لطيفة البوحسيني تكتب: 8 مارس والتنديد بالاغتصاب كسلاح حرب ضد الفلسطينيات في غزة
في حرب الإبادة التي ينهجها الكيان الصهيوني، استُعملت كل الوسائل البشعة وكل ضروب المعاملة القاسية واللاإنسانية والمهينة، حيث يكمن الغرض والهدف المركزي في جعل الحياة مستحيلة في غزة. في تقرير لخبراء الأمم المتحدة، صدر في غضون شهر فبراير 2024، جاء فيه “أن ما لا يقل عن معتقلتين فلسطينيتين تعرضتا للاغتصاب”، وأن “أخريات تعرضن للتهديد بالاغتصاب والعنف الجنسي”. وهو ما يوضح أن الكيان الصهيوني، مثله مثل كل مجرمي الحرب في سياقات أخرى، لم يتردد في استعمال الاغتصاب ضمن أسلحته. وبالنظر لخصوصية هذا السلاح وطبيعته البشعة التي لا تقل بشاعة عن مختلف الأسلحة الأخرى، نعتبر أنه من الضروري التوقف عنده لتوضيح مراميه.
بداية، ينبغي التأكيد أن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني بمختلف مكوناته، برجاله ونساءه وأطفاله، بشيبه وشبابه هو جرائم متنوعة ومتعددة تضرب في الصميم كل ما شيدته الإنسانية من صروح للانتقال بالبشر من الهمجية إلى الآدمية. ولذلك، فكل ما يمارسه الكيان الصهيوني مرفوض ومُدان بنفس الدرجة والحدّة.
فباسم الحرية، نرفض الاحتلال الصهيوني الغاشم للأراضي الفلسطينية المدعوم من طرف الامبريالية المتغطرسة.
وباسم الكرامة الإنسانية، نرفض سياسة التجويع في حق الشعب الفلسطيني.
وباسم الحق المقدس في الحياة، نرفض الإبادة الجماعية والتدمير الممنهج لكل ما يسمح بإمكانية العيش.
وباسم الحق في تملُك الجسد ودفاعا عن قدسية الحميمية، نرفض الاغتصاب الجنسي للنساء الفلسطينيات وندين ذكورية الكيان الغاصب.
وباسم الدفاع عن الشرف، نُدين تجريد الرجال من لباسهم وعرضهم عُراة أمام الملأ بغية التنقيص من “رجولتهم” وتحطيم كبرياءهم.
هذه الأنواع من العنف والإهانة تلحق أضرارا لا يتعافى منها الإنسان أبدا ولا تُجبر كرامته مهما كانت المحاولات فيما بعد.
وضمن هذه الأنواع نُدرج اغتصاب النساء، الذي وبقدر ما يستهدفهن كذوات وككيان، فهو يسعى في نفس الآن لإلحاق العار بالجماعة كلها ومن بينها رجال الجماعة.
إنه اغتصاب يتوخى محو الشعور بالذات لدى النساء وإنكارا لكيانهن ووجدانهن، وفي نفس الآن قهر لكبرياء الرجال ومحاولة لقهر شوكة المقاومة في حالة الحرب على غزة.
إن اغتصاب النساء الفلسطينيات وهُن كاسيات، مُتدثرات وواضعات حجابهن على رؤوسهن، هو أكثر من مجرد اقتحام لحرمة جسدهن وتحد لاختيار طريقة لباسهن، إنه تعد على حرصهن ألا يبدين أي جزء من جسدهن اتقاء للنظرة الذكورية في المجتمع…فإذا بهن يُواجهن ذكورية فظة وفجة ووقحة ومتغطرسة، هي ذكورية عدو بشع وكيان محتل متسلط لا أخلاق له. عدو لا يتردد في اعتماد أبشع أشكال التعبير الذكورية.
إنه اغتصاب للنساء ولأجساد النساء، إنه اغتصاب لأشكال الزي واللباس، إنه اغتصاب للأعراف والتقاليد، إنه اغتصاب للديانة، إنه اغتصاب وضرب لمختلف العناصر التي نشأت المقاومة في ظلها وترعرعت بين ثناياها.
ذكورية هذا العدو عبّرت عن نفسها بمختلف الأساليب وبشتى الطرق الهمجية، ولم تنسى في حمأة بطشها الاغتصاب الجنسي الذي لا يترك أي ذرة شك في الذكورية المستفحلة التي لا تحقق مبتغاها إلا بالمرور عبر أجساد النساء.
الاغتصاب الجنسي هو محاولة لوضع نوع من التقابل بينه وبين اغتصاب الأرض…وهو بهذا المعنى سلب، ليس فقط لإنسانية المرأة بل كذلك لرجولة الرجال الذين اغتُصبت أرضهم وسُلبت منهم واحتُلت رغم أنفهم، كما اغتُصبت نساؤهم.
إنه بأحد المعاني طريقة لتمريغ كرامة الأمة في الوحل…والتأكيد على غطرسة العدو الذي يُلح على إبراز قوته في استباحة الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل.
يتولد عن الدنس الذي يمس جسد المرأة جراء الاغتصاب الشعور الدائم بالعجز عن محو آثار الجريمة واستحالة جبر الضرر الكبير، جسديا ونفسيا واجتماعيا…ضرر فردي يبصُم الذاكرة الفردية، ولكنه في نفس الآن ضرر جماعي يترك أثره على الجماعة برُمتها.
إن الاغتصاب سلاح فتاك نفسيا أكثر من مختلف الأسلحة الأخرى…فالمرأة المُغتصبة هي امرأة تفقد الإحساس بجدوى الدفاع عن أرضها ما دامت لم تستطع الدفاع عن جسدها.
إن الاغتصاب هو محاولة للعودة بالمرأة إلى عهود كانت تختزل وجودها في جسدها الذي لا يصلح إلا لاستمرارية النوع البشري ولتفريغ المكبوتات الجنسية، وتذكيرها بأنه وعلى الرغم من كل المحاولات لاسترداد كرامة النساء، فإنه وعند أول أزمة ولو عابرة، سرعان ما يعود هذا الجسد إلى الواجهة ومعه الحرص على الوظيفة التي أنيطت به منذ ما قبل محاولات رد الاعتبار لإنسانية النساء. وظيفة لا وجود فيها للمرأة الإنسانة، بل فقط الجسد الذي تدفن فيه العاهات النفسية المختلفة والتي تبرر الحرص على وضعه تحت المراقبة الفردية والجماعية.
إن الاغتصاب هو سلاح يسعى لمؤاخذة المرأة عن هويتها البيولوجية التي لم تكن اختيارا بمحض إرادتها، ويتم تحميلها مسؤولية نوعها البشري ووصمها بالضعف ومعاقبتها على وضع لا يد لها فيه. ولأنه جسد يحتفظ بدليل استمرارية النوع البشري، فقد وُضع تحت المراقبة وأصبح ملكا للجماعة، فقدت المرأة القدرة على التحكم فيه واستُبيح من طرف من يملك قوة ما. قد تكون هذه القوة معنوية (الرجل /الفرد)، أو مادية أو دولتية. إنه تملُك باستعمال قوة القهر الذي جعل النساء فيما بعد يثُرن ضده ويرفضنه ويُقررن أنه ملكا لهُن، لا يسمحن بالعبث فيه.
إن الاغتصاب هو أحد أدوات الذكورية التي يستعملها الرجال غير الأسوياء وغير المتوازنين والذين لم يتجاوزوا حدود النظر إلى أنفسهم كحيوانات جنسية، لكنه في حالة العدو الصهيوني وفي إطار حرب الإبادة هو ليس مجرد سلوك انحرافي لفرد، إنه بالأحرى سعي لتسييس الذكورية والارتقاء بها إلى سلوك سياسي لكيان مريض بعنصريته، كيان غير سوي، ذكوري ومتعجرف.
فإذا كانت الذكورية هي نظام يؤمن بتفوق جنس (الذكر) على جنس آخر (الأنثى)، فإن الصهيونية تؤمن بتفوق الصهاينة على غيرهم من البشر، وتحديدا العرب الفلسطينيين…وفي هذه الحالة (حالة اغتصاب النساء)، نشهد مزاوجة بين تفوقين يتخذان جسد المرأة مسرحا لهما.
