الرئسيةرأي/ كرونيكفكر .. تنوير

جماعة العدل والإحسان ومدونة الأسرة قليلا من حكمة العقل، قليلا من الجرأة! 4/2

بقلم حكيمة ناجي
بقلم الباحثة والناشطة الحقوقية حكيمة ناجي

الملاحظة الثالثة: القيم الإسلامية، القيم الإنسانية: هل من تعارض؟

 “ويقتضي العمل على ترسيخ القيم الإسلامية والإنسانية ضرورة تجديد الرؤى وإحكام التصورات التي تراعي متغيرات الواقع وتحولات المجتمع دون إهدار المقاصد الكبرى، ودون تردد في القبول بفضائل الحكمة الإنسانية وما أثلته من قيم مثلى. كما يقتضي ذلك بناء رؤية متحررة من الكثير من قيود التجربة التاريخية، وقراءة فاحصة وناقدة لاجتهادات من سبقونا في ضوء القيم والمقاصد الكلية للإسلام.”

فكيف تفهم الجماعة هذا الاتصال المبتغى بين القيم الإسلامية والحكمة البشرية والتفاعل مع الواقع الإنساني؟ وما هي هذه المقاصد الكبرى للإسلام التي يخاف هدرها؟ وهل قوامة الرجال على النساء من هذه المقاصد الكبرى؟ الأصل هو الإسلام ومن أجل بلوغ قيمه التي تعلو على كل القيم الأخرى، فالتربية تصبح المفتاح الأساسي للتدرج في تنزيل مبادئ الإسلام وقيمه ومقاصده حفظا للحرية والأمن والعدل والسلم الأهلي والتراحم الإنساني (ص.23).

وقد علمتنا التجربة أن تمثلاتنا للعلاقات الاجتماعية بين النساء والرجال هي المحك الأصيل الذي يكشف حقيقة معنى الكلام وخلفيات الخطاب المستعمل. فإذا أردت معرفة المقصود، فعليك باستعمال مقياس تطبيقه على النساء، كسؤال ما هي قيود التجربة التاريخية الإسلامية بالنسبة لحقوق النساء؟ وأين تتجلى القراءة الفاحصة والناقدة لاجتهادات من سبقونا؟ وإلى أية قيم ومقاصد إسلامية نلجأ؟ وما إلى غير ذلك من الأسئلة حول ما جاءت به الوثيقة السياسية.

يتغيى المشروع العدلي بناء مجتمع العمران الأخوي عوض عمران الصراع، فأي مكانة للأختية به؟ وأن المواطَنة في هذا المجتمع تتأسس على القيم الإسلامية والإنسانية، فما هي هذه القيم؟ أوَ ليست القيم الإنسانية تمتح من منابع كل الحضارات بما فيها المسلمة؟ وما هو المضمون والمعنى الذي تعطيه الجماعة لشعاراتها الثلاثة؟ في السياسة، شعار ” حرية وعدل وحكم المؤسسات”، وفي الاقتصاد والاجتماع، “شعار ” عدالة وتكافل وتنمية مستدامة”، وفي المجتمع، شعار ” كرامة وتضامن وتربية متوازنة“. هذه الأسئلة ستجد القارئة والقارئ أجوبة عنها فيما سيأتي إما بشكل مباشر أو غير مباشر.

الملاحظة الرابعة: حرية المعتقد وحرية التدين بشرط ألا يخل بالأمن الروحي والسلم الأهلي للمجتمع: حرية الخفافيش!

 

“تمكين الإنسان من حقه الفطري والطبيعي في معرفة خالقه والإيمان به والسعي نحو التطلع إلى الفضيلة، مع تمكينه من حرية المعتقد وحرية التدين بما لا يخل بالأمن الروحي والسلم الأهلي للمجتمع، كما يتطلب الحفاظ على الكيانات الجمعية في ظل تموجات العولمة وتحدياتها الجسيمة المهددة باختفاء كل الحدود والحواجز وتهاوي كل المنتظمات التي يقوم عليها الاجتماع الإنساني.”

 إن الحرية من المبادئ الأساسية بالنسبة للتقدم في حقوق النساء، ولذلك يعنينا تمثل الجماعة له بشكل كبير. هذه الفقرة تسجل موقف الجماعة الإيجابي من حرية المعتقد والدين، أي أن تعتقد ما تشاء من المعتقدات، وأن تحمل ما تشاء من الديانات، وهذا أمر جاء به الدستور المغربي جزئيا، إذ نص في الفصل 3 منه على أن ” الإسلام دين الدولة والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية”.  هذه العبارة المبهمة عوضت الصيغة الأولى القريبة من رأي الجماعة، التي قدمتها لجنة إعداد مسودة الدستور سنة 2011، والتي اعترض عليها حزب العدالة والتنمية آنذاك.

يجب أولا أن نسجل أهمية هذا الموقف بالنسبة للسلم الاجتماعي وبناء مجتمع التعدد، وثانيا، أن نؤكد أن النقاش العمومي ببلادنا يتقدم كيفما كانت الأحوال وذلك صمام أمان حرية التعبير واحترام قواعد الفضاء العام.

لماذا التأكيد على هذه المسألة علاقة بحرية التعبير؟ لأننا عشنا فيما سبق حالات التضييق على حرية التعبير ليس من لدن الدولة فحسب، ولكن وأيضا من تعبيرات “مدنية” للإسلام السياسي التي نشرت في بداية التسعينات على الخصوص وامتد ذلك لسنوات، ثقافة التكفير والتخويف التي أثرت بطريقة أو أخرى على حرية التعبير بالخصوص علاقة بالمساواة بين الجنسين، وقد تجلى ذلك في محطتي عريضة المليون توقيع من أجل المساواة التي توجت برفع القداسة عن مدونة الأحوال الشخصية، والثانية مع الخطة الوطنية للتنمية مع بداية الألفية الثانية. أن تعتبر الجماعة حرية المعتقد كمكون للمجتمع الذي تطمح لبنائه، فهذا يعبر عن نضج واحترام لمكونات المجتمع المغربي المتنوعة في بناء رؤية دامجة تتعايش فيها كل الأفكار.

لكن بقي هذا الموقف مبهما عندما تم شرط حرية المعتقد “بما لا يخل بالأمن الروحي والسلم الأهلي للمجتمع”. هل يعني ذلك أن مجرد التعبير عن معتقد ما مخالف للإسلام السني مثلا في الفضاء العام مخلا بالأمن الروحي؟  كما تقول به بعض الحساسيات الأخرى من الإسلام السياسي ببلادنا، كممارسة هذه الحرية في الفضاء الخاص فقط. وفي هذا الموقف حدود رفيعة بين ثقافة محاكم التفتيش، والممارسة الحرة العادية في الفضاء العام، الشرط الأساسي للحرية. وإذا كان الأمر كذلك، ستصبح حرية المعتقد هذه مجرد حرية خفافيش لا تتحرك إلا في الظلام. وفي هذا ابتعاد عن الثقافة المؤسِّسة للمجتمعات الحداثية الديمقراطية.

الملاحظة الخامسة: في المسألة الدينية

 

في المسألة الدينية، ترتكز رؤية الجماعة على أساسين، الأول وهو استبداد السلطة وتغولها مما يحد من مساحة حرية الرأي والتعبير ويساهم في التعتيم على الإمكان الديني في السياسة والاقتصاد، وفي هذا لا تزال الجماعة غير قادرة على بلورة ابتكارا يساهم في رفع التعتيم المفترض؛ والثاني في جمود الفقه وعدم تفاعله مع واقع الناس وحاجياتهم المستجدة، وعلى هذا المستوى أيضا لم تخرج الجماعة علاقة بالنساء من مستوى الشعارات وإعلان المبادئ لم يرق لتفكيك المنظومة الذكورية الثاوية خلف الفقه السائد.

بل قد حددت شروط الاجتهاد في بلاغها حول مقترحات المجلس الأعلى بما لم يرد فيه نص. كما أنها تسعى لسيادة الدين في الحياة العامة أيضا، مع الاعتراف بما “تتقاسمه الإنسانية من وحدة الأصل الإنساني، ووحدة المصير الوجودي…”. وهذه الرؤية تطرح أكثر من سؤال عن الحرية في التفكير والرأي والتعبير في الفضاء العام، وعن حرية الفرد في مثل هذه الرؤية التي تصبح مجردة من حقها في الوجود في الفضاء العام. فتصبح الحرية والحالة هذه في المنطقة الرمادية بين الاستئصال والإدماج. بل التعبيرات العقدية والاعتقادات الفكرية المختلفة عن السائد في الاعتقاد الديني تعتبر انتهاكا للفضاء العام “المشترك”.

وأما مسألة التَّسوُّر على الناس بالمغرب، فهي غير ذات موضوع، لأنها ممنوعة دستوريا، ولا يقبلها المغاربة وقواهم الحية، وليست إلا محاولة للهروب بالنقاش الحقيقي ذي الصلة بالحق في الوجود في الفضاء العام لكل أشكال الاعتقادات الأخرى دون توجس أو خوف.

تصبح عبارات الاجتهاد المعتدل والمنفتح على مختلف التخصصات في حقوق النساء مجرد شعارات فارغة من مضمون يبتغي التقدم نحو المواطنة الكاملة للنساء. وتصبح عبارة تعميم المساجد موازاة مع تعميم المدارس في إطار تكاملي رسالي أكثر من مخيفة لما ترمي إليه من مجتمع ودولة دينيين مهما حاولنا التخفيف بعبارات احترام الاختلاف وحرية المعتقد التي سوف لن يكون بمقدورها تلطيف جبروت الحقيقة الدينية.

الملاحظة السادسة: بين الشورى العتيقة والديمقراطية الجريحة تضيع حقوق النساء

 ما علاقة الشورى بالديمقراطية؟ هل لا يزال مفهوم الشورى قادرا على الجواب عن الإشكالات الحاضرة في عوالم القرن الواحد والعشرين؟ بمعنى آخر، هل استطاع الإسلام السياسي والفكري تطوير هذا المفهوم ليستجيب لحاجيات المجتمعات المسلمة في القرن الواحد والعشرين؟

الجماعة لم تعمل على تعريف الشورى كما تراها في وثيقتها، ربما لأنها اعتبرتها غنية عن التعريف. وهذا لا يتوافق مع ما تطمح له على المستوى الوطني والدولي بالنسبة للدور الجديد للإسلام السياسي.

وفي مطلق الأحوال، فالشورى تدخل في خانة المجاهدة في إبراز معالم الخصوصية الإسلامية بأي ثمن وإن أصبحت متجاوزة وغير مستدركة لأن حياة المجتمعات لا تتوقف حتى تجيب هي عن أسئلتها الجديدة لتتوافق ومتطلبات اليوم وحاجيات المجتمع المغربي كمجتمع عصري يطمح للديمقراطية.  جاء في الصفحة 25 من الوثيقة ما يلي:

 “وكوننا نؤمن بأن الشورى هي روح الحكم وفلسفته في الإسلام، فإننا نؤمن في الآن نفسه بنجاعة الكثير من الآليات الديمقراطية وفاعليتها في تحصين الدولة والمجتمع من نوازع الاستبداد، وتحقيق التداول السلمي على السلطة، وما يرتبط بذلك من فصل بين السلط، ومنع تغول سلطة على أخرى، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإرساء التعددية السياسية، وكفالة الحقوق والحريات، واحترام الدستور والقانون.”

أن تكون الشورى روح الحكم وفلسفته في الإسلام في الماضي، فهذا ما لم يؤكده التاريخ الإسلامي إلا لماما، بمعنى لم تكن القاعدة السياسية المعمول بها. وأما أفقها الفكري والتاريخي فلا يسمح لها بأن تنافس المنهج والنظام الديمقراطي، وما الاحتفاظ بهذا المبدأ ليس إلا من باب المجاهدة للنفس للحفاظ على توازن المرجعية الإسلامية المعتمدة. والاحتفاظ به سوف يفتح الباب للتشويش على الديمقراطية روحا وميكانزمات. لكن الجماعة واعية بهذا ولذلك نرى أن الفقرة السابقة تتكلم عن قدرة الديمقراطية على ضمان تحصين الدولة والمجتمع من نوازع الاستبداد.

وقد يكرس مبدأ الشورى مزيدا من الاستئثار بالقرار في ظل نظامنا السياسي الحالي. لنأخذ المنهجية المعتمدة في ورش المدونة.

يفتح الملك بابا واسعا للمشاورات حول الإصلاح، تبدأ بتشكيل لجنة من مؤسسات دستورية، حكومة، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المجلس العلمي الأعلى، النيابة العامة، المجلس الأعلى للقضاء، يستشار تقريبا الجميع، ثم يختم برأي مجلس ديني قبل تكليف الحكومة على إعداد مسودة مشروع قانون مدونة الأسرة. لتعرض على أنظار البرلمان حتى يضفي عليها صبغة الديمقراطية بعدما أغلق النقاش الحقيقي.

تستعصي فعلا هذه الحالة على التسمية، ففي القضايا النسائية والعلاقات بين الجنسين ببلادنا، يصبح النظام السياسي في مساحة التقاطع بين النظام الأوتوقراطي والتوتاليتاري والثيوقراطي المصبوغ بطبقة رفيعة من الحداثة والديمقراطية تكاد تصبح شفافة. وهذا لعمري يشكل صفعة للحركة النسائية التي وضعت كل بيضها في سلة واحدة إذ فصلت النضال من أجل الديمقراطية وكل القضايا الأخرى العادلة عن نضالها من أجل المساواة بين النساء والرجال. النظام السياسي ببلادنا يعرقل عمل المؤسسات الدستورية ويعوق الديمقراطية والنسائية في آن واحد.

فما هو الإحساس الذي ينتاب البرلماني والبرلمانية عندما يسمع تصريحات تقول بأن ما أصدره المجلس الأعلى من فتاوى غير قابلة للمراجعة؟ ألسنا والحالة هذه بصدد إضفاء  القدسية، التي رفعت عن شخص الملك في دستور 2011، على المجلس العلمي الأعلى؟ وهل البرلمان سوف ينضبط لهذا؟ وإن فعل، أية مشروعية تبقى لكل الهلما الانتخابية والعجعجة الخطابية للديمقراطية؟ وهل سوف ترضى البرلمانيات والبرلمانيون من ذوي الغيرة على التحديث والديمقراطية ببلادنا على الانحصار في خانة الخوض في السفاسف؟ وهل سنرضى بأن يسلب المجلس العلمي الأعلى سلطة أعلى مؤسسة تمثل الإرادة الشعبية؟

أطلق عالم المستقبليات، المهدي المنجرة، على هذا النوع من الأنظمة السياسية مصطلح الذُّلوقراطية. وبما أن هذا التوصيف يدخل في خانة حكم القيمة، فإن الحاجة إلى اجتهاد مصطلحي حقيقي يعكس الدلالة التي تناسبها موضوعيا تطرح نفسها علينا بإلحاح. فهل نائبات ونواب الأمة الغيورين على دمقرطة المغرب دولة ومجتمعا سيرضخون لهذا الجور الثيوقراطي؟

إن الحاجة اليوم لجبهة شعبية واسعة أصبحت ملحة من أجل أن تُحترم سلطات المؤسسات الديمقراطية واستقلاليتها، وأن توسع سلطات المؤسسة التشريعية والتنفيذية مهما كلف قضيتنا النسائية من تأخر، بهدف إخراج قضايا النساء والمساواة بين الجنسين من جور الثيوقراط، وإدخالها حلبة الصراع الديمقراطي.

نقف بالملموس اليوم على مخاطر استعمال الدولة المغربية لمفهوم الشورى المبهم على طريقتها وتحت غطاء دستوري يسمح لها بذلك. أي أن التقدير في اتخاذ القرار يعود في النهاية إلى مؤسسة واحدة، ضربا لكل قواعد الديمقراطية حد الابتذال، بالتحايل عليها وذلك عن طريق تبييض المشورة العتيقة، عبر مرورها بالبرلمان في المرحلة النهائية بعد أن حسم في توجهاتها.

ولهذا فالشورى الرثة لن تنفعنا اليوم مهما مجدناها، كما لن تنفعنا الديمقراطية الجريحة في التقدم.

وحدها الديمقراطية التي تمنح المؤسسات الممثلة للشعب مساحة كبيرة في القرار والفعل، ووحدها ستكرس حرية التعبير وثقافة احترام الاختلاف، واكتساب النساء والرجال قواعد العمل السياسي، وتنمي ثقة الشعب في نخبه وقدرته على العقاب إن أخلوا والمكافئة إن توفقوا…الخ.

 يتبع…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى