الرئسيةسياسةشواهد على التاريخ

في وداع “النبـيّ المجهـول” ليســار صامد ومكابر، لن يقتـله سوى جُنـونــه!..الحلقة الأخيرة: أخلاقية ياسين هذا “الكانط” على حـق..

بقلم: عبدالرحمن زكريا

لم يسبق لي أن تعرفت على رفيقنا الغالي الراحل إبراهيم ياسين، قبل ذلك اللقاء الذي أتيحت لي فيه لأول مرة، فرصة رؤيته رؤية العين، في بداية الثمانينات من القرن الماضي. حصل ذلك بالرباط، سنة 1982، بمنزل أحد من الرفيقين الأخوين البنشقرونين، السي محمد رحمة الله عليه، أو السي عبد العالي أطال الله في عمره، وذلك، قبيل انتزاع منظمة “23 مارس” لحقها في العمل الشرعي بقليـل.

الفقيد ابراهيم ياسين في وسط الصورة

ستتاح لي فرص مجالسته إما مع رفاق آخرين أو على انفراد سواء في الرباط والدار البيضاء أو في المحمدية التي أطر فيها عروضا سياسية جماهيرية كانت كلها تخلف وراءها من أصداء الإعجاب والإشادة ما يثلج الصدر ويدعو حقيقة للفخر….
كنت كلما زدت اقترابا منه، أكتشفت وجها جديدا من أوجه شخصيته الفذة الفائضة عطاء وسخاء وتضحية من أجل الآخرين، كل الآخرين، رفاقاً وأصدقاء وعلاقات ومعارف…

ميزتان كبيرتان كانتا تلفتاني أكثر في هذا الرفيق: أولاهمــا أخلاقيتـه الاستثنائيـة التي لاتُبنى على أساس آخر غير الواجب في أصفى صوره المنزهة عن كل نفعية أو غرضية، وصرامته ودقته في تشريف مختلف الإلزامات التي يرتبها عليه ذلك الواجب، كيفما كانت الظروف…

وكنت دائما أقول في نفسي- أنا الذي اتخذت كانط في المجال، معلّماً لا يداني من فرط التقدير والإعجاب…بأن رفيقنا الراحل تجسيد من التجسيدات المادية الكاملة، على أرض الواقع، لأخلاقيات الواجب العقلي هذه، كما صاغها المعلم… وكنت أستنتج بيني وبين نفسي: “إذن…هذا الكانط على حـق، ولم يكن مثالياً حالما ولا منفصلا عن الواقع. والدليل، هاهو أمامنا في الملموس العينيّ: شخصٌ واحدٌ على الأقل يقوم كإثبات !”

كان إلحاح إغراء المقارنة أو المماثلة بين الرجلين في الميزتين الكبيرتين المشتركتين بينهما مما لايقاوم. وفي ثاني مرة قاسمته فيها ملاحظتي هذه ابتسم، تماما كما في المرة الأولى، ابتسامة قرأت فيها ما يشبه اعتذارا غير مصاغ بالكلمـات، فحــــواه، الأسف على عدم توفره الآن…الآن(ويا للُؤْم وغدْر هذا الآن)، على الوقت الذي يسمح له بالاطلاع المناسب على بعض ماكتبه هذا “الشّبيـــه”، المعلّم.

أما الميزة الثانية، فهي قدرته الرهيبة على العمل والإنتاج، بانقطاع وتفرغ كاملين لموضوع اشتغاله كما لو كان في دير… وأذكر أنه كان من الأوائل ضمن قادة المنظمة وأطرها، الذين انتقلوا مبكرا جدا للاشتغال على الحاسوب وتوابعه، كال”ديسكيتات”(Disquettes)، وسيلة التخزين العصرية والثورية في ذلك الإبان، والتي لم تكن محفظتــه لتخلو من واحدة منها أو أكثر.
كان دائم الجهوزية ودائم الالتزام بتسليم مختلف الواجبات والطلبيات التي يتكلف بها داخل الآجال…يشمل ذلك إنتــاج الأدبيـــات، والإشراف على تسيير وإدارة الهيئات المختلفــــة تخطيطا ومتابعة وتقويما…من الجريـــدة المركزيــة إلى مختلف مؤسسات التنظيم ، الوطنية، التنفيذية، أو الوظيفية الخاصة بملفات بعينها (العلاقات مع الكتلة الديمقراطية ومع تيارات اليسار الجديد)…

ولكن هذا الرفيق الذي يحسن الإنصات لكل رفاقه، أكانوا أصحاب رأي ومقالة، أو مجرد مناضلين بسطاء ومخلصين في القواعد، يبحثون ويجتهدون من أجل تكوين رأي خاص بهم، أو من أجل اطمئنانهم على الأقل إلى أنهم يسيرون في الاتجاه الصحيح…لم يكن أبدا ليرتاح للعمل مع بعض من دهاة القياديين من رفاقه، الماكيافيليين، خبراء التّكتَكات والمناورات واللعب السريع والقصير…سيما عندما يستسهل بعضهم حتى تجاوز الشرعية السياسية والتنظيمية والقانونية، داخل التنظيم الذي يجمعهم.
وللإنصاف، حتى أولئك الرفاق، لا يملك أيُّ جِهبِذ منهم -وهم الذين ما نجحوا مرة واحدة في استدراجه للعب في ذات ميادينهم وبذات وسائلهم- إلا أن يقدّر فيه، بعد المسافة، وخصوصا احتراما لرفقات الماضي الجميلة التي جمعتهم، المناضلَ الذي لايحوّل خصومات سياسية عارضة بالضرورة ومشروطة بظروفها، إلى عداوات تقطع أحيانا حتى العلاقات الإنسانية التي بدونها لا تنعقد ولا تدوم علاقة سياسية جديرة بهذه الكلمة.

وكان قصارى ما يردّ به فقيدنا الغالي حين يجد نفسه في هذا الموقع، وحين يتوضح له فساد النوايا والأمكنة، هو أن “يشدّ الأرض” ويراقب، في انتظار جديد يجد تحت الشمس.

كان رحمة الله عليه قد انتقل للاستقرار في مراكش منذ عقدين تقريباً، لكن أسباباً عديدة تظافرت في لحظة واحدة لتجعله يقرر، أو يقبل قرار العودة للاستقرار بالمحمدية…ومن تلك الأسباب، توفر الفقيد في المحمدية على مسكن ضمـن واحــــــدة من التجارب التعاونية الرائدة والناجحة التي انطلقت بالمحمدية أواسط الثمانينيات من القرن الماضي، وكانت للمرحوم فيها أدوار وأفضال ما يزال القيمون على التعاونية إلى اليوم يذكرونها بكل تقدير وعرفان، هم الذين وجدوا فيه العضو الملتزم، والمستشار، والحكَم وحتى الرقيب، والذي حمى مشروعهم من التوقف أو السقوط في ذات المدارات المحزنة التي سقطت فيها أكثر من تجربة أخرى بسبب النزاعات والصراعات بين أعضاء هيآتها المسيرة…يلتئم فيه بحكم العمل، شمل أفراد الأسرة الصغيرة، سمير وسهام، وربما حتى سليم، مع الوالدة الكريمة والمكافحة، رفيقة دربه في السراء والضراء، الأستاذة عائشة حفظها الله وأطال في عمرها…

الفقيد إبراهيم ياسين القيادي بالحزب الاشتراكي الموحد

هكذا، لم يبق أمام المرحوم- وهو الذي كان يتهيأ لإعداد وترميم البيت القديم في البلدة التي شهدت مسقط رأسه، ليتفرغ فيه للبحث والكتابة- سوى النظــر بواقعيـــة لهذا المستجد، والذي لايخلو هو نفسه مع ذلك من حوافز ومزايا، ليس أقلها مزية الاجتماع مع الأبناء والأحفاد في لحظات سعادة، لن تكتمل بدون حضوره.

ولكن أهم سبب قاهر، يكون قد حسم بدون شك أمر الانتقال والاستقرار في المحمدية عند المرحوم، هو المـــــرض الذي عاوده بعد عمليتين جراحيتين منفصلتين في الزمـــان، استقرت صحته في أعقابهما، بعض الاستقرار لبعض الوقت، دون أن يشفى تماما، رغم كل انضباطه الصارم في هذا المجال أيضاً…في الفصل الأول هذا من مرضه، كان ما يزال قادرا، حتى وهو يطبق حرفيا الإرشادات المنصوح بها سواء في تغذيته أو في تمرين وتحريك جسمه، على أداء واجباته النضالية، وعلى المبادرة الدائمة فيها، وعلى السفر… حيث كان قدومه إلى المحمدية مما يُحتفى به كل مرة، خصوصا وأنه يمثل فرصة لقاء أكيدة ومضمونة بيننا، الرفيق أحمد السليماني والرفيق محمد السمهاري وأنا- الذين قد يمضي أحيانا الأسبوع أو الأسبوعان دون أن نرى بعضنا- حين يأتي الرفيق إبراهيم ياسين من مراكش، ليجمعنا على فنجان قهوة، كأعضاء قارين، يضاف إلينا بين الحين والآخر أعضاء آخرون من رفاق في التنظيـم أو من زملاء سابقين في الكلية يسعدون كلهم بلقائه كلما بلغهم خبر قدومه.

أما في الفصل الثاني من المرض، على إثر الوهن العضليّ الحادّ الذي ألمّ به فألزمه الفراش في حالة كبيرة من العجز الحركيّ، فقد قررت أن أكون أكثر قرباً منه وأن أضع نفسي رهن إشارته وإشارة كل الأسرة الكريمة…خصوصا وأن سمير، الذي يتحمل ما يفوق طاقته من الواجبات، منهكٌ وموزع بين ضغوط عمل حهنمية لاترحم، تضاعفها تنقلات دائمة بين المحمدية ومدن أخرى قريبة أو بعيدة، تفرض عليه المبيت أحيانا ليلة أو أكثر…

لذلك كنت أساعد في التخفيف من ثقل بعض هذه الواجبات عليه، أو أعفيه من بعضها الآخر، كالبحث مثلا عن مروّض مستعد للانتقال إلى بيت الرفيق لمباشرة حصص الترويض التي سيسترجع الرفيق بفضلها تدريجيا نسبة لابأس بها من قدراته الجسدية، حتي عدنا إلى استئناف لقاءاتنا الثنائيــة المتواترة التي اعتدنا على أن نبدأها بحصة مشي على الأقدام تحت الشمس، قبل أن نتناول قهوة الصباح في مقهى من مقــــاهي الجوار، ونختمها بحصة مشي ثانية رجوعا حتي بلوغ باب البيت الذي لا يبعد كثيرا بالمناسبة عن مقر سكني، ونحن نستأنف حديثا كان انقطع بيننا، أو ننتقل إلى آخر، مما لايكون له في الغالب صلة بالسياسة، أو هو على الأصح يندرج في خانة “مابعد السياسة”…


في خانة “مابعد السياسة” هذه، أذكر مثلا أنه عندما حدثته عن صدور كتاب رفيقنا العزيز علال الأزهر”مذكرات شهادات حية من الماضي” -ولم يكن قد اطلع عليه بعد- وكنت عبرت له عن إعجابي بكل ذلك القدر من الشفافية في بوح الرفيق الأزهر بدون رقابة، لامس أحيانا حدود جلدٍ للذات بدون داع، كان كلفني بأن أجلب له نسخة من مذكرات الرفيــــق…

وكنت رأيت في في تلك اللحظـــة فرصة لأن أعيد التعبـــير له عن تمَنّ خاص قديم عندي يعود إلى مابعد صدور مذكرات رفيقنا سي محمد بنسعيد في 2018، صُغته في صورة سؤال هكذا: لماذا يارفيقنـــا، وأنت المناضل والمؤرخ الذي يجمع خبرة المجالين، مجال التجربة السياسية، ومجال الكتابة التاريخية، لا تكتب سيرة أو مذكرات، حول هذا اليسار الجديد الذي كرست له كل حياتك؟

قال بأن الفكرة موجودة فعلا، وبأنه، يتوفر أيضا على عدد من المواد التي سبق له أن جمع وبوّب في شكل شبيه بيوميات يغطي قسمها الأكبر ما يتعلق بتاريخ اليسار الجديد، في الداخل وفي الخارج، وبكرونولوجيا لوقائع وظروف نشأته التاريخية ولمسارات مكوناته المؤسسة الأولى، ومسارت بعض المناضلين المجهولين الذين لا يرد لهم ذكر بالمرة في حوليات اليسار، أو هم لا يذكرون فيها إلا لماما…قبل أن يتوقف ويتساءل: …ولكن الآن، يارفيق…ما الفائدة الآن…وقد انتهى المشروع السياسي لهذا اليسار برمته إلى ما انتهى إليه؟ ثم أية أولويـة هذه بالنسبة لي، وجسمي يمضي من عجز إلى عجز، فيفرض عليّ الانتقال، كما ترى ، من الحركة الطبيعية، إلى الحركة المجهزة بعكازات؟

في السياسة، كان سؤالي مقبولا… وكان جواب الرفيق لايخرج عن المتوقع. إنما في هذا الجانب الآخر، الشخصي والإنساني، كم خجلت…وكم خشيت أن يكون سؤالي ذاك، خاطئــاً وطائشـاً… فيحرك ربما موجعا كان ساكنــــا عند الرفيق، في لحظة غفلـــة مني لا تغتفـــر…سيزيدني توبيخاً للنفس، واقع أنني كنت خارج المحمدية، في الرباط، عندما كان الرفيقان أحمد السليماني ومحمد السمهاري ومعهم بعض زملاء المرحوم القدمـــاء في الكليـة يعودانه …في ما سيكون … آخر عيادة…ثم تلا ذلك نزول الخبر المفجع صباح ذلك اليوم من أيام آواخر شهر دجنبر، عندما اتصل بي ابنه الرفيق سمير ياسين يقول بـأن الأب الغالي، أسلم الروح لخالقها الباري…

رحل إبراهيم ياسين؟ نعم …رحل.
مات؟ لا…لم يمت، وقد يكون شُبّـــه لنا…

ثمّ …ما الموت وما الحياة ؟ ألا تحمل الواحدة منهما في أحشائها حقيقة نصيباً ما من الأخرى، يُداخِلُها ؟ ألا تتكلم اللغة عنهما كلاميْن: كلامَ مجاز وكلام حقيقة؟ …وأليس ثمة حيواتٌ كثيرة هي موتٌ تامّ كاملٌ، فيما بعض الموت هو عين الحياة التي لا يكون فيها الرحيل سوى جسر عبورٍ إلى الخلود… هناك، في علياء الأبدية.

إبراهيم ياسين

أكاد أصرخ في وجه ضعفي وأساي وغيبتي في اللحظة الأخيرة، وفي وجه قساوة هذا العالم السفلي، بحثا عن ظلّ عزاء: يا أنا هذا، وياهذا العالم: كيف نقول مات، من خلّف وراءه كل هذا الذي خلّف؟؟؟

وداعاً إذن، رفيقنا الغالي إبراهيم ياسين …وداعا النبيّ المجهول، ليسار صامد ومكابر، لن يقتله سوى جنون عصبوياته وزعاماته…وطوبى لروحك في مقرها الجديد إلى جانب العظيمات والعظماء من خدام ومعلمي الإنسانية الذين يخلّدون ذكرَهم في الأذهان وفي الألباب، ضد النسيان…وضد الموت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى