية العمومية، للتغلب عليها، وهذا أمر لا يمكن أن يختلف أو يتجادل حوله أحد…
أما عن نموذج التدخل وتقنياته وهندسته وهل سيتم ذلك بإعانات الدولة ومساهماتها، وهل سيكون هذا حلا ناجعا أم لا، فأوضح أنه يميل إلى الحل الكينيزي ورزمة الحماية الاجتماعية، أي أن تصبح بؤرة اهتمام الساحة العمومية هي قضايا التعليم والصحة والسكن والنقل العمومي…
وأضاف المتدخل أن كل المؤشرات، بما في ذلك ما حصل خلال جائحة كورونا، والإجراءات التي اتخذتها مختلف البلدان، المتطورة منها والنامية، أعادت إلى الواجهة قضية الفعل العمومي، وتدخل الدولة، والدولة الاجتماعية، بل إن أمريكا، مثلا، وهي أكبر دولة في العالم، أعطت دعما مباشرا للعاطلين، وقدمت لهم شيكات بنكية…
وأكد المتدخل: “أنا شخصيا أميل لنموذج الحياة الاجتماعية، لأنني أظن أنه، بالنسبة لخصوصياتنا وللخصاصات التي راكمناها، وبالنسبة لمداخل الهشاشة التي بينتها الجائحة، أظن أنه حتى تلك المساعدات العينية لم تقض على الفقر في المغرب، وبينت أن هناك فعلا فوارق معيشية شاسعة جدا…”
وهذا يبين، حسب العمراني، أن ما يمكن أن نتعلمه من طرح بيكيتي يقوم على مستوى القيم، وعلى مستوى مناهضة هذه الفوارق، والدعوة إلى تبني إجراءات قد تختلف من بلد لآخر، فيما يخص بناء إطارات سياسية جديدة من شأنها أن تقلب المنحنى الحالي، أي أنه يجب الانطلاق من مرجعية مبدئية على مستوى القيم، مع الاجتهاد على مستوى كل بلد، بناء على مستوى حجم الفوارق، والديناميات التي قامت على الفقر… فمثلا، يقول رئيس اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان: “رغم أن سياسة التقويم الهيكلي انتهت بالمغرب منذ مدة، فإن فكرها لايزال قائما، بل يشكل واحدة من الديناميات التي تؤدي إلى تنامي الفوارق الاجتماعية، وتدهور المرفق العام والخدمات الاجتماعية!!!”
ولأنه ليس هناك قانون عام أو وصفة جاهزة صالحة لكل البلدان، للتصدي للفوارق الاجتماعية، يضيف الأستاذ العمراني، ينبغي علينا التشبث بالقيم والمنطلقات الأساسية الإيتيكية والسياسية للعدالة الاجتماعية، وأن نجتهد ونبدع في وضع اللبنات الأساسية للسياسات العمومية التي من شأنها أن تقلص من الفوارق…
وردا على تعليق لأحد المتتبعين جاء فيه: “لو كان توماس بيكيتي مغربيا لألف كتابا بعنوان: “الرأسمال والريغ” باعتبار الريع واحدا من الوسائل الاجتماعية والسياسية التي يحافظ بها الحاكمون في المغرب على السلطة… أجاب الأستاذ العمراني: “المداخل تختلف حسب البلدان، فمثلا (الريع) لا يشكل هاجسا ومشكلا في فرنسا أو بريطانيا… بنفس الحجم والحدة التي له في المغرب وبلدان أخرى تشبهنا وفي نفس وضعنا الاقتصادي، وبالتالي، فهو يمكن أن يشكل هنا مدخلا، لكنه في أماكن أخرى لن يكون كذلك…”
وبخصوص توماس بيكيتي، أشار الأستاذ العمراني إلى أنه مفكر يدرس الاقتصاد في باريس، ويشرف على قسم في المعهد العالي للدراسات الاجتماعية بالمدينة نفسها، وتكمن أهميته في أنه ينتمي إلى تيار جديد من الاقتصاديين المجددين…
وميزته، حسب رئيس اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان، هي أنه، بعدما عاش العالم، خلال عقدين من الزمن، على فكرة أن الاقتصاد يمكن أن يستقل بذاته، وبعدما كاد الاقتصاد أن يتحول إلى نوع من التخصص الضيق الذي يضع مسافة بينه وبين مختلف العلوم الاجتماعية الأخرى، توفق هذا المفكر الاقتصادي في كتابيه: “الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين” و”الرأسمالية والإيديولوجيا” (توفق) بشكل كبير في إعادة ربط الاقتصاد بالتاريخ، والسوسيولوجيا، وتاريخ الأفكار والفكر السياسي ودينامية الإيديولوجيات عبر العالم منذ القرن الثامن عشر، وهذا يحسب له.
