الرئسيةرأي/ كرونيكميديا وإعلام

التنصيب الذاتي أو صحافة “الفلتر”

الصحافة ستظل جزءا من منفاخ حداد هائل يصنعها جيش منظم ومدرب

يونس مجاهد
يونس مجاهد

أجمعت كل الدراسات والأبحاث، الصادرة عن الباحثين في مختلف تخصصات العلوم الإنسانية والتكنولوجيات الحديثة في التواصل، وكذا تقارير المنظمات الدولية، وتلك العاملة في قطاعات الصحافة والإعلام، أن العمل الصحافي سيتعرض لهزات كبرى، بفعل الانتشار الشامل للأنترنيت ووسائل التواصل الاجتماعي، وبسبب كل ما يحصل الآن من تطورات هائلة في استعمالات الذكاء الاصطناعي.

وتتجلى هذه الهزات في التحولات التي ستعرفها مهنة الصحافة، إذ وجدت نفسها مضطرة إلى اللجوء إلى وسائل التواصل الحديثة، واستخدام كل ما أنتجته الثورة التكنولوجية، حتى تخلق تكاملا بين ما يسمى الصحافة “الكلاسيكية” والصحافة الرقمية. بالإضافة إلى كل هذا، فإن شيوع الأنترنيت وشبكات التواصل شجع الناس على خوض تجربتهم الخاصة في النشر والبث.

غير أن الصحافة لم تتنازل عن مهمتها وتقاليدها، ففي البلدان الأكثر تقدما في تكنولوجيات التواصل الحديثة (نموذج الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وبريطانيا…) لم تمت الصحافة “الكلاسيكية”، بل مازالت مستمرة في الوجود، متحدية كل الصعوبات، لأنها حافظت على كل مقوماتها المهنية، ومن أهم هذه المقومات، أن العمل المهني الاحترافي هو عمل جماعي، ينصهر فيه الصحافي، مهما بلغت كفاءته، في إطار هيأة تحرير، لأن الصحافة مهنة تمارس في غرف الأخبار وصالات التحرير، كعمل مشترك، يحصل فيه تنسيق وتكامل بين رؤساء التحرير والصحافيين والتقنيين…

“الصحافة الفردية” بدعة من بدع العالم الثالث، يختلط فيها المؤثر بالصحافي، وتغلب عليها الهواية، بدل الاحتراف، يمتهنها أشخاص، أحيانا صحافيون، يتصرفون كما لو أن الأمر يتعلق بترويج سلعة من سلع الموضة، لذلك نجد هؤلاء، يلجؤون إلى تقنيات التسويق التجاري، مثل الذي تقوم به بعض الفنانات، اللواتي يستعملن “الفلتر”، وكل تقنيات تجميل الصورة، التي تتيحها وسائل التواصل الحديثة، لترويج صورتهن ومنتوجهن. مع التأكيد هنا أن كبار الفنانين والفنانات في السينما والمسرح والموسيقى، لا يلجؤون إلى هذا النوع من التسويق.

لا يهم هذا النوع من “الصحافة الفردية” إلا أرقام المتابعة، في سباق محموم نحو الشهرة والمال، ومن بين هؤلاء من نصب نفسه زعيما للصحافة والصحافيين.

إن هذا التنصيب الذاتي لا نجده لدى كبار الصحافيين، ولدى المفكرين والسياسيين، الذين مارسوا الصحافة أيضا. فتاريخ المغرب السياسي والصحافي زاخر بأسماء الكبار، لكنهم ظلوا متواضعين، وكتبوا في الصحف، دفاعا عن الوطن وعن الديمقراطية، بشجاعة وكفاءة، في أوقات الشدة الحقيقية، لكنهم لم ينصبوا أنفسهم فوق الآخرين. ونقتبس هنا ما قاله الإمام البوصيري في الذات الإلهية، دون أن نشبه أي أحد بها، “ومن شدة الظهور الخفاء”، أي أن كبار الصحافيين أو السياسيين والمفكرين، الذين مارسوا الصحافة، تركوا أعمالهم تنوب عنهم في الظهور، دون أن يسقطوا في بهتان الزعامة المصطنعة.

إن غواية الشاشة وأوهام الشهرة، لا يمكنها أن تغير وجه الصحافة المغربية، التي مارسها جيل الرواد، وما زال يواصلها جيل من الصحافيين والإعلاميين المغاربة، في تفان وإصرار، رغم كل الصعوبات والتحديات التي يعيشها القطاع، لأنهم محترفون حقيقيون، لا يمارسون التمويه وتزيين الصورة، بل يمارسون الصحافة، في قواعدها وتقاليدها الحقيقية، داخل إطار جماعي، يتكامل فيه الكل، ولا مكان فيه للزعامات الكاذبة.

قالها زعيم البلاشفة الروس، لينين، في كتابه “ما العمل” في بداية القرن الماضي؛ “ستصبح هذه الجريدة جزءا من منفاخ حداد ضخم ينفخ في كل شرارة من شرارات الصراع الطبقي والسخط الشعبي… وحول هذا العمل، الذي يبدو بريئا جدا وصغيرا جدا بحد ذاته، ولكنه منظم وعام، سيتعبأ، بكل معنى الكلمة، جيش نظامي من المقاتلين المحنكين الذين سيجتمعون ويتلقون تدريبهم بشكل منهجي”.

مازال كلام لينين صحيحا، رغم أن الرأسمالية تعيد إنتاج نفسها، وهذه المرة بتقنيات التواصل الحديثة والذكاء الاصطناعي، لكن الصحافة ستظل جزءا من منفاخ حداد هائل، يصنعها جيش منظم ومدرب، وليس تمويها و”فلتر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى