حيرة الأمير وغدر الزمان
متى كان قتل مواطن عربي جريمة؟
ما هذه اللغة الجديدة التي لا مكان لها في قاموس الأسرة السعودية، والمستبدين العرب؟!
أخطأ محمد بن سلمان في قراءة معنى القوة المالية التي يمتلكها. كان الأمير الممتلئ بكل أورام السلطة متأكداً من أنه يستطيع ما يشاء. اعتقد أنه رقّص العالم بأسره على إيقاع ملياراته، حين رأى دونالد ترامب يرقص في الرياض، وكانت خطته قائمة على دعامتين: ملياراته من جهة، والعلاقة الوثيقة بأمريكا وإسرائيل من جهة ثانية.
لكنه تعثّر حيث لم يكن يتوقع. ما معنى قتل صحافي في بلاد قطع الرؤوس والأيدي؟ ولماذا هذا الضجيج الإعلامي؟ ألا يحق لأمير قتل أحد رعاياه الذي انشق عن خدمة أسرة خدمها طويلاً؟ ألا يستطيع صديقه جاريد كوشنر، صهر الرئيس الأمريكي، إنقاذه؟ هل فرغت جعبة الأصدقاء كي يضطر نتنياهو إلى التوسط لدى ترامب؟
الأمير حائر من غدر الزمان، فعملية تقطيع الجثة وإذابتها بالأسيد كانت ناجحة، لا أحد سيعثر على جثة الصحافي، لأن الصحافي اختفى، مات الرجل وتحولت جثته إلى عدم أسيدي.
أخطأ محمد بن سلمان في قراءة معنى القوة المالية التي يمتلكها كان الأمير الممتلئ بكل أورام السلطة متأكداً من أنه يستطيع ما يشاء
ماذا يريدون من هذه الحملة المنظّمة التي تشارك فيها كبريات الصحف الأمريكية؟ يتساءل الأمير. هل يريدون مزيداً من المال؟ أم يريدون إضعاف ترامب؟ ولماذا يتردد الرئيس الأمريكي ولا يدعم الأمير إلّا بخجل مليء بالارتباك والعثرات؟
ألا يعلم مطلقو الحملات المغرضة أن الخاشقجي ليس أول عربي يُذاب بالأسيد بعد قتله، وأن أصابع الصحافي التي قُطعت سبقتها عشرات الأصابع المقطوعة؟ ما الجديد في الأمر؟ ولماذا يصرّ الرئيس التركي الذي يعتقل عشرات الصحافيين ويضطهد الأكاديميين في بلاده على الخروج بمظهر المدافع عن الديمقراطية؟
يعيش الأمير قلقاً وجودياً لم يختبر له مثيلاً من قبل. صحيح أنه خاض صراعاً مريراً نجح من خلاله في شلّ جميع منافسيه، وهو يعرف كيف يخوض هذا النوع من الصراعات، لكنه يجد نفسه اليوم أمام هول الرأي العام العالمي، وهو لا يعرف معنى هذه العبارة، بل ويحتقرها. فالأمير، كغيره من سادة النفط العربي، يعتقد أنه يستطيع أن يشتري أي شيء وكل شيء بالمال.
اشترى ليكتشف أنه لم يشترِ، فاللعبة معقّدة، والحلفاء يغدرون. لم يعِ الأمير أن لعبة التحديث التي استوحى نموذجها من الإمارات والمحميات المجاورة تضع الجميع في قلب معركة سياسية طاحنة تدور اليوم بين فاشية متجددة يقودها ترامب، وليبرالية تدافع عن مواقعها الأخيرة.
التحديث والدور العالمي، سياسياً واقتصادياً وسياحياً ورياضياً، يكشفان المستور كلّه، ويعرّضان دول الخليج للمساءلة. إنها لعبة معقّدة لا تستطيع شركات العلاقات العامة وحدها إدارتها وتبييض صفحات أنظمة تنتهك حقوق الإنسان بشكل يومي.
صحيح أنه اختار المعسكر الرابح، أو لنقل إنه وجد نفسه في الموقع الذي يقوده ترامب، لكن من قال إن المعركة حُسمت؟ ومن قال له إن هؤلاء العنصريين الشعبويين لا يكرهون العربي والمسلم بسبب هويته، ولن يترددوا في التضحية به عندما تصير الظروف ملائمة؟
ماذا يفعل الآن؟
هذا هو سؤاله الوجودي الكبير.
لنفترض أن أسياده الأمريكيين والإسرائيليين نجحوا في إبقائه في السلطة، وهذا ليس سهلاً، فبأي سلطة سيحكم الرجل؟ وكيف سيقود العرب إلى حلمه بالهيمنة عليهم في مركّب تحالفه الكبير مع الدولة الصهيونية؟
حيرة الأمير كبيرة، وهو اليوم لا يعرف الإجابة عن سؤال بسيط هو لماذا قتل الخاشقجي في إسطنبول؟ ألم يكن يعلم أن تركيا الأردوغانية لا تكنّ له الودّ، وتتحين الفرص للإيقاع به؟
لا تنتظروا منه إجابة، لقد سقط في الفخ الذي سقط فيه من سبقه من المستبدين، اسم هذا الفخ هو العُظامية. فالعُظامي لا خيار له سوى المزيد من التعاظم، والدخول في دائرة عماء القوة التي تجعله عاجزاً عن الرؤية.
من الطبيعي أن يشعر أنه قادر على فعل ما يريد خصوصاً وأنه دخل منطقة «الأمان» التي تقدمها إسرائيل
ألم يعتقل أمراء آل سعود وغيرهم من أصحاب المليارات ويسطو على أموالهم؟ ألم يأمر باحتجاز رئيس الحكومة اللبنانية وضربه؟ ألا يقتل كما يشاء في اليمن؟
من الطبيعي أن يشعر أنه قادر على فعل ما يريد، خصوصاً وأنه دخل منطقة «الأمان» التي تقدمها إسرائيل.
وفجأة، رأى الأمير نفسه وسط دائرة حملة شعواء.
الأمير محق في حيرته، لكنه نسي مسألة بالغة الأهمية، وهي ما يطلق عليه العرب اسم الأفول. فالحقبة السعودية التي ازدهرت بعد هزيمة حزيران، وفرضت هيمنتها على المشرق العربي عبر تحالفاتها المعقدة مع أنظمة الاستبداد العربية الأخرى، دخلت اليوم في مرحلة الأفول. وأفولها هو الفصل الأخير من أفول النظام العربي بجناحيه المستبدَين، ودخوله في دائرة التهميش والانحلال والاحتلال.
ما قام به الأمير، بصرف النظر عن مستقبل طموحه إلى العرش، ليس سوى حلقة ساعدت في تسريع مسار الأفول الجارف.
أما حيرته فلا يملك أحد دواء لها.
المصدر: القدس العربي