صدر تقرير جديد عن البنك الدولي يسلط الضوء على مفارقة لافتة في المشهد الاقتصادي المغربي، حيث يبدو أن المستثمرين المحليين يميلون أكثر إلى استراتيجيات الربح السريع بدلاً من الانخراط في تطوير القيمة الصناعية والابتكار.
هذا التوجه يعكس عقلانية باردة، لكنها محدودة الأفق، إذ يفضل الكثيرون التركيز على فرص تحقق أرباحاً سريعة، دون الاكتراث بمشاريع طويلة الأمد تساهم في بناء اقتصاد مستدام.
التقرير، الذي جاء تحت عنوان “المغرب في أفق 2040: الاستثمار في الرأسمال اللامادي لتسريع الإقلاع الاقتصادي”، يشير إلى ضعف واضح في مجالات الابتكار والتدويل داخل الاقتصاد المغربي، فعلى مدى العقدين الماضيين، لم يتجاوز عدد الشركات المغربية المصدرة 5300 شركة، بينما تمكنت تركيا، التي تشترك مع المغرب في الكثير من الظروف التنموية، من تحقيق قفزة هائلة بـ 58 ألف شركة مصدرة، و تكشف هذه المقارنة عن فجوة حادة، وكأن المغرب يركض في سباق عالمي لكنه بالكاد يتحرك من نقطة البداية.
من جهته يُرجع التقرير هذا الوضع إلى غياب المنافسة الحقيقية، نتيجة للحواجز الإدارية والضريبية التي تمنح امتيازات غير مستحقة لبعض الفاعلين، مما يؤدي إلى حماية غير صحية تُفقد السوق ديناميته وتعيق الابتكار، فهذه الحماية، التي يُفترض أن تكون دعماً للقطاع الصناعي، تحولت إلى عائق رئيسي يمنع خلق قيمة مضافة حقيقية، ويجعل السوق المحلية أقرب إلى بركة راكدة تفتقد إلى حيوية المنافسة.
ورغم التحفيزات التي تقدمها الحكومة لجذب الاستثمارات في القطاع الصناعي، فإن الإقبال عليه من طرف المستثمرين المغاربة يظل محدوداً بشكل يثير التساؤل. التقرير يفسر ذلك بأن هوامش الربح في الصناعة أقل إغراءً مقارنة بقطاعات أخرى مثل العقارات والخدمات، التي تتيح تحقيق مكاسب أسرع وأكبر. وربما يجد المستثمر المغربي، الذي يفضل اللعب على “الورقة الآمنة”، أن التصنيع يتطلب وقتاً وجهداً لا يتناسبان مع عقليته المتمحورة حول الربح السريع.
على صعيد آخر، يعاني قطاع الصناعة في المغرب من كونه أقل جاذبية، حتى في المجالات التي يفترض أنها الأكثر ديناميكية مثل صناعة السيارات والطيران، حيث يقدم التقرير مثالاً صارخاً على ذلك في مصنع “رونو” بطنجة،الذي يعتمد الإنتاج بنسبة تفوق 90% على موردين أجانب، ما يترك حصة محدودة للغاية للمقاولات المحلية التي تقتصر أنشطتها غالباً على جوانب ثانوية كالنقل والصيانة.
هذه الصورة تعكس واقعاً مؤلماً يضع علامة استفهام حول قدرة المغرب على خلق سلسلة قيمة محلية قوية تساهم في تعزيز اقتصاده الوطني.
فيما تكمن لمفارقة الكبرى في تناقض الخطاب الرسمي، الذي يبشر بنهضة صناعية، مع واقع المستثمرين الذين يفضلون القطاعات المحمية من المنافسة الدولية والتي تمكنهم من تحقيق أرباح عالية من خلال سياسات تسعير مثيرة للجدل.
يبدو الأمر وكأن الجميع ينتظر من الآخر أن يتحرك أولاً، فيما يظل الاقتصاد المغربي في حالة ترقب، عاجزاً عن استغلال إمكانياته الحقيقية.
بين طموح الإقلاع الاقتصادي وعقلية الربح السريع، يبرز تحدي إعادة تشكيل نظرة المستثمر المغربي، ليتجاوز عقلية “الآن وفوراً” نحو رؤية أعمق وأكثر شمولية.
ولكن إلى أن يتحقق ذلك، سيظل المشهد الاقتصادي المغربي أشبه بمنصة مسرحية تقدم الكثير من الوعود، لكن العرض الحقيقي يبقى غائباً.