رأي/ كرونيك
كمال عبداللطيف: ميثاق حقوق الإنسان في عالم متغيِّر
كمال عبداللطيف
نتذكَّر، ونحن نحتفل بالذكرى السبعين لإعلان ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان 1948، أننا نعيش منذ نحو أربعة عقود، أمام ما يمكن أن نطلق عليه عصر المواثيق والإعلانات التي ساهمت في تعميم الوعي الحقوقي في عالمنا.. وذلك على الرغم من كل العوائق والصعوبات التي ما تزال تواجه عمليات احتضان الإعلان وتطويره، بحكم التحوُّلات الكبرى والسريعة التي يعرفها العالم، وما أصبحت تتطلبّه من تجديد في مجال القيَم وفي المدوَّنات والمواثيق القانونية المواكبة لها.
لا يجادل أحد اليوم في أن الإعلان والمواثيق الدولية التكميلية التي تلته بعد ذلك، وكذا المواثيق الأخرى المرتبطة به، يُعَدُّ دليلاً على اتساع شبكته، وشبكة التنظيمات والمؤسسات المدنية التي تُعْنَى بأسئلته وقضاياه، في مجتمعات كثيرة وداخل المنتظم الدولي.
ولابد من الإشارة، هنا، إلى أن ثقافة المواثيق المشار إليها تؤسّس لأخلاق جديدة في النظر إلى قضايا الإنسان، إنها تستوعب المبادئ الكبرى، لأخلاقٍ عالمية في موضوع الأفراد والجماعات، أخلاق تضبطها حُدُود ومَواثيق، تَمَّ إقرارها بعد نقاشاتٍ وصراعات عديدة.
وإذا كان مؤكدا أن مختلف مكاسب الإعلان لا تجعلنا نُغْفِل الأسئلة الجديدة التي تُبرز اتساع المسافات القائمة بينه بوصفه مرجعية أخلاقية وبنودا قانونية وما يجري في الواقع، إلا أن ما يُعزِّز مكانته دائماً أنه ما زال يعتبر أفقاً يتطلع الجميع إليه، وتتواصل النضالات في مجتمعاتٍ كثيرة، من أجل مزيد من تفعيل روح مبادئه وبنوده، بواسطة الإجراءات والمساطر التنظيمية التي يمكن أن تساهم في تضييق الفجوات، القائمة بين روحه الأخلاقية العامة ومقتضيات الصراع كما تشخّصها الوقائع والأحداث، في مجتمعاتٍ كثيرة في الشمال وفي الجنوب.
يحق لنا في الذكرى السبعين للإعلان أن نشير إلى أن أشكال تعامل الدول ومؤسسات المنتظم الدولي مع قيم الإعلان ومبادئه لم تبلغ بعد درجة التشبّع بروح ما بلور من قيم، بل قد لا نجد أي حرج في الإشارة إلى وقائع عديدة جارية اليوم في عالمنا، والتي تبرز كثيراً من صور وأشكال التراجع عن روح القيم التي استوعبها الميثاق، وتَمَّ التوافُق بشأنها داخل الأمم المتحدة.
نتأكّد مما قلنا، في بُؤَر الحروب المشتعلة في مناطق عديدة، كما نتأكد منه في صور العنف الجارية على سبيل المثال في المشرق العربي، وفي عودة الطائفية وانتعاش النزعات القومية، كما تبرز في مختلف مظاهر التطرُّف التي تسود العالم. وسنتوقف أمام بعض تحوُّلات الاقتصاد العالمي، لرصد جوانب مما رسمته من معطياتٍ مُنافيةٍ للقيم التي بنتها منظومة حقوق الإنسان.
تهيمن اليوم على الاقتصاد العالمي توجهاتٌ ليبرالية جديدة، حيث انتقلت الاقتصادات الكبرى في العالم إلى بناء شبكاتٍ عابرةٍ للقارات، مُستهدفةً تركيب نمط إنتاجي متعولم، فأصبحت تنظم إنتاجها وإدارتها، ضمن حركة احتكارٍ تغطي بواسطتها أغلب أسواق المعمور.
وقد ساعدت هذه الاقتصادات على مزيدٍ من الهيمنة تقنيات التواصل الجديدة التي تحولت إلى قاعدة مركزية، في آليات عملها، داخل دوائر الاقتصاد المتعولم وشبكاته. وترتَّب عن ذلك تراجعٌ كبيرٌ في قدرة الحكومات على السيطرة على سوق الإنتاج والعمل، فتضاعفت عمليات خصخصة الخدمات العامة، الأمر الذي ساهم في تقليص مكاسب وحقوق كثيرة، المتصلة بحياة شرائح وفئات عديدة داخل أغلب المجتمعات.
وَلَّد الاقتصاد المتعولم جملةً من الأعباء في مجتمعات كثيرة، وفي مختلف القارات، حيث أصبحت تمارس المؤسسات المالية الدولية، مثل صندوق النقد الدولي، تأثيرا كبيرا على المكاسب الحقوقية والاجتماعية. وبدأت تُعلن توصياتٍ عديدة، بل والبرامج المتعلقة بالسياسات الاجتماعية، وتحاول فرضها داخل أغلب المجتمعات. والإشارة هنا إلى حملاتها المتعلقة بتخفيض الإنفاق العام، وتقليص عديد من مؤسسات الخدمات العامة وبرامجها، كالصحة والتعليم والنقل والضمان الاجتماعي..
لا يتعلق هذا الأمر بالدول المتخلفة وحدها، بل يشمل الدول الغنية أيضاً، وهو يحصل ليمنحَ الشركات والمؤسسات الإنتاجية المتعولمة سطوةً أكبر، لنُصبح أمام شبكةٍ اقتصاديةٍ أخطبوطيةٍ، لا علاقة لها بمشروع العدالة والمساواة، ولا بالأخلاق والقوانين التي تستوعبها مفاهيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
يواجه العالم اليوم شبكة من المؤسسات المالية والاقتصادية، متعدّدة الجنسيات وعابرة للقارات، وقد سمحت الطفرة التكنولوجية بتحويلها إلى فضاءٍ منسوجٍ بمجموعة من الروابط التقنية، فضاء يزداد حضوراً واتساعاً، في الوقت الذي تتقلَّص فيه علاقته بمنظومات حقوق الإنسان، بحكم اشتغال مؤسساته بواسطة إجراءات ومساطر مرتبطة بنمط الشبكات الاقتصادية والمالية والبنيات المرتبطة بها، الأمر الذي يطرح جملة من القضايا الجديدة، بشأن كيفية تفعيل المواثيق الحقوقية، لمواجهة أشكال التنميط والتهجين التي أصبحت تفرضها هذه المؤسسات قسرا.
فما العمل، أمام الأعداد الهائلة من البشر الذين حرموا من حقوقهم، وغامروا بالهجرة بحثاً عن عمل وحياة، تمنحهم حداً أدنى من الكرامة؟ وما العمل، أمام المهجَّرين من أوطانهم، بفعل الاضطهاد والقمع والكوارث الطبيعية والصراعات السياسية والطائفية وعمليات الإبادة.
المقال منشور في العربي الجديد