إنه يرتقي ليصبح سياسة، تختار أهدافها بين النساء…وقد لا يمنعها ذلك من أن تستهدف حتى الرجال والأطفال، والهدف في النهاية واحد، ألا وهو تأكيد الذكورية كأعلى درجة العُصابية والنرجسية والأنانية. وهنا تنبغي الإشارة أن اغتصاب الرجال يندرج هو الآخر ضمن نفس النظرة الذكورية المتعالية التي تضع تراتبية بين المرأة والرجل، وتسعى بفعلها هذا إلى النزول بالرجل المغتصَب إلى درك أسفل، هو ذلك الذي وُضعت فيه المرأة/الجسد، ولسان حالها يقول إنك في النهاية مجرد “امرأة”.
ما كان لهذا العدو أن ينسى الاغتصاب بعد أن جرب قتل وتدمير كل شيء وكل معنى للحياة.
يصبح الاغتصاب سلاحا ضمن أسلحة حرب الإبادة الجماعية ليُسهم من جهته في تحطيم المعنويات، معنويات النساء والرجال والأطفال معا …وكذلك ترسيخ الشعور بالعار الذي يصعب جبره على المدى البعيد، فما بالك في الحين والآن.
إن الاغتصاب حينما يستعمل في إطار الحرب على شعب وعلى المدنيين يتجاوز كونه سلوكا فرديا، ليصبح انتهاك “دولة”، هي في هذه الحالة الكيان الصهيوني. الدولة هنا ليست فردا، إنها سياسة ولذلك يتوجب التنديد بتفاصيل الانتهاكات التي ارتكبتها في حق الأفراد وفي حق الجماعات، في حق الحياة وفي حق الكرامة للنساء والرجال معا، دون التغافل عن التنديد بشكل واضح بالاغتصاب الذي استهدف النساء.
إن الاغتصاب الذي تعرضت له النساء الفلسطينيات يتطلب أخلاقيا وسياسيا ونسائيا التنديد به كي لا يسقط في حكم النسيان بدعوى العار الذي جلبه. لا ينبغي التخلص من العار بجلب عار آخر الثاوي في محاولة نسيان ما تعرضت له النساء ومحو أثره الفردي من الذاكرة الجماعية.
فالاغتصاب يصير مزدوجا حينما يُرجأ إلى الخلف ويتم التغاضي عنه بمبرر الحشمة…إن الحشمة هي تلك التي ينبغي أن تُلصق ويتم تثبيتها على من ارتكب الاغتصاب وليس على ضحاياه…يكفي أن النساء عانين وسيعانين من ويلات وآثار هذا الاغتصاب، فلا نجعلهن يُغتصبن في حقهن بالجهر والتنديد بما أُلحق بهن من أضرار بالغة.
إن التنديد بالاحتلال وبالإبادة الجماعية بقدر ما هو قضية سياسية فهو كذلك قضية أخلاقية، تماما كما هو بالضبط التنديد بالاغتصاب الذي يستهدف النساء.
لنجعل من 8 مارس هذه السنة، يوما ضمن امتداد الأيام التي عبرنا خلالها عن تنديدنا بالإبادة الجماعية ومطالبتنا النظام المغربي بإلغاء التطبيع.
ولنجعله كذلك فرصة للتنديد بالاغتصاب الذي تعرضت له الفلسطينيات حتى لا تضيع آلامهن وتُنسى تضحياتهن وتتبدد أضرارهن.
لنجعله يوما للتنديد بالسياسة الذكورية “الدولتية” للكيان الصهيوني والتنديد باغتصاب الأرض ومعها أجساد النساء.
فلا نسوية ممكنة تلك التي تختزل نضالها حصريا ضد الذكورية، ولا نضال سياسي ضد الاحتلال ممكن ذاك الذي يتغاضى عن سلاح الدمار النفسي الفتاك المستعمل من طرف المحتل الغاصب للأرض والمغتصب للنساء.