الفساد في المغرب معضلة بنيوية تتغذى على تحالف المال والسلطة
يشهد المغرب بالرغم من الإصلاحات الحكومية المعلنة، ارتفاعًا مقلقًا في قضايا الفساد والرشوة، بحسب ما كشفت عنه الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها، و التي كانت رصدت زيادة كبيرة في عدد الحالات المبلغ عنها خلال العام المنصرم.
اتسع الفساد في المغرب وبات معضلة بنيوية تتغذى على تحالف المال والسلطة في الحكومة الحالية، ما أدى إلى تفاقمه واستشرائه في المؤسسات العامة والخاصة.
هذا الواقع المأساوي ليس مجرد أزمة أخلاقية أو سياسية، بل يُكلِّف الاقتصاد الوطني أكثر من 50 مليار درهم سنويًا، وفق تقديرات رسمية ودولية، وهو مبلغ يكفي لتمويل مشاريع تنموية ضخمة أو تحسين جودة الخدمات الأساسية في البلاد.
بالرغم من أن الدولة سبق وأطلقت قبل 8 سنوات استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد بميزانية تقدر بـ180 مليار سنتيم، إلا أن النتائج المأمولة لم تتحقق.
تقارير الهيئات الوطنية والدولية تشير إلى إخفاق هذه الاستراتيجية بشكل ذريع، مما يعكس غياب إرادة حقيقية لدى الحكومات المتعاقبة لتنزيل الإصلاحات الهيكلية المطلوبة لمكافحة هذه الآفة.
في تقرير للهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها صدر في الاونة الاخيرة، اكد أن الآليات الحالية لمكافحة الفساد غير فعالة، حيث لا يتم متابعة المتورطين بما يكفي، ما يشجع على الإفلات من العقاب، موضحا أن المغرب سجل انخفاضًا بمقدار -0.017 نقطة في مؤشر الفساد السياسي V-DEM، وأنه تراجع إلى المرتبة 97 عالميًا في مؤشر الشفافية الدولية، ما يعكس تدهورًا مستمرًا في التصنيفات الدولية خلال السنوات الخمس الأخيرة.
يرى أستاذ العلوم الدستورية رشيد لزرق، أن التحالف بين السلطة والمال داخل النخب السياسية الحالية ساهم بشكل كبير في عرقلة معركة محاربة الفساد، حيث تحولت هذه النخب إلى مستفيدة من الوضع القائم بدلًا من أن تكون طرفًا في إصلاحه.
ويؤكد لزرق أن هذا التحالف جعل الفساد وسيلة لتحقيق مكاسب انتخابية، مما عمّق الأزمة وأضعف إمكانية تطبيق مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
ويتجلى أحد أبرز أوجه الفساد في المغرب في الصفقات العمومية والتوظيف، حيث كشفت دراسة حديثة أن 68% من الشركات المغربية ترى أن الفساد منتشر جدًا في هذه المجالات. هذه الظاهرة لا تؤثر فقط على القطاع العام، بل تمتد إلى القطاع الخاص، مما يؤدي إلى تراجع جاذبية الاقتصاد الوطني وعرقلة الاستثمار.
من جهة أخرى، شهد المغرب تراجعًا في مؤشر الحرية الاقتصادية، حيث حصل على 56.8 نقطة في سنة 2022، بانخفاض قدره 1.6 نقطة عن العام السابق.
هذه التراجعات تعكس ضعف الإصلاحات الاقتصادية والإدارية، وتزيد من تعقيد الوضع الاقتصادي، خاصة في ظل تباطؤ النمو الناتج عن الجفاف وما يشار اليه بتداعيات الحرب في أوكرانيا.
و حذرت منظمة الشفافية الدولية من أن “الرشوة النسقية” في المغرب التي تهدد الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، معتبرة أن الفساد أصبح منظومة متجذرة يصعب تفكيكها في ظل غياب الحزم السياسي والاستقلالية القضائية.
في السياق ذاته، كانت دعت الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة إلى إشراك القطاع الخاص بشكل فعال في إعداد وتتبع استراتيجية جديدة وشاملة لمحاربة الفساد، وضمان تعزيز الرقابة المالية على المستويين الوطني والمحلي. ورغم أهمية هذه الدعوات، يبقى التنفيذ رهينًا بوجود إرادة سياسية حقيقية لقطع العلاقة بين المال والسلطة وتحقيق العدالة.
كما أشارت ذات الهيئة إلى أن حوالي 40% من هذه القضايا تتعلق بالرشوة، خاصة في قطاعات حيوية مثل الصفقات العمومية، والجماعات المحلية، والقطاع الصحي، مما يضع تساؤلات حول فعالية الجهود المبذولة لمحاربة هذه الظاهرة التي تهدد النسيج الاقتصادي والاجتماعي للبلاد.
محاربة الفساد لم يعد خيارا بل ضرورة وطنية،واستمرار الوضع الحالي سيكلف المغرب خسائر اقتصادية واجتماعية باهظة، ما يستدعي تفعيل مؤسساتي حازم وإصلاحات جذرية تعيد الثقة إلى المواطن والمستثمر، وتضع المملكة على مسار تنموي مستدام.
ما فتأت الحكومة تعلن عن الجهود المبذولة لمكافحة الفساد، إلا أن هذه الأرقام تعكس فجوة كبيرة بين الخطط المعلنة والواقع الميداني. الانتقادات الموجهة للحكومة تتمحور حول عدم تفعيل آليات الرقابة بشكل فعّال، وضعف المحاسبة، وغياب الشفافية في تتبع نتائج الإصلاحات.
كما أن غياب الإرادة السياسية الحازمة في مواجهة الظاهرة يضعف من ثقة المواطنين في قدرة الدولة على التصدي للفساد بمختلف أشكاله.
هيئة النزاهة دعت الحكومة إلى اتخاذ خطوات ملموسة لتحسين الأداء الحكومي وتعزيز الشفافية والمحاسبة، معتبرة أن الإصلاحات الحالية غير كافية للحد من تفشي الفساد. وشددت على ضرورة تفعيل الرقابة على المؤسسات العمومية والمحلية، وتطوير آليات الإبلاغ عن الفساد لضمان حماية المبلغين وتشجيعهم على كشف هذه الممارسات.
في ظل هذه المعطيات، يبقى السؤال الأبرز: هل ستتمكن الحكومة من تحويل وعودها إلى إصلاحات حقيقية توقف نزيف الفساد، أم ستظل هذه الظاهرة مستفحلة، تقوض جهود التنمية وتضعف ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة؟