الرئسيةثقافة وفنوندابا tv

حكاية رقصة قديمة…الدبكة الفلسطينية “أقدام ضاربة في الأرض ورؤوس مرفوعة” + فيديو وصور

بقلم الكاتبة المصرية مروة صلاح متولي

يدبك الفلسطيني بخطوات أخّاذة بالغة الحيوية، فتنطلق العواطف وتتخلق طاقة كبرى تهتز لها النفوس، وهو يؤدي رقصته النابعة من الشخصية الفلسطينية الصميمة، وذلك التعبير الفني الذي ورثه عن أجداد، سبقوا وجوده في عصور قديمة جداً.

والدبكة فن يوجد في سائر ربوع الشام، ويحيا في فلسطين والأردن، وسوريا ولبنان والعراق، وهناك بعض الفروقات التي تميز هذه الرقصة في كل بلد عن الآخر، وتمنحه صفته الخاصة، وهي فن جميل بشكل عام، وما هذه الفروقات إلا تنافس على الجمال، المزدان بخصائص الهوية الثقافية لكل بلد من هذه البلدان، والسمات الشخصية لكل شعب من هذه الشعوب.

والدبكة الفلسطينية أحد ألوان هذا الفن الرائع، فهي رقصة عامرة بالمتعة الفنية، لها القدرة على الجذب وإثارة التفاعل، فإنها إن لم تحرك أقدام غير العارفين برقصها، الذين لا يتقنون أدائها، فإنها تحرك مشاعرهم، ويشعر من يشاهد هذه الرقصة بأنها خلاصة من خلاصات الثقافة والهوية الفلسطينية، وأنها تجري من أهل فلسطين مجرى الدم، ذلك أنها رقصة يؤديها الجميع بداية من الفرق الفنية المحترفة، إلى أطفال المدارس وشباب الجامعات، مروراً بالهواة من الرجال والنساء من عموم الشعب الفلسطيني، داخل فلسطين وخارجها في أي بقعة من بقاع الأرض. ورغم أن الدبكة الفلسطينية رقصة فولكلورية، وتنتمي إلى المأثور الشعبي الفلسطيني، إلا أنها ليست رقصة متحفية، يتم استدعاؤها من خزائن الماضي، لعرضها في مناسبات محددة، وإعادتها إلى الحفظ المتحفي مرة أخرى، بل هي رقصة حية وجزء أصيل من حياة الفلسطيني، كما هي فن قار وراسخ في وجدانه.


تُرقص الدبكة في جميع المناسبات تقريباً، في الأفراح وحفلات الزفاف، وحفلات التخرج والحفلات المدرسية، والاحتفالات الوطنية، والمهرجانات الفنية والثقافية المحلية والعالمية، وبذلك تعد الدبكة من أجمل معالم التراث الحضاري لفلسطين، ومن الآثار الوجدانية المحفوظة في كيانات الأفراد، يحمل هذا الفن خصائص الثقافة الفلسطينية الأصيلة، ووسائل الإنسان الفلسطيني وطرقه في التعبير، لا تندثر هذه الرقصة ولا تتخلف عن الزمن، نراها جديدة جذابة في كل مرة لا تفقد حركاتها القدرة على الإمتاع، وهي رقصة شعبية بحق، أي أنها تصل إلى الجميع، بل إن تأثيرها يمتد إلى الشعوب العربية والأجنبية التي لا توجد الدبكة في ثقافاتها، فيتابعون بشغف هذه الرقصة الناشطة، المفعمة بالشباب والحيوية، والقوة والعنفوان، والابتهاج والمرح.

وإذا كانت ثقافة الأمم هي قوام حياتها، ويتمثل وجودها في العناية بثقافتها وتراثها وهويتها، فإن ذلك كله يضاف إليه في فلسطين على وجه الخصوص، فعل مقاومة ووسيلة من وسائل الدفاع عن الذات الفلسطينية، وعن «أرض البسالة والفتوة، ومهد القداسة والنبوة» كما وصفها الشاعر إبراهيم ناجي، فكل دبكة يدبكها الفلسطيني بأقدام ضاربة في الأرض ورؤوس مرفوعة، وأكف متشابكة وأكتاف متعاضدة، هي صمود في وجه العدوان الصهيوني ومحاولات المحو والطمس، والقتل المعنوي قبل القتل الجسدي، الذي لم تستطع إسرائيل أن تحققه ولن تستطيع، فإنها إن قامت بقتل فلسطينيين، فهي فاشلة أبداً في قتل الروح الفلسطينية.

كما أن لفن الباليه قواعده وأوضاعه الراقصة، وخطواته الأساسية المعروفة بأسمائها ومصطلحاتها الفنية، فإن الدبكة الفلسطينية لها أيضاً حركاتها الراقصة، التي تكوّن في مجموعها رقصة الدبكة، وخطواتها المتعددة بأسمائها المختلفة.