ففي فصول كتابه الأخير، ومن خلال إشكاليته نفسها، أعاد ربط العلوم والمعرفة الاقتصادية والبحث والتقصي الاقتصادي بمختلف العلوم الاجتماعية الأخرى.
وهو، منذ البداية، حينما يدرس قضية الفوارق، يقول إن روايات بلزاك وجون أوستن، مثلا، كانت أكثر إجرائية، وأكثر وثوقية، في رصد بعض الظواهر والفوارق الاجتماعية، في المجتمعات الأوروبية، خلال مرحلة تاريخية معينة (أكثر) مما فعله الاقتصاديون أنفسهم… وهذا يبين، محاولة إدماج كل المعارف والرؤى في علم الاقتصاد حتى لا يبقى علما مفصولا أو منفصلا.
كما تكمن أهمية بيكيتي، حسب المتدخل، في أنه مثقف عمومي يؤمن بأن المعرفة الاقتصادية يجب أن تخدم أهدافا ترتبط بالصالح العام، وتؤدي إلى تحسين أوضاع الناس وتطوير واقعهم الاجتصادي.
وبهذا، يكون بيكيتي طرح أفكارا يمكن أن تجدد الرؤى وأفق الفعل السياسي بالنسبة للمجتمعات، خصوصا أنه، داخل اليسار، فُقِدت البوصلة بفعل تأثير النيوليبرالية، خصوصا أن أفكاره وأعماله تلتقي مع أعمال مفكرين واقتصاديين اشتغلوا على إشكاليات توزيع الثروة، وإعادة توزيعها، والمساواة في قلب المعرفة الاقتصادية والتحليل الاقتصادي.
وهذا ما يفسر أن بيكيتي، زار، خلال السنوات الأخيرة، العديد من الأقطار وضمنها المغرب، حيث استضافته مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد للثقافة والعلوم كما استضافته المكتبة الوطنية، وزار عدة بلدان بدعوة من معاهد ومراكز البحث والجامعات، كما استدعي من طرف تيارات سياسية يسارية ومنتديات اجتماعية ومجلات…
وبؤرة اهتمام بيكيتي في الكتابين معا، هي “انعدام التكافؤ والمساواة، وقضية القوارق الاجتماعية”، وذلك، من خلال دراسة الدينامية التاريخية والاستخدام المكتف لمصادر مرجعية هامة، لم تستخدم منذ زمن بعيد.
ومنذ البداية، يؤكد بيكيتي أن الحقل المعرفي الاقتصادي كان في حاجة إلى ألا يضل الحديث على الفوارق حديثا إيديولوجيا فقط، أو ينتمي إلى المجال الدلالي الإيديولوجي، بل أن يؤسس له بمعطيات، وأن يبين أن الفوارق ودينامية الفوارق هي مسلسل يمكن التدليل عليه تاريخيا وفي مختلف المراحل، عبر تقديم بعض المعطيات التي تبين فعلا أن تنامي الفوارق ليس خطابا سياسيا ولا إيديولوجيا فقط، بل هو واقع يجب أن يعرف كواقع، وهذا ما حاول التركيز عليه في الكتاب الأول على سبيل المثال.
وحين سألته مسيرة اللقاء سعاد الشنتوف عن أسباب نزول الكتابين، ولماذا لقيا إقبالا كبيرا في معقل الليبرالية والرأسمالية الولايات المتحدة الأمريكية، وخضعا لترجمات كثيرة؟ أوضح الأستاذ العمراني أن أسباب النزول متعددة، منها: الجانب العام، ويتعلق بتنامي الفوارق، إذ تبين أن مختلف السياسات الاجتماعية وإعادة التوزيع لم تمنع من تنامي الفوارق، وهذا إشكال كبير، فمثلا في الولايات المتحدة الأمريكية، على عهد الرئيس أوباما، لم تنقص الفوارق الاجتماعية رغم كل المحاولات والسياسات الضريبية، حيث لوحظ أن هذه الفوارق تتمنع عن المحاربة، فكل السياسات التي اتخذت، بما فيها من سياسات ضريبية واجتماعية، ومن ضخ للموارد في قطاعات اجتماعية وغيرها، لم تستطع التغلب عليها، بغض النظر عن السياسات الإيديولوجية المعلنة، حيث الدينامية نفس وجدناها مثلا في فرنسا والحكومات الاشتراكية التي جاءت في بداية الثمانينات وبعدها، تعاملت مع الأمر الواقع، فتبين، من خلال الدراسة، أن مؤشر انعدام الفوارق لم يتوقف بل ظل يتزايد.
وفي إطار تفسير دينامية تسارع الفوارق يضيف بيكيتي أن انهيار المنظومة الشيوعية في نهاية الثمانينات، أثر بشكل كارثي، لأنه عمليا قطع أفق التفكير في بدائل عما يسمى بنظام الملكية أو نيو بروليتاريزم.
هذا الحدث الدولي الكبير، المتمثل في انهيار المنظومة الشيوعية، كان من نتائجه أن أقفل الأفق التاريخي في البحث عن بديل عن النظام الرأسمالي في شكله الحالي. أضف إلى ذلك مسألة هيمنة الرأسمالية المالية على أصناف الرأسماليات الأخرى، وعلى الرأسمالية الصناعية، وهو أمر يشترك فيه مع العديد من كبار علماء الاقتصاد الآخرين، حيث أصبح فتح الحدود بشكل لا محدود، أمام تدفق الرأسمال المالي، (أصبح) محددا للمنظومة الرأسمالية التي أصبحت منفلتة من كل ضبط، الأمر الذي ساهم في تعاظم الفوارق الاجتماعية، ومسألة تنامي الفوارق هذه ليست مسألة متعلقة بالخطاب السياسي والإيديولوجي، بل هي قبل كل شيء واقع.
ومجموع هذه العوامل هو ما أعطى للتفكير في معضلة الفوارق مشروعية اجتماعية، وسياسية ومعرفية أيضا…
وبخصوص “الاشتراكية التشاركية” التي يتحدث عنها بيكيتي في كتابه الثاني، والتي طلبت مسيرة اللقاء رأي الأستاذ العمراني فيها، اعتبر الأخير أن بيكيتي يعتبر الاشتراكية التشاركية العمود الفقري لكتابه، غير أن أساس المقترحات التي جاء بها ليس هو الدولة الاجتماعية، بل أساسها الضريبة وهي، حسبه، رافعة للتقليص من الفوارق الاجتماعية والوصول للمجتمع “الاشتراكي التشاركي” ويعطي مثالا بالضريبة على المواريث التي يجب أن تنتقل من خمسة في المائة إذا كانت ثروة الشخص تتجاوز نصف المعدل الوطني إلى تسعين في المائة إذا كان الدخل يتعدى عشرة آلاف مرة المعدل الوطني، وبين هذين المعدلين هناك تدرج في نسبة التضريب… كما قدم مقترحات مماثلة تهم الضريبة على الدخل وعلى الملكية والضرائب غير المباشرة التي يعتبرها غير عادلة ويقترح ضرورة حذفها، إذن ففي اشتراكية بيكيتي لا يتعلق الأمر بإلغاء الملكية الخاصة، بل بنقد التعلق بالملكية الخاصة، ويعتبر أن هذه الإجراءات سوف تلغي الرأسماليين الدائمين وسيصبح عندنا راسماليين مرحليين يتغيرون حسب التضريب…
وأضاف العمراني الشيء الأساسي الذي يُحْسَب لبيكيتي هو الربط الجدلي الذي فصل فيه بين الفوارق كنتيجة غير عادية لدينامية اقتصادية وبين الإيديولوجيا التي تبرره، واستجضر أعمال بعض المفكرين الاقتصاديين الذين بنوا أعمالهم حول الفوارق الاجتماعية، وكانوا يعتبرون أن التطور والتنمية يفيدان الجميع، ولا يستفيد منها الراسماليون فقط، واعتبر أن هذه كانت مسلمة فكرية في العلوم الاقتصادية، وعلى أساسها تم نحث مصطلح “السيلان” ويفيد أن الخير إن جاء تدفق وعم الجميع، عبر الأجور وغيرها، لذلك، يجب أن نشجع الأغنياء ونفسح لهم المجال للمزيد من الاغتناء… وهذا شيء غير صحيح، حسبه، وقدم أمثلة متعددة على ذلك منها مثال الرئيس الأمريكي الأسبق ريغان الذي قام مشروعه على تخفيض الضرائب على المستثمرين، لكن الذي حدث، حسبه، هو أن هذا لم يتم، بل إن الناتج الداخلي الخام تقلص، وأن نفس الفكرة طرحها الرئيس ترامب… ولذلك، فإن تخفيف الضغط الضريبي، حسب بيكيتي، لا يؤدي بالضرورة إلى النتائج التي يبشر بها الاقتصاديون…