أين الجانب الصحيح من التاريخ؟
"الجانب الصحيح من التاريخ"، سمعها الفلسطينيون مرارًا في تاريخهم، واتّهموا دائمًا بأنّهم وقفوا في "الجانب الخطأ" ولهذا خسروا فرصتهم في تحقيق طموحهم في تقرير مصيرهم.
يقول الإسرائيليون في هذا الشأن، إن “الفلسطينيين لا يفوّتون أيَّ فُرصة لتفويت الفُرَص”، بمعنى أنّه ما إن يظهر برعمُ أملٍ لحلِّ الصّراع سلميّا، حتى يُسرع الفلسطينيون إلى تخريبه، ويقفون إلى الجانب الخطأ من التاريخ، فما إن تقع أزمة إقليمية أو دولية، حتى ترى الفلسطينيين يصطفون في الجانب الخطأ.
على هذا المقياس فثورات الشعب الفلسطيني كلها منذ عام 1928 إلى يومنا، كانت في الجانب الخطأ من التاريخ، لأنّها كلها لم تؤد إلى دولة فلسطينية حرّة مستقلة، وهذا يشمل موقفهم من الصراعات الإقليمية العربية والدولية، حيث كانوا دائمًا في الجانب الخطأ.
بعد تنازلات عديدة وطويلة وأليمة وبعد تضحيات كبيرة وقّعت اتفاقات أوسلو عام 1995، وظنّ الفلسطينيون أنّهم أخيرًا وقفوا في الجانب الصحيح من التاريخ!
ولكن الإسرائيليين اغتالوا رئيس حكومتهم رابين عام 1995 واستلم السُّلطة بيبي نتنياهو عام 1996، ليبدأ في مسار إلغاء اتفاقات أوسلو لمنع إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ثم جاءت انتفاضة عام 2000 التي أطلق شرارتها استفزاز شارون بدخوله باحات الأقصى ليطلق العنف من عقاله، واتخذ القرار بمنع إقامة دولة فلسطينية من خلال استمرار الاستيطان ثم تسميم ياسر عرفات واغتياله.
انسحب الاحتلال بقيادة شارون من مستوطنات قطاع غزّة عام 2005 ولكنه شدّد الحصار عليه.
وفي العام 2006 جرت انتخابات تشريعية فازت فيها حماس بأكثرية ولم يجر تسليم السُّلطة بسلاسة وانفجرت مواجهة مسلحة بين التنظيمين الكبيرين.
بعد صدام مسلح أسفر عن مئات القتلى من فتح وحماس في العام 2007، سيطرت حماس على السّلطة في القطاع المحاصر، بينما بقيت فتح مسيطرة على الضفة الغربية.
وفي هذا الوقت لم يتوقف الاستيطان، وازدادت اقتحامات المستوطنين لباحات المسجد الأقصى وتخلّل هذا مواجهات عسكرية بين حماس والاحتلال بين فترة وأخرى، واعتقالات لم تتوقّف، وكذلك إلى هبات في الضفة الغربية بين حين وآخر وعمليات مسلحة.
اختار فصيل حماس المقاومة المسلحة، بلغت ذروتها في ما عرف بهجوم السّابع من أكتوبر 2023، والنتيجة هي ما نراه الآن، خسائر كبيرة للاحتلال بالعتاد والأفراد، مقابل تدمير قطاع غزة وتعجيل مخطط التّهجير أو تحويل حياة من يصرّ على البقاء إلى جهنم لا يمكنه البقاء فيها.
السّيد محمود عباس اختار “الجانب الصحيح من التاريخ”، واصل التنسيق الأمني مع الاحتلال، ومع الأميركان ومع الأنظمة العربية التي تقيم سلامًا وتطبّع مع إسرائيل.
النتيجة، أيضا هي تجاهل الاحتلال التام لوجوده وعدم التعامل معه، ومواصلة مصادرة الأرض وإقامة المستوطنات الجديدة وتوسيع القديم منها، إضافة إلى المماطلات المالية، والخصم والعقوبات والتهديد المستمر بحل السلطة رسميا، والسيطرة على مناطق جديدة، ثم اتهامه في دعم الإرهاب، بينما هو يتوسل العالم بأن يحمي الشعب الفلسطيني دون جدوى سوى تعبيرات عن القلق والشجب هنا وهناك.
اعتداءات المستوطنين على الفلاحين وعلى محاصيلهم الزراعية لم تتوقف، إضافة إلى القتل لمن يقاوم. كل هذا تحت سمع ومرأى جيش الاحتلال والعالم.
حزمة القوانين الأخيرة التي سنها الكنيست ومن ضمنها وقف التعامل مع الأونروا، الذي يعني أن لا وجود لقضية لاجئين، إضافة إلى قوانين مصادرة جديدة، وقانون منع إقامة قنصليات أو بعثات دبلوماسية في القدس غير معتمدة لدى إسرائيل وقانون منع عضوية الكنيست لمن يدعم “منظمة إرهابية”، تقول إن الاحتلال واضح وبسيط، ما دمنا نملك القوّة والدّعم من القوى العظمى وعلى رأسها أميركا، فنحن على صواب ولن نتوّرع عن تهجير الفلسطينيين وإبادة من يرفض التهجير.
الاحتلال يقولها بوضوح، ما دمت ضعيفًا فعليك أن تكون واقعيًا وتذعن إلى ما يمليه عليك صاحب القوة، وسوف نفاوض على أمرٍ واحد فقط، هي الطريقة التي تريد فيها الرحيل عن وطنك، بالحرب والإبادة والحصار الطويل، أو من خلال قوانين تسنّها الطغمة الفاشية الحاكمة.
فلا الذي وقف في “الجانب الخطأ من التاريخ” كسب، ولا الذي وقف مع “الجانب الصحيح” ربح، لماذا! لأنّه بغض النظر أين سيقف الفلسطيني، على يمين أو يسار أو وسط الجانب الصحيح، فالمطلوب هو أمر واحد في كل الحالات، التهجير كحل نهائي للقضية الفلسطينية، إما بالقوّة الغاشمة والإبادة وبسرعة، أو بقوة أقلِّ، وبالتقسيط غير المريح.