فن مكتمل القواعد

 

كما أن لفن الباليه قواعده وأوضاعه الراقصة، وخطواته الأساسية المعروفة بأسمائها ومصطلحاتها الفنية، فإن الدبكة الفلسطينية لها أيضاً حركاتها الراقصة، التي تكوّن في مجموعها رقصة الدبكة، وخطواتها المتعددة بأسمائها المختلفة. ولكل من هذه الحركات والخطوات التكنيك الخاص، الذي يجب اتباعه من أجل تأديتها على نحو سليم، إلا أن الدبكة لا تأخذ الشكل المسرحي الدرامي، الذي يرتبط بحكاية معينة، تتم روايتها رقصاً بالتعبير الجسدي، فالدبكة أقرب إلى الرقص في شكله القديم جدا، الذي كان مرتبطاً بالطقوس التعبدية، وتواصل الإنسان مع الطبيعة، واحتياجه الإنساني الفطري، للتعبير عن نفسه وعما يمر به ويختبره من مشاعر متنوعة، ومواقف مفرحة أو محزنة، أو أمور تصعب مواجهتها، هكذا هي أصول الدبكة ومنابع نشأتها في الأزمنة الغابرة، وعلى الأرجح أن هذه الرقصة تطورت على مرّ القرون.

والتطور هنا لا يعني التغيير واتخاذ هيئة مختلفة، بقدر ما يعني التطور الفني في حد ذاته، أي التخلص من البدائية واكتمال القواعد والعناصر الفنية، التي تؤهل هذا الفن ليكون فناً بحق، لا مجرد لمحة فولكلورية تشير إلى تاريخ ما، أو تعبر عن ثقافة من ثقافات أهل هذه المنطقة أو تلك، وهذا مطلوب أيضاً ومهم من أجل الحفاظ على ثقافات الشعوب، وإحيائها والعمل على تطوير ما يمكن تطويره منها، لكن الملاحظ أن بعض محاولات إدماج هذه الفنون التراثية الشعبية، في الثقافة المعاصرة قد فشلت في بعض الدول، وظلت في إطارها المتحفي المرتبط بالماضي، وبعادات وتقاليد أهل بعض المناطق، لكن الدبكة الفلسطينية يختلف وضعها تماماً، من حيث قدرتها على الحياة والوجود المستمر، وملاءمتها للكثير من المناسبات الوطنية والشخصية، وعدم شعور المرء بأنها رقصة قديمة خارجة عن العصر، تنتمي إلى الماضي ولا علاقة لها بالحاضر، بل إن جاذبيتها تزيد وتقوى على مرّ الزمن، وكذلك قدرتها على خلق دوائر جديدة من المعجبين بجمالها وفنيتها.

لا يتطلب أداء الدبكة الفلسطينية ارتداء ملابس معينة، فإننا نراها أحياناً تؤدى بالثياب التقليدية الفلسطينية الجميلة، وفي أحيان أخرى نراها تؤدى بالأزياء العصرية العادية. وكثيراً ما يكون الشال الفلسطيني المشهور حاضراً، إما فوق الرؤوس أو حول الأعناق، بما له من رمزية عظيمة وتأثير بصري ووجداني هائل في نفس الناظر إليه. تُرقص الدبكة على خشبات المسارح، وفي القاعات والصالات المغلقة، وكذلك في الساحات العامة والأماكن المفتوحة، وعندما نرى الراقصين المحترفين بأزيائهم التقليدية، نشعر بمدى ارتكاز هذا الفن على المأثور الشعبي الفلسطيني القديم، ثم عندما نرى هذا الفن نفسه يؤديه الشباب والأطفال من أبناء هذا الزمن الحديث بملابسهم العصرية، نلمس مدى حيوية الدبكة وحياتها المستمرة، وانتقالها الدائب عبر الأجيال والأزمان من فلسطيني إلى فلسطيني.

وبقدر ما تحققه الدبكة من متعة وسعادة وترويح عن النفوس، بقدر ما هي ممارسة ثقافية أصيلة فيها الكثير من العراقة، التي تعمل الجماعة على حفظها دائماً، وكأي رقص مكتمل القواعد مستوفي لشروطه الفنية، للدبكة بداية ونهاية ومنتصف قد يحتوي على نقاط الذروة المشتعلة.

يرقص الفلسطينيون رقصتهم الأثيرة بفخر يبدو على وجوههم، وفي مختلف الإيماءات والإشارات الجسدية، ونجد أن وقفة راقص الدبكة والشكل الذي يتخذه الجسد عند تأدية الحركات، يتسم بالشموخ والعز، وتكون الذقن عادة محاذية للأرض بشكل أفقي، والرأس مرفوعة بكبرياء، فراقص الدبكة المحترف لا ينظر إلى الأرض أثناء الرقص ولا يطالع موضع قدميه.

كما أن قائد الرقصة يرفع يده الحرة التي لا تكون متشابكة مع بقية الراقصين، إلى الأعلى بتفاخر وأبهة، وأحياناً يضع الراقص يده على خصره أيضاً بطريقة توحي بالعظمة والزهو، ومن أسرار جمال هذه الرقصة، إنها رقصة جماعية، وكلما زاد عدد الراقصين وكثر، زادت البهجة وتضاعفت المتعة الفنية، وقد يبدأ عدد الراقصين من ستة أفراد، ويزيد إلى أكثر من الضعف، وهي رقصة يؤديها الرجال في الغالب، وتؤديها النساء أيضاً، وأحياناً يجتمع الرجال والنساء في أداء الرقصة الواحدة.

وتعتمد الرقصة على الإيقاع الجماعي، والتزامن الدقيق المنضبط بين خطوات الراقصين، وضربات أقدامهم على الأرض، وذلك الدبيب الحامي والخبطات المنظومة والتنقلات السريعة، وصوت ضربات الأقدام وحده موسيقى لها وقعها الجميل. وللدبكة قائد هو أقرب ما يكون إلى المايسترو، ويكون في أقصى يسار الصف، الذي يتحرك دائماً في اتجاه اليسار ويتبع قائده، وأحياناً ينفصل هذا القائد عن الصف ويتقدمه، ليؤدي بعض الحركات المنفردة، ويؤدي الصف من خلفه الحركات نفسها، وقد تمسك يده اليمنى بعصا أو مسبحة أحياناً.

وبقدر ما تحققه الدبكة من متعة وسعادة وترويح عن النفوس، بقدر ما هي ممارسة ثقافية أصيلة فيها الكثير من العراقة، التي تعمل الجماعة على حفظها دائماً، وكأي رقص مكتمل القواعد مستوفي لشروطه الفنية، للدبكة بداية ونهاية ومنتصف قد يحتوي على نقاط الذروة المشتعلة، خصوصاً عندما تؤدى بحماسة بالغة على وقع الأغنيات الوطنية، التي تشدو باسم فلسطين، وما أعز هذا الاسم على كل قلب عربي، وحتى القلوب غير العربية المتشبثة بإنسانيتها، والتي تختار الانتماء إلى الحق والعدل، فكما قال أحمد حسن الزيات في مجلة «الرسالة» سنة 1938: «إن فلسطين من البلاد العربية بمكان القلب، ومن الأمم الإسلامية بموضع الإحساس، وسيعلم الغافلون أن محنتها سبيل المسلمين إلى التعاطف، وصرختها نداء العرب إلى الوحدة».

تعد الدبكة من الرقصات شديدة التنظيم، ذلك أنها تعتمد على ضبط الإيقاع والتوازن والخطوات المحسوبة بدقة، لكنها رغم انضباطها الشديد، رقصة مفرحة تلتمس لحظات من السعادة، وتؤكد ارتباط الفلسطيني بثقافته وتشبثه بالأمل ومدى حبه للحياة، وتحقق المتعة للمشاهد بما تحتوي عليه من فنية دقيقة، وهو يرى الخطوة تضاف إلى الخطوة، والإيقاع يتصل بالإيقاع، والأحاسيس التي تنضم إلى بعضها كما تنضم الأجساد.

وقد يشعر البعض بأن الدبكة رقصة بسيطة ومعقدة في الوقت نفسه، والتعقيد موجود بطبيعة الحال على مستوى الخطوات، التي تتطلب الدقة التامة والالتزام بالحركة وعدد الخطوات، أما البساطة فتكمن في العفوية التعبيرية النابعة من إبداع الناس، حيث إن هذا الفن ينسب إلى العامة لا إلى الإبداع الفردي.

ومن أشهر الأغاني التي تؤدى الدبكة على وقع أنغامها، أغنيات مثل «هي هي يا فلسطين» و»يا ظريف الطول» و»أنا دمي فلسطيني» بالإضافة إلى الكثير من الأغنيات الأخرى، وبعض هذه الأغنيات يكون تراثياً والبعض الآخر يكون حديثاً عصرياً، وأحياناً تبدأ الرقصة بدخول جميل للراقصين، الراقص تلو الآخر بخطوة إيقاعية معينة، ثم يصطف الراقصون، ويمسك كل منهم بيد الآخر، أو يضع ذراعه فوق كتف الواقف إلى جواره، وتبدأ المتعة.

المصدر: نشر في “القدس

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button