الرئسيةسياسةشواهد على التاريخ

في وداع “النبــــيّ المجهــــــول” ليســـار صامد ومكابر، لن يقتـــــــــــــــله سوى جُنـونـــــــــــه !…الحلقة الأولى

° بقلم: زكري عبدالرحمن

لم يسبق لي أن تعرفت على رفيقنا الغالي الراحل إبراهيم ياسين، قبل ذلك اللقاء الذي أتيحت لي فيه لأول مرة، فرصة رؤيته رؤية العين، في بداية الثمانينات من القرن الماضي. حصل ذلك بالرباط، سنة 1982، بمنزل أحد من الرفيقين الأخوين البنشقرونين، السي محمد رحمة الله عليه، أو السي عبد العالي أطال الله في عمره، وذلك، قبيل انتزاع منظمة “23 مارس” لحقها في العمل الشرعي بقليـل.

كان لقاء موسعا نسبيا للرفاق المسؤولين في تنظيمات وهياكل جهتي الدار البيضاء والرباط، بذلك الحجم غير المألوف… فقد حضره ما يقرب من الأربعين رفيقاً، واندرج في سياق سلسلة كاملة من اللقاءات، إقليميـــة وجهويــــة، عقدت هنا وهناك، على امتــداد خريطة الوطن، تحضيرا للخـــروج من العمـــل السرّي إلى العمــل العلني تحت ضوء الشمس، و”على عينيك آبنعدّي” !

ما أذكره بغير قليل من القوة والرسوخ، أنه في الأنفاس الأخيرة من الاجتماع، وبالضبط في اللحظة التي بدا فيها وكأنه لم يبق سوى رسْملَة الخلاصات وتركيزها في صياغاتها الأخيرة، يأخذ الكلمة من هناك، في أقصى الزاوية اليسرى من الغرفة، فقيدُنا الكبير إبراهيم ياسين، بهدوء استثنائي ملفت في كل شي: في الانسياب العذب لكلماته التي كانت أشبه بكتابة، أو بالأصح، بتطريز بالكلمات، وفي مستويات الصوت والنبرة، وفي فواصل الصمت التي تنظم إيقاع تدفق الكلمات، وفي حركات وإيماءات اليد المواكبة…كل شيء كان مضبوط التناسق والمقدار كما لوكان موزونا بميزان ذهب…

الفقيد إبراهيم ياسين القيادي بالحزب الاشتراكي الموحد

وبذلك… يعيد رفيقنا الاجتماع إلى نقطـــة الصفر!…

شيء ما، بعد كل ذلك الشوط الطويل من المناقشات الذي استهلك نصف اليوم الأول، والقسم الأكبر مما تَلا تناول وجبة الغـذاء أيضاً… استدعى ذلك التنبيــــــه من الرفيق،الذي كان أشبه بنقطـــة نظام يضعها، لامجرد تدخل إضافي من التدخلات…ماهو ؟ لاأجازف بتخمين… ببساطــة لأنني لم أكن قد استوعبت حينها تمام الاستيــعـاب، لاأسباب تحفظ رفيقنا ولا نطاقــه ولا أبعــاده…

ذاكرتي التي بدأ الزمان في السنوات الأخيرة يفعل بها الأفاعيل، حتى بات ما قد يرى فيه آخرون مجرد “حدّ أدنى نقابي”، يرقى بالنسبة لي، إلى مستوى برنامج “سياسي” كامل، حتى ولو بدت بنوده “المرحلية” الدنيا، بالغة التواضع وهي تقبل”أرباع الحلول” وما دونها، عندما لا أطلب مثلا أكثر من مجرد دوام القدرة على تذكر وقائع وتواريخ تتعلق بوفاة أبي، ومن بعده أكبر إخوتي، ثم أمي، ثم ثاني أوسط إخوتي من الذكور الذين أنا أصغرهم…وعندما لا أطلب أكثر من دوام القدرة على استحضار أسماء أفراد العائلــة والأصدقاء والرفاق عند الحاجة…

أما سقــف هذا البرنامــج، فلا تتجاوز أهدافه “الاستراتيجية” مجرد استمرار بعض القدرة على استعادة إحداثيات بيت صديق أورفيق في هذه المدينة أو تلك، و تذكر أهم تفاصيـل حديث جرى بيني وبينه…أو استذكار الأفكار الأساسية في الصفحة التي أقلب من كتاب أقرأه، عندما أنتقل إلى الصفحة الموالية…

أقول، ذاكرتي التي حالها هذه، ماتزال مع ذلك تحتفظ من ذلك الاجتمـاع، ببعض الصور الحسيـة القوية في كامل وهجها…لعل أقواها على الإطلاق، صورة تلك العباءة الصيفية الخفيفة من قماش أسود فاحم التي كان يرتديها رفيقنا الفقيد، وكانت تشكّل مع البياض البهيّ لسحنته تبايناً لونياً وضوئياً بديعـا وأخّاذاً …

سيتاح لي بعد ذلك، التوليف والمطابقة في بهاء طلعة الرجل، بين اسم إبراهيم ياسين، الحقيقيّ، الحاضر…واسمه الآخر، الحركيّ والغائب…وهو “الشافعي”، الذي سمعت به من قبل…

واليوم، وقد انتزع الموت منا هذا الرفيق، كل ما أملك أن أقوله في كلمة واحدة تناسب مقامه الكبير، بعد كل هذه السنين من معرفته وملاحظته في شتى أحواله وحالاته، هو أنه كان هبةً من السماء لأرض هذا المغرب، تماماً كنبيّ من أولئك الأنبياء الآخرين، المجهولين، الذين تُنبتـــهم الأرض، ويدبّون بين الناس، دون أن يتجلّوا لهم التجلّي الكامل، ودون أن تحضرُ أمامهم دفعة واحدةً كل ميزاتهم الإنسانية الاستثنائية، بالصورة الشاملة الواجبة، سوى عندما يغيبون عنهم بأجسادهم الغياب الكامل.

فكَنَبيّ من هؤلاء الأنبياء الذين تُنبتهم الأرض…كان فقيدنا مثالا لكائن إنساني، يجهد في بناء كماله الأخلاقيّ الخاص، عبر النضـال أولا في ساحة الذات ومتاهاتها المظلمة كيما يحــلّ التناقضات فيها بين وجــودها الطبيعي، المعطى كأيها النـــــاس، ووجودها الاجتماعي والتاريخي، الذي يليق بها كحرية، أو كمشروع حرية…

وهكذا، يصفى حســـابه مرة واحدة وإلى الأبد، مع مختلف قوى الاستــلاب وأبالسة النفــــس من كل نوع، التي ترتــــدّ بالكائن الإنساني العادي، نحو طور كائن حيواني، أنانيّ وانعزالي، لايعيش إلا لنفسه ولنفسه فقط، إن لم يكن أيضا في محل ما يعيش ضد غيره …

وكنبيّ، كان زعيماً ومشرّعاً ومربياً …كان صاحب رسالة يترك حيثما حلّ أو ارتحل، سلوكا قابلا لأن يرفع دائما إلى مستوى قاعدة معيارية، أو يخلّف حكمة أو وصية، تبقى قبساً منيرا ومرشداً ضد بهْمة التيه في الظلمات، وخصوصاً ضد لعنــة تضييع البوصلة في المنعطفات الحاسمة، ضعفاً أو توهماً، أو هُما معاً…!

يتبع…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى